تعد عمامو في عداد أبرز المؤرخين الذين اهتموا بالدراسات التاريخيّة النقديّة المتخصّصة في فترة الإسلام المبكر، ولها في هذا المجال جملة من المؤلفات، منها السلطة وهاجس الشرعيّة في صدر الإسلام وأصحاب محمد ودورهم في نشأة الإسلام (1996)، وأسلمة بلاد المغرب: إسلام التأسيس من الفتوحات إلى ظهور النحل (2001)، وتصنيف القدامى في السيرة النبوة (1997). إضافة إلى مقالاتها ذات الصلة بالتاريخ الإسلامي المبكر مثل: "المفاوضات بين النبي محمد وأهل يثرب والهجرة من مكّة إلى المدينة" (2001).
حاورنا حياة عمامو حول الجزء الأول حول الإسلام المبكر باعتباره اختصاصها العلمي. وفي ما يلي نص الحوار.
تجمع الروايات على أن الإسلام المبكر هو الفترة الورديّة، إن صح التعبير، في التاريخ الاسلامي، وقد تناولت تلك الفترة بالدرس. فماذا استخلصت؟ هل كانت فعلاً أفضل الفترات؟
لا أعتقد في أفضل وأرذل الفترات، التاريخ كله تاريخ، بقي أننا نفرق بين ما يرسخ في الضمير الجمعي للناس، للمسلمين، وبين ما وقع فعلاً أو ما نريد كتابته الآن. ما رسخ في الضمير الجمعي للمسلمين أو في مخيالهم الشعبي هو أن فترة الإسلام المبكر هي أفضل الفترات وأسموها لاحقاً الخلافة الراشدة أو الخلفاء الراشدين إذ اعتبروهم أكثر الناس رشداً في تسيير أمور الحكم. ولكن إذا ما ارتأينا هذه الصورة من ناحية البحث العلمي فإن الأمر مختلف جداً، أولاً الخلافة الراشدة لم تمثل خلافة مثلما رسخ في الأذهان بل تمثل فترة انتقاليّة بين سيطرة القبيلة وبين قيام الدولة الذي سيحدث مع الأمويين.
لا أعتقد في أفضل وأرذل الفترات، التاريخ كله تاريخ، بقي أننا نفرق بين ما يرسخ في الضمير الجمعي للناس، للمسلمين، وبين ما وقع فعلاً أو ما نريد كتابته الآن... لقاء مع المؤرخة التونسية حياة عمامو
هذه الفترة نجد فيها ما هو قبلي مختلط بما هو سلطة تكاد تكون مقدسة، لم تصبح مقدسة بعد لأن كلمة خلافة لا نجد مضمونها في القرآن على أساس أنها ستكون سلطة تخلف الرسول، ولهذا حدث الكثير من الصراعات حول من سيخلف الرسول، هل هو علي بن أبي طالب بحكم القرابة الدموية؟ هل هو شخص آخر مثل أبي بكر أو عمر بوصفهما بعيدين من ناحية الانتماء ولكنهما من كبار الصحابة؟ كل هذا الجدل يأتي في نطاق أن النبوّة لا تورّث ولا الوحي ولا السلطة، ولذلك كان على المسلمين أن يتدبّروا أمرهم. وبما أنهم ما زالوا حديثي العهد بوجود بعض ملامح تكوّن الدولة مثل الجيش والتصرف في غنائم الحرب، فعندما توفي الرسول وساد القول بأن النبوّة لا تورّث والشيء نفسه بالنسبة إلى سلطته لأنها مستمدة من النبوّة، وتولى أبو بكر الخلافة لأنه يجمع معايير ما قبل إسلامية ومعايير إسلامية.
"الاضطهاد الذي سلّطه أسياد قريش على الذين دخلوا الإسلام أولاً لم يصل أبداً إلى حد القتل لأن سفك دماء القرشيين كان حراماً، لذلك لم نسجل في مكّة أي حادثة سُفك فيها دم" حياة عمامو
ما قبل إسلاميّة تتمثل في أنه كان أكبرهم سناً، والعرب معروفون بأنهم لا يسيّدون على أنفسهم إلاّ الشيوخ وتسمّيهم المصادر ذوي الأسنان وهم ذوو السلطة والنفوذ. ولعل هذا ما جعل أبناءهم والكثير من صغار القرشيين من أبناء الأثرياء يدخلون الإسلام نظراً إلى غطرسة أبائهم في تسيير كل ما يهمّ القبيلة وإبعادهم بوصفهم صغار السن. أما بالنسبة إلى المعايير الإسلاميّة فإن أبو بكر خلافاً لما تروّج له الروايات الإسلاميّة من أنه صلى بالمسلمين عندما كان الرسول مريضاً وأن القرآن قد ذكره، فهو أفضل من أسلم أو الأفضل إسلاماً. فأبو بكر هو الوحيد في ذلك الزمن الذي تجتمع فيه معايير الشرف الما قبل إسلامي مع معايير الشرف الإسلامي. زد على ذلك، أنه لم يكن قريباً قرابة لصيقة بالرسول فهو لا ينتمي إلى بني هاشم قوم النبي ولا إلى بن عبد شمس الذين يجمعهم مع بني هاشم عبد مناف، إذ كان ينتمي إلى طبقة أخرى من العشائر التي تقترب إلى المؤسس الأول فهر.
بالنسبة إلى الروايات والمصادر، لماذا نزع العديد من الدارسين خصوصاً المستشرقين الموثوقية عن المصادر الأولى للتاريخ الإسلامي المبكر وشكك عدد كبير في صدقيتها؟
المناهج التاريخيّة هي مناهج غربيّة تأسست منذ القرن التاسع عشر حول ما يسمّى بالوضعانية التي لا تؤمن بالحقيقة إلاّ في الوثيقة، وعليه لا يمكن كتابة التاريخ إلا عندما تكون لدينا وثائق أصلية. وإذا ما غابت هذه الوثائق المكتوبة على الصخور والتي تسمى النقائش أو على المعادن كالنقود أو على بعض المحامل القادرة على الصمود أمام التقلبات المناخية مثل الجلد وورق البردي الموجود فقط في مصر، يمكن تعويضه بالوثائق الصامتة المتمثلة في الآثار كالبناءات والمعالم والخزف والقصور والصور بشكل عام التي نجدها بشكل خاص عند الإيرانيين وفي العصر العباسي تسمى المنمنمات والنحت، وهي جميعاً تعتبر وثائق صامتة يمكن اعتمادها لكتابة التاريخ.
وبالنسبة إلينا لا تتوافر لدينا هذه المصادر الأثرية الصامتة ولا الكثير من المصادر المكتوبة رغم وجودها في فترة ما قبل الإسلام. كل ما لدينا هو المصادر غير المباشرة التي كتبت في زمن غير الزمن الذي جرت فيه الأحداث، ولأنّ الرواة المعتمدين لا يصلون في معظم الأحيان إلى زمن الحدث لأنه ليس لدينا وثائق مكتوبة.
وحتى الروايات أبعد ما نصل إليه في الرواة هو عروة بن الزبير الذي توفي في 94 للهجرة أي أنه لم يعايش معركة أحد مثلاً، وحتى وإن كان أبوه قد عايشها لكن لا نعرف الزاوية التي نظر بها للرواية، وهذه الزاوية لا تعطيك الصورة كاملة بل تعطيك بعض القطع منها فيما تستوجب القطع الأخرى إثباتات ليست لدينا، وهو ما يجعلنا نلجأ إلى الافتراضات، وفي حالات أخرى نكتفي بوضع السؤال. ومن هذه الزاوية شكك الكثير من المستشرقين وخصوصاً المنتمين منهم إلى المدرسة الأنغلوسكسونيّة انطلاقاً من الربع الأخير من القرن العشرين، في المصادر التي يكتب على أساسها المؤرخون فترة الإسلام الأول، وقالوا إن هذه الفترة لا يمكن كتابة تاريخها.
ولكن أتى من بعدهم بعض المستشرقين وعلى رأسهم باتريشيا كراون، ليقولوا إنه يمكن كتابة تاريخ المسلمين الأول، لكن بالاعتماد أساساً على المصادر الأجنبيّة ولا سيما السريانيّة والإغريقيّة، لكن وهم يكتبون تاريخ هذه الفترة اعتمدوا المصادر العربيّة الإسلاميّة. وهناك من يقول إن هذه المصادر العربيّة الإسلاميّة يمكن اعتمادها لكن بالتزام الحذر وبتسليط الروح النقدية الصارمة، كما يقول الراحل هشام جعيط.
ألا يمكن اعتبار القرآن مصدراً مادياً كافياً؟
مشكلة القرآن مثل مشاكل كل المصادر التي لم تصلنا، الرواية الكلاسيكيّة تقول إن القرآن كتب وجمع في عهد عثمان، وهناك من يقول إنه جمع من عهد عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق في محامل عدة منها جذوع الأشجار ومنها الجلد وغيرها، لأن أكثر صحابة النبي ماتوا في حروب الردّة وخشي عمر أن ينسى الناس القرآن، وأخفاه عند حفصة بنت عمر.
وعندما جاء عثمان بن عفان جمع القرآن على لسان قريش. ونحن كباحثين لم نجد أي مصحف يعود إلى القرن الأول للهجرة، لذلك وقع التشكيك في أن هذا القرآن لم يتم تجميعه إلاّ مع الأمويين. بل هناك من يقول إنّ مجموعة من العلماء المسيحيين واليهود في العراق قد جمعوه والجدل كبير في هذا السياق، وما يزيد في اتساعه هو عدم وجود مصحف قديم يعود للعهد الأموي أو لعثمان بن عفان.
"الإسلام كغيره من الأديان فيه العنف والدعوة إلى العنف وفيه أيضاً الدعوة إلى السلم والعقل، وهو بذلك لا يختلف عن بقية الأديان السابقة بما في ذلك المسيحيّة التي يرسخون فيها كل ما هو سلم وعدل" حياة عمامو
إذاً ما أراه هو أن القرآن بحكم ما يوجد في آياته يمكن أن يكون مصدراً تاريخياً. وهذا ما قاله هشام جعيط، مثلاً يقول إن النبي لم يتنبأ في سن الأربعين ويعود إلى القرآن الذي يقول "مكثت فيكم جيلاً كاملاً" والجيل هو بين 30 و33 سنة، وبذلك فإن النبي حسب القرآن تنبأ في سنّ ما بين الـ30 و33 سنة وليس في سن الأربعين.
أيضاً المعارضة القرشية للدعوة النبويّة عندما كان الإسلام معذباً في مكة يمكن استخراجها من خلال آيات قرآنيّة تتحدث عن المستهزئين وعن أبي لهب وعن المؤذين للنبي وأصحابه. إذاً محتوى القرآن يمكن أن يكون مصدراً لكتابة التاريخ أو على الأقل لتدقيق الكثير من الأحداث أو لتصويب ما ورد في السيرة لأن بها العديد من الفانتازمات.
ولكن يبقى المشكل الأساسي في القرآن هل جمع في عهد عثمان أو لم يجمع، وهذا القرآن متى وقع نشره في أرجاء الأمبراطوريّة الإسلاميّة؟ مثلاً بعض المستشرقين يرون أنه بالاعتماد على نقوش قبّة الصخرة قد تمّ نشره في عهد عبد الملك بن مروان الذي كان له من الإمكانات ما يجعله يكتب العديد من المصاحف لتوزّع على ولايات مختلفة من الامبراطوريّة الإسلاميّة. بينما في عهد عثمان بن عفان لم تكن هذه الإمكانات موجودة. وحتى إن وجدت فإن كتابة القرآن في شكل مصحف لا يمكن أن يتجاوز الأربعة أو خمسة مصاحف لا تكفي كل الإمبراطوريّة.
هل هناك علاقة بين الإسلام والتطرف؟
ولهذا لا يمكن أن ننكر أن في القرآن الكثير من الآيات التي تدعو إلى العنف، ولكن التطرّف الذي نتحدث عنه اليوم هو ملتصق أساساً بالإسلام السياسي الذي أخذ تلوينات متعددة، كالإخوان المسلمين والحركة الوهابيّة وتنظيم القاعدة والدولة الإسلاميّة وغيرها.
"لا يمكن أن ننكر أن في القرآن الكثير من الآيات التي تدعو إلى العنف، ولكن التطرّف الذي نتحدث عنه اليوم هو ملتصق أساساً بالإسلام السياسي الذي أخذ تلوينات متعددة كالإخوان المسلمين إلى الحركة الوهابيّة إلى تنظيم القاعدة والدولة الإسلاميّة وغيرها" حياة عمامو
وهذا الإسلام السياسي ظهر منذ سقوط الدولة العثمانية، فتنظيم الإخوان المسلمين تأسس سنة 1928 كردّ فعل على فكر روّاد النهضة في القرن التاسع عشر، وكردّ فعل على الاتصال مع الغرب عبر الاستعمار، وعلى التثاقف الذي حدث بين الغرب والشرق وبداية ظهور الدساتير الوضعيّة وتشريعات وضعيّة ودعوات لتحرير المرأة وإلغاء الرق، ولإلغاء كل المنظومة التي يخيّل للمخيال الجماعي للناس أنها بنيت على الإسلام.
إذاً تنظيم الإخوان المسلمين جاء في هذا الإطار، وبخاصة كردّ فعل على روّاد النهضة أو المجموعة التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر التي اصطدمت بقدوم المستعمر وفطنت إلى الفرق الشاسع بين الغرب والشرق، وبدأوا يفكرون كيف ننهض؟ وكيف نلتحق بهؤلاء الذين قفزوا؟ ومن هنا انطلقت الآراء ماذا نفعل لنصبح مثلهم، فكان من يرى أنه يجب العودة إلى الدين في فترة "نقاوته"، ومن هنا جاء المخيال الجماعي للفترة الراشدة على أساس أنها أنقى وأفضل فترة ولا يمكن أن ينهض الإسلام إلاّ بالعودة إليها.
وعلى هذا الأساس تأسس تنظيم الإخوان المسلمين، ولهذا هم يبيحون ويجعلون الجهاد شيئاً، وغيّبون كل ما ميّز ذلك السياق وتشبّثوا بفكرة واحدة هي الجهاد ضد الكفّار، على خلاف روّاد النهضة في القرن العشرين مثل قاسم أمين وعلي عبد الرازق والطاهر الحداد وغيرهم.
إذا كان هناك اختلاف كبير بين اتجاهين أحدهما ديني طوّر كل ما أفرزه الإسلام السياسي بما في ذلك الحركة الوهابيّة، وعلماني انخرطت فيه الحركات الوطنيّة وأدت إلى نشأة دول الاستقلال التي بنت مشاريع دولها على أساس هذه السرديّة التي تقاوم الاستعمار، لكن في المقابل لا تبني مجتمعاً وحداثة، بل أنجزت تحديثاً. ولذلك أفلست هذه الدول لاحقاً وعندها ضُرب الإسلام السياسي بقوّة.
تسعى حياة عمامو اليوم إلى إكمال مشروع بدأته منذ سنوات حول معاوية بن أبي سفيان وتأسيس الدّولة الأمويّة بالتركيز على إشكالية أساسيّة تتمثل في التّساؤل حول إن قطع معاوية فعلاً مع الفترة التي سبقته ومدى تأثّره بالإرث البيزنطي في تأسيسه للدّولة الأمويّة
ما المشاريع التي تعملين عليها هذه الأيام؟
كثيرة هي المشاريع التي هي بصدد الإنجاز ومنها ما يتعلّق بالأعمال الجماعيّة حول مواضيع مختلفة في صلب الإشكاليّات، مثل الدّراسات حول مناهج البحث ومقارباته فيما يتعلّق بالدراسات حول التّاريخ المبكّر للإسلام. أمّا على المستوى الشخصي فأسعى إلى إكمال مشروع بدأته منذ سنوات حول معاوية بن أبي سفيان وتأسيس الدّولة الأمويّة بالتركيز على إشكالية أساسيّة تتمثل في التّساؤل حول إن قطع معاوية فعلاً مع الفترة التي سبقته ومدى تأثّره بالإرث البيزنطي في تأسيسه للدّولة الأمويّة.
عن المؤرخة التونسية حياة عمامو: ولدت المؤرخة التونسية حياة عمامو سنة 1959 بمدينة المكنين من محافظة المنستير، وزاولت تعليمها الثانوي والجامعي في تونس العاصمة، فحصلت على الدكتوراه في التاريخ الوسيط من كلية العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة في تونس عام 1991، لتصبح في ما بعد أستاذة جامعية في الجامعة المتخصّصة في التاريخ الإسلامي. وتولّت أيضاً عام 2008 خطة مديرة قسم التاريخ في الجامعة أسهمت خلالها في تجديد برامج التاريخ. وعمامو هي أول امرأة تتولّى عمادة كلية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في تونس.
من جهة أخرى، تتولّى حياة عمامو إدارة مخبر بحث حول تاريخ الاقتصاد والمجتمعات في العالم العربي، وإدارة مجلة الكرّاسات التونسيّة (مجلة تصدر مرتين في السنة وتنشر مقالات في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت