شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
صفحة من كتاب

صفحة من كتاب "إلغاء الديمقراطيّة البيضاء" لـجويل أولسون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 11 يناير 202301:19 م

الديمقراطية الإلغائية

كنت في سيارتي أقود على الطريق السريع، وحين توقفتُ عند إحدى الإشارات الحمراء، توقفت إلى جانبي سيارة أخرى. كان السائق رجلاً أبيض، وفي المقعد المجاور له، في الجهة القريبة مني، جلس رجلٌ أبيض. «مالكولم إكس!» هتف الرجل، وحين نظرت إليه، مدّ يده من سيارته نحوي مبتسماً، وقال: «هل تمانع أن تصافح رجلاً أبيض؟». تخيّل ذلك! وحين تحوّلت إشارة المرور إلى اللون الأخضر، قلت له: «لا أمانع أن أصافح البشر، فهل أنت واحدٌ منهم؟».

 مالكولم إكس، سيرة ذاتية

...

إحدى أعظم القصص عن مالكولم إكس، هي: كيف تغيرت نظرته إلى البيض بعد حجّه إلى مكة. ففي أثناء أدائه الحج في عام 1964،  شاهد أشخاصاً من مختلف الألوان يعيشون، ويعبدون الله، وهم متساوون، ما جعله يكتب في دفتر مذكراته: أن «البيض لا يبدون بيضاً». أدرك حينئذٍ: أن من الممكن حقاً أن يوجد «بيضٌ» طيبون. وفي النتيجة، سرعان ما تخلّى عن التحامل الذي كان يحمله ضد البيض حين أصبح الناطق باسم جماعة ‘أمة الإسلام’. ثم، متحرراً من حقده، بدأ يحكم على الناس بناءً على ما يفعلونه ويقولونه لا بناءً على أصولهم.

ليست تلك بأية حال من الأحوال الحكاية التي ألهمت طابع البريد. يبدو أن مصادفة لقاء راكبي الدراجات النارية البيض قد أكّدت إعادة الولادة، هذه التي حوّلته من شخصٍ عنصريٍّ إلى بطلٍ من أبطال الحقوق المدنية. لكن، هناك طريقة أخرى لتفسير هذه المواجهة، لقد مرّ مالكولم إكس بالتأكيد بتغيّرٍ استثنائيّ في آخر خمسة عشر شهراً من حياته. لكنه ظلّ خلال ذلك كلّه ضد-أبيض؛ فعلى سبيل المثال: وجد تحليلٌ لمحتوى خطاباته أنّ ما يزيد على ثمانين في المئة من إشاراته إلى البيض كانت ماتزال سلبية، رغم أنه بدأ بتقديم تأكيدات إيجابية عن البيض بعد حجّه. استمر في نقده الشديد للبيض نتيجة مشاركتهم في اضطهاد السود، ولم يصل إلّا إلى نقطة التسليم بإمكانية أن يكونوا غير عنصريين عنصرية متأصّلة فيهم. وكما عبّر عن الأمر: «أنا لم أتغير، كلّ ما في الأمر أنني أرى الأمور بمنظورٍ أوسع».

تخلّى مالكولم إكس عن اقتناعه بأنّ البيض شياطين بالطبيعة، وتوصّل إلى الاقتناع بأنّ البيض يمكن أن يصبحوا بشراً. وانتقل البياض من أنه شيءٌ يكون المرء عليه إلى شيءٍ يفعله. لكن هذا يطرح سؤالاً: إذا توقّف البيض عن التصرف كالشياطين، وبدأوا بالتصرف كالبشر، فهل يبقون بيضاً؟ لم يملك مالكولم لغة الإنشاء الاجتماعي لمساعدته في التمييز بين فئة العرق السياسية والخصائص الجسدية مثل لون البشرة أو الشعر، الذي ليس بحاجة لأن يتحوّل من أجعد إلى سابل. لكن مواجهته مع راكبي الدراجات البيض تشير إلى أنه لو امتلك تلك اللغة، لكان من المحتمل جداً أن يأتي الجواب: لا. بعد الحج، ابتعد مالكولم إكس عن وصف الاضطهاد العرقي بأنه مؤامرة بين البيض من أجل نظام يقوم على السيادة البيضاء. هؤلاء الراضين بالنظام (ضمنياً أو صراحةً) يبقون شياطين في كل شيءٍ سوى الاسم، بينما أولئك الذين يقاومونه هم بشرٌ يستحقون المصافحة. إنّ التحدي السياسي الذي يطرحه مالكولم مع مصافحته، هو: كيفية تحوّل «البيضَ» إلى بشر. والعملية التي يصير بها المرءُ إنساناً، كما يرى، تتضمن ألّا يصير أبيض.

"يصدر قريباً كتاب "إلغاء الديمقراطيّة البيضاء" لجويل أولسون عن دار أطلس للنشر والتوزيع، الذي يناقش مفهوم المواطنة الأمريكية وتاريخه القائم على العبودية واستغلال الطبقات"

في هذا الفصل الأخير، أدرس مضامين نظريةٍ سياسيةٍ تهدف إلى إلغاء المواطنة البيضاء. وأستعير تعبيراً من دو بويز؛ لأطلق على تلك السياسة الديمقراطية الإلغائية. والديمقراطية الإلغائية، التي تعود جذورها إلى روح إلغائيي القرن التاسع عشر، هي سياسةٌ ملتزمةٌ بتوسيع الحرية عبر انحلال البياض. وغايتها، على خطى مالكولم، هي جعل المواطنين البيض بشراً بإزالة امتيازاتهم العرقية. والديمقراطية الإلغائية تستفيد من عناصر طوباوية في الفكر السياسي الراديكالي الأسود في سعيها إلى مواجهة مركز البياض وامتيازاته مباشرة، وذلك من أجل تقويض التمييز العرقي وتوسيع المشاركة الديمقراطية في آن واحد. ومثلما مهّدت الحركة الإلغائية الأصلية الطريق للموجة النسوية الأولى، وبشّرت إعادة الإعمار بظهور الطبقة العاملة المنظمة، وخلقت حركة الحقوق المدنية فضاء سياسياً للحركة النسوية وحركة المثليين والمثليات وحركة الأمريكيين المكسيكيين وغيرها من الحركات، فإن إلغاء المواطنة البيضاء تخلق إمكانية توسيع الخيال الديمقراطي الأمريكي؛ ليتجاوز حدود الليبرالية.

نظرة أخرى إلى الخيال الأبيض

لقد ناقشت في هذا الكتاب: أن الديمقراطية البيضاء لم تخرق مُثُل المساواة والحرية والمواطنة الأمريكية بقدر ما شكّلتها. ورأيت في الفصل الثاني، على سبيل المثال: أن البيض في حقبة هيرنفولك رفضوا «المساواة الاجتماعية»؛ لأن التعبير تضمّن المساواة في المكانة العرقية بقدر ما فعل مع المساواة في الثروة. وقد أسهم ذلك في تصوّرٍ للمساواة يقتصر على الحقوق السياسية وتكافؤ الفرص. إنّ برنامجاً مثل برنامج الرفاه مشبوهٌ سياسياً في الخيال الأبيض؛ لأن إعادة توزيع الثروة إلى «أشخاصٍ غير مستحقين» وأشخاصٍ سودٍ (وهو تمييز لا يزعج الكثير من البيض أنفسهم بإجرائه)، تبدو «صَدَقةً» غير عادلة تخرق المقدمات التي يقوم عليها الجهد الفردي والفرصة الفردية.  ومن هذا، فالمواطنة البيضاء لم تحجز التساوي في الحقوق وتكافؤ الفرص للبيض على وجه الخصوص فحسب، بل وأسهمت أيضاً في تقديم فهمٍ ضيقٍ للمساواة، يتصوّر أن المساواة الاجتماعية غير شرعية.

البياض أيضاً يضيّق معنى الحرية. فكما يلاحظ ديفيد رويديغر، يميل تصوّرٌ دائمٌ للمواطنة إلى وضع المطالب السلبية في أغلبها على الحيّز العام؛ لأن الحرية تتضمن تمييز المرء لذاته عن الوضع المنحط، أكثر مما تتضمن المشاركة في تلك الشؤون التي تؤثر في حياة المرء اليومية. ولذلك، حتى الأشكال الأدنى من مشاركة المواطنين تكفي لمنح المكانة. وبناءً عليه، فالحقوق «السلبية» التي تحمي مركز المرء وممتلكاته، تصبح أهم من الحريات «الإيجابية»، كالمشاركة الفعلية في السياسة أو الحق في الشروط المسبقة لتلك المشاركة (الغذاء، والمأوى، والرعاية الصحية، والتعليم، ووقت الراحة الكافي). الحرية في الخيال الأبيض شيءٌ تحوزه، لا نشاطٌ تمارسه. وهذا التصوّر السلبي للحرية يميل إلى الإبقاء على نظرة عالمية عن أشخاص مُذرّرين يبحثون عن المركز، ويرون في الآخرين تهديداً للحرية الفردية لا شرطاً لها. وفي النتيجة: تصبح المواطنةُ هويةً تدّعي حيازة سلطةٍ سياسيةٍ مهمةٍ، لكنها غير ميالة عموماً إلى استخدامها، ولا سيّما لتحدي التفاوتات البنيوية في صميم النظام الرأسمالي الليبرالي.

تركت المواطنة البيضاء علامةً طويلةَ الأثر على الخيال الديمقراطي الأمريكي. والمشكلة الديمقراطية للمواطن الأبيض ليست فقط في أنّ له مصلحةً ماديةً باستبعاد غير البيض من كامل ثمرات الديمقراطية، بل في أنّ وجوده ذاته يؤبّد تصوراً معاقاً عن الديمقراطية

بالطبع، الامتياز الأبيض ليس عامل التأثير الوحيد في المُثُل السياسية الأمريكية. فالجمهوريانية (republicanism) والليبرالية الكلاسيكيتان ومُثُل التنوير والقانون العام الإنكليزي والفكر البيوريتاني ونضالات السود من أجل الحرية وتأثيرات أخرى، كلها لعبت أدواراً في تشكيل التقليد الديمقراطي الأمريكي. علاوة على ذلك، فإنّ تصوراً سلبياً عن الحرية وتصوراً صورياً عن المساواة يمثّلان دمغةً للّيبرالية غير العرقية بالإضافة إلى الديمقراطية البيضاء. وعلى أية حال، قامت مُثُل الاستقلالية الفردية وتكافؤ الفرص في الولايات المتحدة على أساس خضوع السود وامتيازات البيض، وهي متشابكة جداً حتى لا يمكن فصل بعضها عن بعض بسهولة.

وبهذا، فقد تركت المواطنة البيضاء علامةً طويلةَ الأثر على الخيال الديمقراطي الأمريكي. والمشكلة الديمقراطية للمواطن الأبيض ليست فقط في أنّ له مصلحةً ماديةً باستبعاد غير البيض من كامل ثمرات الديمقراطية، بل في أنّ وجوده ذاته يؤبّد تصوراً معاقاً عن الديمقراطية. الخيال الأبيض إقصائيّ: فهو لا يريد أن يسمح لأعضاء جددٍ بدخول الكيان السياسي، من الهنود الأمريكيين إلى العبيد السابقين إلى المهاجرين المكسيكيين إلى المجرمين المحكومين. وهو يروّج لتصوّرٍ سلبي عن الحرية: الفردُ حرٌّ إلى الحدّ الذي لا يتدخّل الآخرون في شؤونه. وهو يشدّد على المكانة: غاية الديمقراطية هي تحقيق مركزٍ معيّنٍ والتمسّك به، أكثر مما هي المشاركة في تلك الشؤون التي تؤثر في حياة المرء اليومية.

 الخيال الأبيض إقصائيّ: فهو لا يريد أن يسمح لأعضاء جددٍ بدخول الكيان السياسي، من الهنود الأمريكيين إلى العبيد السابقين إلى المهاجرين المكسيكيين إلى المجرمين المحكومين

وهو شحيحٌ: ينظر بعين الشكّ إلى البرامج الاجتماعية التي تؤمّن الشروط المسبقة للمشاركة، مثل الرعاية الصحية العامة ومستوى المعيشة اللائق والتعليم الجيد. وهو يميل إلى عدم مساءلة الملكية الخاصة والتفاوتات في الثروة. ويركّز على النجاح الفردي لا على التضامن الطبقي: الهدف هو أن يهزم المرءُ منافسيه في السوق لا أن يواجهَ الاستغلال. وربما الجانب الأكثر مكراً في الخيال الأبيض، هو افتراضه: أن نظام الحقوق والتمثيل الذي أقامته حقبتا هيرنفولك وما بعد الحقوق المدنية هو أعلى شكلٍ سياسيٍّ يمكن إحرازه. ويفترضُ أن المواطن الأبيض حرٌّ، في حين أن طبيعة حريته هي بالضبط ما يجب وضعه موضع السؤال. وبهذه الطرق، يحتفظ الخيال الأبيض بتصوّرٍ ضيّقٍ عن الديمقراطية يعيق الرؤى الأكثر توسّعاً وتشاركيةً.

...

الغلاف الخلفي للكتاب

قد يكون أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند سماع كلمتي "ديمقراطية" و"عبودية"، أو "ديمقراطية" و"فصل عنصري"، هو أنهما أمران متنافيان، لا يعيشان معاً. لكنّ التجربة التاريخية تقول: إن المؤسستين، الديمقراطية والعبودية، قد عاشتا معاً فترة زمنية طويلة في بلدان عديدة، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية التي يركّز هذا الكتاب على تجربتها في هذا المجال. أما السؤال الذي يأتي بعد ذلك، فهو: أية ديمقراطية هي تلك التي تتعايش مع العبودية؟ وما هي المعايير التي تجعل أشخاصاً ضمن الديمقراطية وأشخاصاً آخرين خارج الديمقراطية، أو داخل العبودية أو خارجها؟ وقد يأتي الجوابُ: أنّ من يُعد مواطناً يُشمل في مظلة الديمقراطية، ومن لا يُعد مواطناً لا يشمل. وهذا يقود إلى سؤال آخر: من هو المواطن؟ وما الذي يحدّد إن كان هذا الإنسان مواطناً أو لا؟ أهو العرق والإثنية أم الوضع الاقتصادي أم أشياء أخرى؟ والسؤال يدفع إلى سؤالٍ آخر: ما هو العرق؟ أهو مسألة بيولوجية صرف؟ أهو لون البشرة؟ أهو علاقة ضمن نسقٍ اجتماعي-اقتصادي ما؟ أهو سؤالٌ يتعلّق بالهوية والمكانة؟ أهو سؤال يتعلق بالفرد أم بالجماعة؟ -عبدالله فاضل

أعتقد أن هذا الكتاب إضافةٌ مهمّةٌ، وأنه يأتي في وقته تماماً، في هذه الفترة من التاريخ التي تطرح على مجتمعاتٍ كثيرةٍ، ومنها مجتمعنا، أسئلة الهوية والمواطنة والانتماء والديمقراطية والتعددية والمشاركة- د. باسيليوس زينو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة يورك، كندا.

...

جويل أولسون: ولد في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1967، حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية. وبعد ذلك انخرط في العمل الأكاديمي أستاذاً ومحاضراً، وقد شمل عمله الأكاديمي ميادين متعددة لها علاقة بالنظرية السياسية: من الديمقراطية إلى التعددية، والمشاركة، والمواطنة، وتاريخ العبودية، والنضال من أجل إلغاء العبودية، والنظم السياسية المقارنة، والماركسية، والفكر السياسي الحديث، وغير ذلك. إضافة إلى ذلك، انشغل جويل أولسون بكتابة الكتب والمقالات ذات الصلة بميادين عمله الفكري. لكنه كان أيضاً ناشطاً مع الجماعات القاعدية؛ وبذلك كانت مسيرة حياته المهنية مزيجاً من العمل الأكاديمي والقاعدي، ما منح أفكاره حيويةً خاصةً وتقديراً كبيراً.

توفي جويل أولسون في عام 2012 في المملكة المتحدة، ولم يكن قد تجاوز الرابعة والأربعين من العمر، وربما كان في جعبته الكثير ليقدمه، ولم يسعفه الوقت.

...

عبدالله فاضل: مترجم سوري. مواليد ١٩٦٧. يحمل إجازة في الاقتصاد من جامعة دمشق. وماجستير في الترجمة التحريرية من المعهد العالي للترجمة والترجمة الفورية. ترجم من الإنكليزية إلى العربية عدداً من الكتب، منها: رواية "الخروج إلى الهواء الطلق" لجورج أورويل، كتاب "اللغز الأنثوي" لبيتي فريدان، كتاب "المرأة المخصية" لجيرمين جرير وكتاب "نحو نظرية نسوية في الدولة" لكاترين ماكينون. له أيضاً ترجمات مشتركة مع عدد من المترجمين والمترجمات. كذلك قام بتدقيق ترجمة مجموعة من الكتب. وله أيضاً ترجمات مشتركة وفردية إلى اللغة الإنكليزية.

....

جميع الحقوق محفوظة لدار أطلس للنشر والتوزيع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image