انتشرت في الآونة الأخيرة، صفحات من رواية "يوتوبيا" لأحمد خالد توفيق، التي نشرها الراحل في عام 2008، يتحدث فيها عن لجوء المصريين إلى "أرجل الفراخ" ووصول الدولار إلى 30 جنيهاً.
يأتي ذلك في ظل ارتفاع حقيقي لسعر الدولار، الذي قفز من 15.6 جنيهاً في بداية العام الماضي، ليصبح 25.6 جنيهاً مع مطلع العام الجاري، ويتوقع اقتصاديون أن يصل إلى 30 جنيهاً في الربع الأول من العام، وهو ما يمهّد له عدد من الإعلاميين المحسوبين على النظام المصري.
وكذلك نشر المعهد القومي للتغذية عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي، معلومات عن البدائل الغذائية الاقتصادية الغنية بالبروتين، والتي كان على رأسها "أرجل الدجاج"، نصح فيها المواطنين بتناولها، وهو ما اعتبره البعض إهانة جديدة، في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل غير مسبوق في مصر.
من بين روايات وسلاسل كثيرة للراحل، تحظى تلك الرواية تحديداً بهالة النبوءة، خاصة مع تسارع وتيرة التغيير المنذر والمخيف للأوضاع الاجتماعية في عهد النظام الحالي، وتحديداً إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، التي تُبنى في ظل تخلٍّ واضح عن القاهرة القديمة، وتغيير لهويتها وملامحها، بل إن عدداً كبيراً من المشاريع الإنشائية والكباري يبدو أن هدفه الأهم هو إنشاء شبكة طرق تخدم العاصمة الإدارية الجديدة، أكثر من خدمتها للقاهرة، وهو ما يتفق مع حبكة الرواية التي تدور عن مصر عام 2023، المقسّمة إلى طبقتين، الأولى بالغة الثراء والرفاهية، تعيش في "يوتوبيا"، المدينة المحاطة بسور ويحرسها جنود المارينز الأمريكي والتي تقع في الساحل الشمالي، والثانية تعيش في فقر مدقع داخل عشوائيات تتقاتل من أجل الطعام.
نشر المعهد القومي للتغذية عبر صفحته الرسمية، معلومات عن البدائل الغذائية الاقتصادية الغنية بالبروتين، والتي كان على رأسها "أرجل الدجاج"، نصح فيها المواطنين بتناولها، وهو ما اعتبره البعض إهانة جديدة للشعب المصري
بالطبع لا يكتفي محبو العراب بإضافة المزيد من الأساطير التي لا تقبل النقاش حول الرجل، حتى أنهم أضافوا سطراً لا يوجد في الرواية وربما لم يقله في حياته، تعليقاً على بناء العاصمة الإدارية: "سيتركون العاصمة القديمة لتحترق بأهلها وتندثر ظلماً وفقراً ومرضاً، وسيذهبون إلى عاصمتهم الجديدة حتى لا تتأذى أعينهم بذلك الدمار".
وليست المرة الأولى التي تستعاد فيها تلك الرواية، كنبوءة للأحداث. بعد ثورة يناير حدث الشيء نفسه.
قرأت الرواية أصلاً قبل أربع سنوات، بدافع الفضول حول ما كتبه الرجل، وهي رواية متوسطة المستوى من وجهة نظري، لكنها بالتأكيد كانت عملاً جريئاً وقت صدوره، خاصة أنها كتبت في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وهي من أقوى ما قدم في نقده من خلال الأدب، وهو ما يحسب لأحمد خالد توفيق الذي لم يأخذ مسار زميله كاتب الخيال العلمي وأدب الجاسوسية نبيل فاروق، الذي كان مرتبطاً بالنظام المصري، وخاصة جهاز المخابرات، وهو صاحب "النبوءة المضادة" في سلسلته "ملف المستقبل" التي صارت محل سخرية الآن: أن مصر في مطلع الألفية ستتحول إلى قوّة عظمى، بينما ستتحول أمريكا وأوروبا إلى دول أضعف.
في عهد مبارك كان الدولار بخمسة جنيهات ونصف فقط، لكن ذلك لا يعني أن الراحل قد تنبأ بشيء، هو فقط كان يرصد ما كان يُكتب من تقارير وأخبار وتحليلات في عهد الرئيس، وكان الفقراء من المصريين بالفعل يأكلون أرجل الدجاج، وزادت أعداد الأثرياء بشكل كبير في مقابل تآكل الطبقة الوسطى وزيادة الفقر بنسب كبيرة، وكانت السياسات الاقتصادية التي تمارسها طبقة رجال الأعمال المقربة من نظام مبارك ونجليه جمال وعلاء، والذي يترحّم عليه المصريون الآن، تسيطر على المشهد الاقتصادي والسياسي، بشكل كان يرفع من نسب التضخم، ولم يكن سيؤدي إلا لما يحدث الآن من وصول الدولار إلى هذا الرقم غير المسبوق، وشهد الجنيه المصري وقتها معدلات هبوط قياسية أمام العملات الرئيسية. ووفقاً للتقديرات الدولية، فإن نسبة المصريين الذين يعيشون دون خط الفقر وصلت في عهد مبارك إلى 30%، حسب بيانات رسمية.
ما قامت ثورة يناير ضده، ما كتبت ضده ورصدته "يوتوبيا" لأحمد خالد توفيق، هو ما كان سيحدث لو استمرّ مبارك في الحكم أو ورّث نجله جمال، كان الدولار سيصل إلى ذلك السعر، والضغط على الطبقة الوسطى ودفع المصريين إلى ما تحت خط الفقر كان سيزداد
وأصبحت طبقة من رجال الأعمال المقربة من نظام مبارك تسيطر فعلياً، ليس فقط على المشهد الاقتصادي، بل أيضاً على المشهد السياسي، أو ما بات يعرف بظاهرة "المال السياسي"، ومنهم رجل الأعمال أحمد عز، الذي لُقِّب وقتها بإمبراطور الحديد بسبب سيطرته على صناعة وتجارة الحديد في ذلك الوقت.
"يوتوبيا" هي ببساطة، كشأن أعمال الراحل، تلتقط كل ما يكون شائعاً ومعروفاً ثم تعيد كتابته، وأكرّر أن هذا أمر يُحسب له، ففي ظل مزايا كان بإمكانه الحصول عليها في عهد مبارك، بسبب شعبيته، قرّر أن يقول الحقيقة.
لكن المؤسف في شأن تبني فكرة النبوءة، أنها تنزع الهدف الحقيقي للرواية، من كونها انتقاداً كبيراً لنظام مبارك، الشريك الأساسي في تجريف الدولة المصرية وتسليمها إلى نظام حوّل التوقعات والنذر إلى حقيقة في سنوات قليلة.
ما قامت ثورة يناير ضده، ما كتبت ضده ورصدته "يوتوبيا"، هو ما كان سيحدث لو استمرّ مبارك في الحكم أو ورّث نجله جمال، كان الدولار سيصل إلى ذلك السعر، والضغط على الطبقة الوسطى ودفع المصريين إلى ما تحت خط الفقر كان سيزداد. كانت نذر ذلك التحول واضحة للجميع منذ ظهور جمال مبارك بسياساته النيو ليبرالية وأصدقائه من رجال الأعمال، ما لم يكن متوقعاً من النظام الحالي هو أن يتبنى تلك السياسات بوتيرة قاسية متسارعة لا تعرف الرحمة، ومن خلال قبضة أمنية لا تقبل المعارضة.
مبارك ونجلاه مجرمون حقيقيون، لم يعاقبوا للأسف، وشركاء رئيسيون فيما يحدث الآن، وإن كانت الدولة قد سمحت بإسقاطهم، فقد كانت خطة إنقاذ للجسد باستبدال الرأس.
رغم كل شيء، أترحّم على أحمد خالد توفيق، الذي انحاز لضميره، وكذلك أتذكر لما قامت تلك الثورة، وأي أسى خلفه الانقلاب عليها، وكذلك أذكر أن النظام الحالي لم يبرّ بوعده للمصريين، بل انقلب على كل الوعود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...