قبل أربع سنوات، رحل والدي عن عالمنا، وكانت أمي حينها في السادسة والخمسين من عمرها. مثلها مثل كثيرين/ ات، بدأت حياتها في سن الخمسين، وقررت أن تنحصر في نشاطات محددة مثل الصلاة معظم اليوم، وقراءة القرآن، والاستماع إلى الدروس الدينية، بالإضافة إلى الأعمال المنزلية اليومية المعتادة.
لم أتساءل كثيراً حينها ما هو شعور أمي تجاه هذه الحياة. ربما كنت أتعجب أحياناً وأمتعض أيضاً من رتابة حياتها، وأسأل نفسي: لماذا لا تخرج للعالم وتبدأ تجارب جديدةً أو تعود إلى تجارب كانت مواظبةً عليها مثل الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية التي داومت عليها خلال الثلاثينات؟
قبل وفاة أبي، كنت أرى يومها يدور حوله فقط، وكانت غير راضية كثيراً، لكنها كعادة نساء كثيرات حولي يقمن بهذه الأعمال "ابتغاء مرضاة الله"، ولم أسأل نفسي وقتها: كيف تسير العلاقة الحميمة بينهما، خاصةً أن أبي كان مريضاً منذ سنوات ويشعر باكتئاب وإحباط معظم الوقت؟
رحل أبي، وصارت أمي زاهدةً أكثر بالحياة. أجلس معها كثيراً، وألحظ ما تفعله؛ الأشياء نفسها تقريباً، مع اختلاف وحيد: أصبحت تستيقظ وقتما تشاء.
بدأت أسأل نفسي كيف تشعر الآن في هذا المنزل المنفرد وحدها، خاصةً أنني لا أعيش معها. وسألت نفسي سؤالاً آخر ألح عليَّ لأيام بعد أن أتمت الستين: كيف تنظر أمي إلى الجنس بعد الستين؟ هل تحتاج إليه وتفكر فيه؟ وكيف تُلهي نفسها عنه؟ ألا تفكر في أن تتزوج مرةً أخرى؟
كل هذه الأسئلة غالباً يكون محكوم عليها بالإعدام في حال كانت تطرأ على ذهن المرأة، لأنها ترى الزواج الآن عيباً ولا يصح، فقد مر الكثير من قطار العمر، ولا مجال لأي شيء آخر سوى تكريس البقية للآخرة.
عقول الرجال والنساء بعد الستين
يتداول كثيرون أفكاراً عن رغبة الرجل الجنسية التي لا تتوقف بغض النظر عن عمره. فبمجرد وصوله إلى سن البلوغ، يصبح "ماكينة حيوانات منوية"، وفق ما يُقال، وتكون لدى البعض رغبة جنسية متوحشة، في حين تكون المرأة إجمالاً خجلى من الحديث عن الجنس، وعلاقتها بجسدها تضطرب بمجرد البلوغ حتى تصل إلى درجة الكراهية أحياناً.
هذه الأفكار التي قد تكون نمطيةً، كيف يمكن لها أن تؤثر على عقل الرجال والنساء بعد سن الستين؟
كيف تنظر أمي إلى الجنس بعد الستين؟ هل تحتاج إليه وتفكر فيه؟ وكيف تُلهي نفسها عنه؟ ألا تفكر في أن تتزوج مرةً أخرى؟
تشير الدراسات إلى أن توقف الحيض عند النساء يلعب دوراً في خفض مسألة الرغبة الجنسية، لكن في الوقت نفسه هناك آراء تقول إن الاكتئاب كذلك يؤدي إلى النتيجة نفسها، كما أن زيادة الوزن تؤثر بوضوح على الرغبة، وكذلك الحصول على أدوية معيّنة أو إجراء عمليات جراحية.
وانقطاع الحيض أو الطمث يُعرف في سن اليأس، وكأن الحياة تنهار بعد الأربعين وتصبح المرأة يائسةً لأنها غير قادرة جنسياً أو لا تستطيع إنجاب الأطفال واستكمال مهمة إعمار الكون. لكن بعد قليل من البحث، تبيّن أن سن اليأس في اللغة العربية تُسمّى الإياس، والإياس هو انقطاع الرجاء، والمعنى هنا واضح، فقد انقطع الرجاء في أن تتجدد الخصوبة -عند المرأة طبعاً- والعادة هي أن ترتبط الوصمة بها.
تشير الإحصاءات الصادرة من إحدى الاستفتاءات في الولايات المتحدة، إلى أن البالغين/ ات بعد عمر الستين نشطون/ ات في ممارسة الجنس، إذ إن نسبة 54% من العيّنة تقول إن الرجال والنساء من سن 65 حتى 80، نشطون جنسياً.
ورأى 76% من المشاركين/ ات، أن الجنس مهم كجزء من العلاقة العاطفية في أي مرحلة كانت، إذ وافق 84% من الرجال، أما النساء فكانت نسبتهنّ 69%، بل وصل الأمر إلى أن نسبة 54% من المشاركين رأوا أن الجنس مهم لجودة الحياة عموماً وليس فقط لتحسين العلاقة العاطفية بين الطرفين.
لكن مع وجود هذه النسب، ما زال العلم غير قادر على أن يعرف بالضبط ماذا يحدث لكبار السن على المستوى الجنسي، ففي دراسة صادرة في العام 2017، رأى الباحثون أن نتائج الدراسات يمكن أن تتلخص في عبارات مثل: "صعب تخيّل الأمر"، و"لا توجد رغبة جنسية" و"حياة جنسية عادية وصحية".
وعليه، يمكن القول إن النقاش حول الجنس بين كبار السن بعد الستين أمر مسكوت عنه، فالتحليلات تقول إن رغبة الرجال في الجنس يُصرَّح عنها بوضوح، وإن الرجل في العادة يرغب في جنس أكثر، في حين أن النساء راضيات بالتجربة التي يعشنها.
والمثير للعجب أن الحديث عن قلة الرغبة في الجنس لدى النساء بعد فترة انقطاع الحيض، هو أمر غير دقيق، فقد أثبتت دراسات علمية، أن السن قد تؤثر على الوظائف الجنسية للأنثى، لكنها لا تؤثر على عدد مرات ممارسة النشاط الجنسي لديها، خاصةً إذا تمت معالجة الأمر باستخدام الهرمونات البديلة.
ماذا على أرض الواقع؟
تركز الأبحاث في معظمها على المجتمعات الغربية، سواء الولايات المتحدة أو القارة الأوروبية، مما يولّد لدينا صعوبةً في معرفة الوضع عند الرجال والنساء في الدول العربية.
يتداول كثيرون أفكاراً عن رغبة الرجل الجنسية التي لا تتوقف بغض النظر عن عمره. فبمجرد وصوله إلى سن البلوغ، يصبح "ماكينة حيوانات منوية"، وتكون لدى البعض رغبة جنسية متوحشة، في حين تكون المرأة إجمالاً خجلى من الحديث عن الجنس
والحقيقة أن هناك صعوبةً في الوصول إلى رجال ونساء تجاوزوا/ ن الستين عاماً، للتحدث معهم/ نّ حول الأمر، وكانت ردود الفعل تتراوح بين الخجل والضحك، فقررت العودة إلى والدتي بالرغم من يقيني من أنها لن تحب الحديث في الأمر، لكنها فاجأتني وتحدثت معي من دون قلق أو خجل، وأخبرتني بأنها لم تشعر بأي تغير سواء في الخمسين أو الستين، كما أنها لم تشعر باختلاف في شبابها، كاشفةً أنها كانت تتعجب عندما تشاهد في الأفلام النساء يتحدثن عن رغباتهنّ الجنسية.
شعرتُ في أثناء حديثها بألم لا يوصف، فالأمر يتجاوز العلاقة الجنسية ومنظومة الزواج التي قد تتحول فيها المرأة إلى "معون" يحمل الأجنّة، فأمي وكثيرات مثلها لم يعرفن جسدهنّ، ولم يدركنه، فلا هنّ منتميات إلى الذين يُصنَّفون Asexual، أو لا جنسيين، ولا حصلن على الحدّ الأدنى من اللذة الغريزية، بل صرن نساءً يؤدين مهاماً موكلةً إليهنّ منذ الطفولة حتى يرحلن عن الدنيا.
هل الجنس مفيد في هذه السن؟
إحدى الفوائد التي تقرّها الأبحاث: الإحساس بالسعادة. لكن السعادة ليست واحدةً في شكلها أو مضمونها بين الرجال والنساء. فالرجال يشعرون بسعادة أكبر تجاه ممارسة الجنس، في حين أن النساء يشعرن بالسعادة نتيجة الشعور بالحميمية، وليس الجنس نفسه.
وربما تكون هذه النتيجة تأكيداً على ما تقوله كثيرات من النساء في أعمار مختلفة، من أن المتعة في الجنس ليست هي الهدف بل الشعور بالقرب والحميمية. وربما يمنحنا هذا التفسير فهماً متعمقاً لنفسية امرأة تعيش وحدها بعد الستين، ولا تهتم بالتجربة الجنسية، لكنها قد تبحث عن القرب، لذا قد نجد أن نسباً غير قليلة من الرجال يتزوجون بعد سن الستين، في حين تكون النسب أقل عند النساء، وتقلّ نسبهنّ أكثر مع التقدم في العمر.
التعايش مع الرغبة الجنسية في مجتمعاتنا العربية ليس وليد اللحظة، لكنه نتيجة لتراكم عادات وتقاليد ممتدة، وثقافة تقمع التعبير عن الغريزة واللذة، خاصةً لو كان التعبير صادراً من امرأة
الجنس في هذه السن يحسّن رطوبة أعضاء الجسد التي تقل أحياناً مع التقدّم في العمر، لذا تشير الدراسات إلى أن ممارسة الجنس قد تساعد على رطوبة المهبل عند المرأة، وكلما زادت ممارسة الجنس كلما قل الإحساس بالألم.
كذلك يحسّن الجنس من الصحة العقلية والقدرات الإدراكية لدى الرجال والنساء وفق دراسة نُشرت في إنكلترا في العام 2019، إذ تتحسن الذاكرة والقدرة على التعبير بالكلمات.
إن التعايش مع الرغبة الجنسية في مجتمعاتنا العربية ليس وليد اللحظة، لكنه نتيجة لتراكم عادات وتقاليد ممتدة، وثقافة تقمع التعبير عن الغريزة واللذة، خاصةً لو كان التعبير صادراً من امرأة، وتصبح سنوات العمر التي تمر كقوالب الطوب المتشابهة، لا تغيير فيها سوى رفع نسبة الكبت والخوف.
وهنا نستذكر كلمات الراحلة نوال السعداوي، من كتابها "المرأة والجنس"، عندما نوّهت بأهمية التغيير المجتمعي المرتكز على "تربية جديدة ترتكز على المساواة الكاملة بين المرأة والرجل في جميع مراحل العمر منذ الولادة حتى الممات، مساواة في الحقوق والواجبات خارج البيت وداخله وفي تربية الأطفال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...