عام 622 ميلادية، هاجر النبي محمد من مسقط رأسه مكة في بلاد الحجاز القديمة إلى يثرب التي عُرفت في ما بعد بالمدينة المنورة، ليبدأ صفحة أكثر جدلاً واحتكاكاً مع الديانات الإبراهيمية اليهودية والمسيحية.
قبلها، عمل على صياغة الموروث الإبراهيمي وتقديمه بصورة تناسب دعوته الجديدة للعرب من أتباع الديانات القديمة وأصحاب الديانة التوحيدية، بحيث يجذبهم إلى اتّباع دعوته بوصفها الامتداد الأصيل لعقيدة إبراهيم.
وتروي كتب السيرة والتفاسير أن النبي ظل محافظاً على شعار "ملة إبراهيم" حتى السنوات الأخيرة من حياته، خاصة وأنه سمى طفله الذي أنجبه بعد تخطيه الستين من عمره "إبراهيم" تيمناً باسم "أبي الأنبياء".
وطوال حياته، سعى إلى صياغة نسخة إسلامية لشخصية إبراهيم وانتزاعه من تحت السيطرة اليهودية. وبحسب المستشرق الإسباني كروث إيرنانديث في كتابه "تاريخ الفكر في العالم الإسلامي" فإن الشكل الإبراهيمي الذي أخذه التراث الإسلامي وضع نهاية للقراءة العائلية الخاصة لتراث إبراهيم، وهي قراءة كانت تعتبر اليهود فقط ورثة شرعيين وروحيين له.
صياغة الموروث الإبراهيمي
في مكة، صاغ محمد رؤية واضحة لتوظيف فكرة "نحن أبناء إبراهيم"، مستفيداً من كون القرشيين يؤمنون بالانتماء إلى جدهم إبراهيم ومن أنهم كانوا يُرجعون إليه بعض الطقوس التي كانوا يحتفظون بها وتتعلق بالكعبة. ومن جانبهم، كان اليهود، وهم "أصحاب كتاب"، يمتلكون قصص وأخبار إبراهيم ويدعّون حصرية بنوّته.
أغلب السوَر التي نزلت في مكة ورد فيها ذكر إبراهيم. ووفقاً لإيرنانديث، كان اسم إبراهيم الأكثر حضوراً في سور القرآن بعد ذكر الله، ومن الصعب افتراض أن محمداً اخترع التراث الإبراهيمي المكي، وبالتالي فهو عبارة عن "تراث قديم ومن الممكن أن يمثل التراث الخاص بتأسيس المكان المقدس".
تشكلت صورة إبراهيم من عدة سمات منها أنه الجد الأكبر، المعتزل عبادة الأوثان، المتحمل لأذى قومه، وهي صفات ملائمة لحياة النبي المكية، وهي الصورة التي ستأخذ شكلاً جديداً عندما ستشتد المواجهة مع قبائل اليهود في يثرب.
في تفسيره "مفاتيح الغيب"، يتحدث فخر الدين الرازي (ت. 606هـ) عن آية "ملة أبيكم إبراهيم" ويقول: "واعلم أن المقصود من ذكره التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم، والعرب كانوا محبين لإبراهيم عليه السلام لأنهم من أولاده، فكان التنبيه على ذلك كالسبب لصيرورتهم منقادين لقبول هذا الدين".
لم يكتفِ النبي بإعلانه تمسكه بإبراهيم، بل جعل نفسه شبيهاً بـ"الجد الأكبر" وخاصة في أقداره. ففي حديث يقول: "أنا ابن الذبيحين"، ويقصد أبيه عبد الله، وجده إسماعيل، كما نقل صفي الرحمن المباركفوري في "الرحيق المختوم".
وحسب رواية القرآن في سورة الأنعام، رفض إبراهيم أصنام أبيه ولجأ إلى الخلاء يتأمل الكون باحثاً عن الله في صورة الشمس والقمر. وفي كتب السيرة، نرى محمداً يعتزل أصنام قومه ويلجأ إلى غار حراء، شرقي مكة. وفي كتابه "خاتم المرسلين"، يصف شوقي ضيف هذا الحدث بـ"تجربة عجيبة لقرشي منعزل في كهف من كهوف جبال مكة"، ويقول: "كان محمد يتأمل الكون في غار حراء، يريد أن يخترق الحجب ليعرف أسرار الكون وأسرار حياة الناس من حوله وما الذي أدى بقومه إلى معتقداتهم الوثنية".
تاريخية الوقائع تهدد موروث إبراهيم
في المرحلة المكية، كان محمد يمتلك قصصاً كثيرة عن إبراهيم بوصفه نبياً، وأحد أولي العزم الخمسة في الإسلام... أنجب من زوجته المصرية هاجر ابنه البكر إسماعيل وإليه ينتسب العرب، وأنجب من زوجته سارة ابنه إسحاق الذي أنجب يعقوب وإليه ترجع بنوة الأسباط التي تكونت منها البيوت اليهودية، وبالتالي بات إبراهيم هو الجد الأكبر لكل من العرب واليهود.
تذهب مجموعة من الباحثين إلى ترجيح الرأي القائل إن قصص عائلة إبراهيم لا تخرج عن كونها حيلة للتقريب بين اليهود والعرب، وهو ما تحدث عنه طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي".
"الشكل الإبراهيمي الذي أخذه التراث الإسلامي وضع نهاية للقراءة العائلية الخاصة لتراث إبراهيم، وهي قراءة كانت تعتبر اليهود فقط ورثة شرعيين وروحيين له"
ويعتقد سيد القمني، في كتابه "النبي إبراهيم والتاريخ المجهول"، بأن عدم وجود أدلة تاريخية على حقيقة شخصية النبي إبراهيم سمح لليهود وللعرب بأن يرووا عنه الكثير من الأخبار، ناقلاً رأي الباحث الألماني فلهلم رودلف الذي ينظر إلى حفاوة القرآن بإبراهيم كنوع من تأليف قلوب يهود يثرب مع القوة الإسلامية الصاعدة.
وفي كتابه "الرمز والوعي... دراسات في سوسيولوجيا الأديان"، يشير أشرف منصور إلى افتقار قصص عائلة إبراهيم لما يثبتها. يقول: "أول ما يلفت الانتباه في تأريخ القبائل اليهودية والعربية لأصلها والذي ترجعه إلى قصة العائلة المقدسة، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، أنها لم ترد في أي من المدونات التاريخية لشعوب الشرق الأوسط".
"ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً"
إثر الهجرة، ظهر اليهود في المواجهة الفكرية والجدلية مع الإسلام بصورة أكبر، موجّهين للنبي أسئلة عن أخبار السابقين. ثم دخلت قصة إبراهيم في مرحلة تحديد الانتماء الديني: هل كان يهودياً أم مسيحياً؟ أم أنه شخصية حنيفية سبق وجوده نزول التوراة والإنجيل وفق الرواية الإسلامية؟
ظهر النبي محمد كأنه حلقة طبيعية في سلسلة الأنبياء المتحدرين من إبراهيم، وتبنى بدوره أبرز القصص التوراتية بتغييرات قليلة إلى جانب انفراده ببعض الأحداث، وظل رافعاً شعار "ملة إبراهيم" وهو مصطلح تسرب إلى العرب من اليهود الذين سكنوا شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، بحسب إسرائيل ولفنسون في كتاب "تاريخ اليهود في بلاد العرب".
ويسوق الطبري (ت. 310هـ) في تفسيره "جامع البيان في تفسير القرآن" قصة سبب نزول بعض الآيات، وهي أن النبي دخل على جماعة من اليهود في بيت المِدراس (المِدراش، مدارس دينية)، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم. فقالا له: إن إبراهيم كان يهودياً. فطلب النبي أن يحتكم إلى التوراة لبيان هذا الادعاء فرفضا، فنزلت الآية: {ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} (آل عمران: 23).
وتنحاز الآيات القرآنية إلى اعتبار إبراهيم شخصية حنيفية مسلمة مع التأكيد على رفض أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو من المشركين، وعليه فإن أولى الناس بهذا الأب الكبير هو الوريث الوحيد له والمتمثل في شخص النبي محمد وأتباعه من المسلمين، وفقاً لما جاء في سورة آل عمران (65-68).
عهد إبراهيم ووصية يعقوب
يروي العهد القديم قصة العهد الذي قطعه الرب مع أبرام (إبراهيم) وطلب فيه منه أن يجعل ختان الذكور علامة امتثال له، واعداً إياه بتكثير نسله وبالأرض الواسعة (سفر التكوين، إصحاح 17). ويصوغ القرآن في سورة البقرة، أول السور المدنية نزولاً بحسب بعض الباحثين فكرة العهد، وفيه يقول الله لإبراهيم "إني جاعلك للناس إماماً" (البقرة: 124)، بينما يطلب إبراهيم من الله أن يبعث في ذرّيته المسلمة "رسولاً منهم" (البقرة: 129).
"تشكلت صورة النبي إبراهيم من عدة سمات منها أنه الجد الأكبر، المعتزل عبادة الأوثان، المتحمل لأذى قومه، وهي صفات ملائمة لحياة النبي المكية، وهي الصورة التي ستأخذ شكلاً جديداً عندما ستشتد المواجهة مع قبائل اليهود في يثرب"
ويتحدث القرآن أيضاً عن وصية يعقوب لأولاده وفيها يطلب منهم أن يُدفن بجانب إبراهيم (سفر التكوين، إصحاح 49)، بينما تأتي وصيته في القرآن هكذا: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة 133). فالوصية بحسب الرواية الإسلامية تتحدث عن التزام بني إسرائيل أمام يعقوب باتّباع إله الآباء الأقدمين، إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب، ومن هنا طالبهم محمد بالوفاء بهذا الالتزام.
وهكذا، فإن محمداً كان يعتبر نفسه نبياً في نفس السلسلة المؤمنة بـ"إله الآباء الأقدمين". وفي هذا السياق يُفهم حديثه الذي يقول فيه: "أنا دعوة أبي إبراهيم".
تأزُّم الموقف مع اليهود
تأزمت العلاقة بين اليهود والمسلمين سريعاً، ولم تدم في شكلها المتآلف، واشتد الجدل بين الفريقين حتى وصل درجة "الحرب الأشد والأكبر مكراً من حرب الجدل التي دارت بين محمد وبين مكة"، بحسب تعبير محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد".
اصطدم المسلمون بيهود بني قينقاع وبني النضير في العام الثاني والرابع للهجرة، وتروي كتب السيرة أن اليهود تحالفوا مع المشركين في العام الخامس للهجرة في غزوة الأحزاب، ويبدو أن ما أثار غضب النبي ليس خيانة بني قريظة بتحالفها مع المكيين، ولكن وقوع قصة مثيرة حدثت أثناء مشاورات التحالف.
وفي السيرة، ينقل محمد حسين هيكل أن قريش سألت اليهود: "يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه".
وأنكر القرآن هذا التصرف: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: 51).
وبدوره اعتبر إسرائيل ولفنسون تصرف اليهود "خطأ فاحشاً لأنه يناقض تعاليم التوراة في النفور من الأصنام".
ويبدو أن محمد غضب بسبب شعوره بعدم جدوى ما طرحه بشأن علاقته بـ"الآباء الأقدمين".
إنهاء وجود اليهود في شبه الجزيرة
تصاعدت الأزمة بين المسلمين واليهود منذ العام الثاني للهجرة. اشتبكوا مع بني قينقاع بعد غزوة بدر، وحاصروا بني النضير بعد غزوة أحد، وقضوا على بني قريظة بعد غزوة الأحزاب، ثم صالحوا المكيين في صلح الحديبية، وعادوا إلى مواجهة اليهود في العام السابع للهجرة فغزوهم في خيبر ووادي القرى.
وبعد جلاء اليهود عن المدينة، وتحجيم دورهم في خيبر ووادي القرى، انتهت حروب الجدل. في كتابه "مرآة الإسلام"، يقول طه حسين: "وبعد خُلُوِّ المدينة وفتح خيبر ووادي القرى خَفَّ الجدال بين النبي وبين اليهود وقَلَّ ذكرهم في القرآن لانقطاع الحاجة إليه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون