هذه المرة غادر الأسير الفلسطيني ناصر أبو حميد السجن الإسرائيلي إلى الحرية المطلقة، بعد عمر قضى أكثر من نصفه في السجن الإسرائيلي المظلم. يرحل بعد معاناته مع مرض السرطان الذي داهم رئتيه في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وتبعه إهمال طبي كبير من جانب الاحتلال، حتى ساءت الحالة الصحية للأسير وخضع لعملية تنفس اصطناعي، ثم دخل غيبوبته وفارق الحياة.
هناك في السجن الإسرائيلي، لا تعاطف ولا استثناءات، ولا نور ولا صوت فرح، هنالك فقط جنود بقلوب من حجر، وأيدٍ ملطخة بالعنف والقمع والصراخ، بالإضافة إلى جدران لا تتحرك، ثابتة في منعها الحياة عن الأسرى الفلسطينيين، وفي السجن رطوبة تنخر رئاتهم، وتطبق على صدورهم مثل أثقال من حديد.
لنا أن نتخيل هذا النمط الركيك من الحياة، الذي تفرضه الدولة الإسرائيلية على الأسير الفلسطيني، بهذا يغدو ممنوعاً عن تجريب حواسه، يمضي الوقت داخل الصناديق المعتمة، الموبوءة بالقمع والكراهية والدونية، فقط لأن هذا الأسير أراد أن يرى وطنه المحتل حراً، وأراد أن يمارس الحق المشروع في جميع القوانين الدولية والإنسانية، بالدفاع عن نفسه وأهله وبلده.
هناك في السجن الإسرائيلي، لا تعاطف ولا استثناءات ولا نور ولا صوت فرح، هناك فقط جنود بقلوب من حجر، وأيدٍ ملطخة بالعنف والقمع والصراخ، بالإضافة إلى جدران لا تتحرك، ثابتة في منعها الحياة عن الأسرى الفلسطينيين
في ذلك الكادر السينمائي المقزز كان الأسير الفلسطيني ناصر أبو حميد يقضي وقته، يعاني البطء في اللحظات، والملل واعتصار المشاعر، حاملاً صوته الداخلي كأنه جبل، ويتعالى صوت الإنسانية الممنوع داخله، بحالة من الحسرة والشعور بالخذلان، وكأن فكرة الحياة كلها تصبح في لحظة واحدة مشروعاً للهدم.
ومن نفس الكادر خرج أبو حميد إلى كادر آخر، بقي خلاله لوقت طويل ممدداً على فرش قاسٍ ليس في ملمسه فحسب، في رائحته، وصوته، حيث رائحة الدواء والمحاليل وسراويل الأطباء وأغطية كفوفهم البلاستيكية، وأصوات ناطقة بالعبرية، منها الطبيب الذي لا يبالي بنجاة هذا الجسد من عدمه، أو جنود يتبدلون، للاطمئنان أن أبو حميد لن يهرب، وإن هرب فسريعاً، إلى الموت. هؤلاء الجنود أتوا ليحرسوا بؤس الأسير أبو حميد، ويتابعون صراعه المؤلم مع سرطان الرئة.
ولم يهدم السجن من حياة الأسير الراحل ناصر أبو حميد، فيما تم هدم بيته خمس مرات من قبل، على يد الاحتلال، وفي كل مرة كان السبب فلسطين، فأبو حميد ليس وحده الذي باع جسده لفلسطين من العائلة، بل أربعة من إخوته كذلك، حيث حكم نصر أبو حميد بخمسة مؤبدات، فيما حكم شريف أبو حميد بأربعة مؤبدات، كذلك حكم محمد أبو حميد بمؤبدين، وثلاثين عاماً، وحكم إسلام أبو ناصر بمؤبد وثمانية أعوام في عام 2018.
ولم تكن رحلة ناصر أبو حميد المولود في تشرين الثاني/أكتوبر من العام 1972، رحلة عادية، فلم تتوقف ملاحقات الاحتلال له، طيلة عمره، ولم يتوقف الأمر عند اعتقال جسده الصغير خلال طفولته، إذ اعتقلته إسرائيل عام 1987 في بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى، لمدة أربعة أشهر، كما اعتقل عام 1990، وحكم عليه بالسجن المؤبد، لكنه، قضى منها أربع سنوات، وخرج بعد جولات مفاوضات رسمية بين الاحتلال وفلسطين. وأعيد اعتقاله عام 1996 وأمضى ثلاث سنوات داخل السجن.
وفي عام 2002، اعتقل ناصر أبو حميد، على يد الاحتلال، في بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وحكم عليه بسبعة مؤبدات وخمسين عاماً، قضى منها عشرين عاماً، إلى يوم وفاته، في 20 كانون الأول/ديسمبر 2022، وقد فارق هذا الظلم إلى الأبد.
لقد مُنع أبو حميد لسنوات طويلة من ممارسة حقه في احتضان أمه، أو دفن أبيه، أو إنجاب طفل يحمل ذاكرته، وهويته، ويمضي بهما بين الناس، ومنع أيضاً من العيش بحرية في وطنه الذي لطالما رآه قطعة من قلبه، فكانت حياته الاعتيادية مركباً لطالما حمله إلى السجن، الذي قضى داخله ما يقارب أربعة وثلاثين عاماً، من أصل خمسين قد عاشها، فهو لم يكن ينتظر الحرية بكامل شغفه، لأنه كان يعلم أنه لو غادر زنزانته ذات مرة، فإنه عائد إليها، والآن وقد غادرتَ هذا العالم، هل ما زلت يا ناصر تنتظر العودة للسجن مرة أخرى؟
مُنع أبو حميد لسنوات طويلة من ممارسة حقه في احتضان أمه، أو دفن أبيه، أو إنجاب طفل يحمل ذاكرته، وهويته، ويمضي بهما بين الناس، ومنع أيضاً من العيش بحرية في وطنه الذي لطالما رآه قطعة من قلبه، فكانت حياته الاعتيادية مركباً لطالما حمله إلى السجن
للجدران المتقاربة داخل السجن، والتي خزنت جسده لوقت طويل صوت أيضاً، فهي محبوسة مثلما كان ناصر تماماً، مجبورة على منع حريته ومن حوله، وهي غلاف رواية الحزن لكل أسير، فمشاعر أبو حميد لا تزال ملتصقة على الجدران، كأنها فقرات مكتوبة على ورق، فما لم يستطع كتابته خلال الحبس، كان يتنفسه أنفاساً حزينة باردة، على الجدار القريب.
وتلك الجدران هي كأنفس لرسومات الأسير البسيطة، لربما رسم أبو حميد وجه أمه، ولربما رسم طريق طفولته التي تعطلت لأول مرة مع الاعتقال من قبل إسرائيل عندما كان طفلاً عمره أحد عشر عاماً.
ولربما رسم شكل رئتيه، اللتين التهمهما السرطان أخيراً بسبب الإهمال الطبي، والتسويف والتأجيل، لإتمام علاجه منه، إذ سقط جسده رهينة للتعب وسيطرة المرض، حيث كان دائم المعاناة من ضعف مناعته، بسبب ظروف المكان الذي كان يحتجز فيه.
ولربما رسم أبو حميد خارطة فلسطين التي كان يراها الحدود الأهم في حياته، والتي لطالما طمح لملامستها من رفح حتى رأس الناقورة.
ولقد كان المكان في حياة الأسير الراحل، دوماً غير مستقر، حيث بدأ طفولته في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، وقد هُجّرت عائلته من بلدة السوافير الشمالية قرب غزة. حتى حينما انتقلت عائلته للضفة الغربية، فإنه أقام في مخيم الجلزون، شمال مدينة رام الله، والمخيم دوماً يحمل صفة المؤقت في وعي الإنسان، فاقترنت مسيرة حياته بالمؤقتات، حيث المخيمات التي أجبر الفلسطيني على العيش فيها، بعد تهجيره من قبل الاحتلال، وكذلك السجن، وربما كان المكان الأكثر تداخلاً مع حياة أبو حميد، وحتى حياته، شهدت خاتمتها، بفعل خلايا سرطانية غير مستقرة، كعادة الخلايا الأخرى للجسد، ونُقل مؤخراً لمشفى "أساف هارونيه" الذي يبعد مسافة قصيرة من مشفى الرملة الذي كان يقيم فيه وقت المرض، إذ استغرق ناصر أبو حميد في غيبوبته، لوقت قصير، قبل أن يغادر العالم، أمام نظرات أمه، التي رأته للمرة الأولى، بعد عشرين عاماً من المنع.
كل شيء في السجن كان يدعو للموت، الفكرة ذاتها تدعو للموت، فهذا الجسد المنهك كان محكوماً بالسجن سبع مؤبدات وخمسين عاماً، ولا طريقة للتحرر كانت أمامه سوى الموت، فهذا الزمن ليس زمن صفقات أو إفراجات متبادلة بسبب تأزم الحراك السياسي والوساطات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وغياب الأفق لصفقات تبادل للأسرى، كما أن أبو حميد لم يكن ممن أفرج عنهم في صفقات سابقة.
كل شيء في السجن كان يدعو للموت، الفكرة ذاتها تدعو للموت، فهذا الجسد المنهك كان محكوماً بالسجن سبع مؤبدات وخمسين عاماً
لم يكن موتاً هذا الموت، بل كان فكاً للقيد، وخروجاً عن النص المكتوب، فلقد كان سيناريو الاحتلال أكثر قسوة من أن يؤديه إنسان، فالمرء لا يعيش في ظل المنع والحبس والإهمال، ولا يألف الجدران، إنها ألواح بائسة أمام العين، لا تألفها سوى الصور، لذا كان عليه مغادرة جسده المرهق، والعودة للحرية المطلقة، حرية الروح، التي من خلالها يرى فلسطين خارج الجدران أيضاً. أبو حميد الذي يقول في إحدى رسائله: "أنا ذاهب إلى نهاية الطريق، ولكن مُطمئن وواثق بأنني أولاً فلسطيني وأنا أفتخر، تاركًا خلفي شعباً عظيماً لن ينسى قضيتي وقضية الأسرى، وأنحني إجلالاً وإكباراً لكل أبناء شعبنا الفلسطينيّ الصابر، وتعجز الكلمات عن كم هذا المشهد فيه مواساة وأنا "مش زعلان" من نهاية الطريق لأنه في نهاية الطريق أنا بودع شعب بطل عظيم، حتى التحق بقافلة شهداء فلسطين، وجزء كبير منهم هم رفاق دربي وأنا سعيد بلقائهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.