بعد بضعة أشهر من طي صفحة الخلاف المغربي الإسباني، أنهت باريس أخيراً أزمةً دبلوماسيةً صامتةً مع الرباط، خيّمت على العلاقات بين الجانبين منذ ما يقارب العامين، بالإعلان في مؤتمر صحافي في العاصمة المغربية عن "كتابة صفحة جديدة" في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، إلى المغرب، في 16 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، جلبت معها إلغاء قرار باريس بتقليص عدد التأشيرات الممنوحة للمواطنين المغاربة، والذي اتُّخذ في أيلول/ سبتمبر 2021، بمبرر رفض المغرب استعادة مهاجرين غير نظاميين تريد باريس ترحيلهم من أراضيها.
من جهته، شدد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، على أنه "لا يوجد تعليق رسمي" على خطوة الإليزيه. وقال خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعه بنظيرته الفرنسية، إن "قرار فرنسا خفض التأشيرات كان أحادياً ولم نعلّق عليه احتراماً لسيادتها. واليوم أيضاً قرار العودة إلى الوضع الطبيعي أحادي الجانب لن نعلّق عليه رسمياً"، مشيراً إلى أنه "يسير في الاتجاه الصحيح".
لم تكن أزمة التأشيرات وحدها موضوع المباحثات المغربية الفرنسية، التي تحوي ضمن أجندتها أيضاً مستوى الشراكة الاقتصادية بين الجانبين، إذ إن تنويع الرباط لشركائها الاقتصاديين، والتقليل من تبعيتها الاقتصادية لباريس، لم يروقا للأخيرة طوال السنوات الماضية، فضلاً عن التنافس حول النفوذ بين الجانبين في دول إفريقيا جنوب الصحراء.
الصحراء "الإشكالية"
تُعَدُّ الصحراء الغربية من أهم ملفات المغرب في تحديد مستوى العلاقات مع الدول الأوروبية والغربية، وهو ما عبّر عنه العاهل محمد السادس، في خطابه يوم 20 آب/ أغسطس الماضي، بقوله إن "ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الذي يقيس به صدق الصداقات"، داعياً شركاء المغرب من الدول "التي تتبنى مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء"، إلى توضيح مواقفها ومراجعة مضمونها "بشكل لا يقبل التأويل".
ذكرت وزيرة الخارجية الفرنسية، أنه "يمكن للمغرب التعويل على دعم فرنسا" في الملف، خلال الزيارة الأخيرة التي تلاها لقاء جمع يوم الإثنين 19 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، كلاً من رئيس لجنة الدفاع الوطني في البرلمان الفرنسي ورئيس مجلس النواب المغربي الذي أشار عبر موقعه الرسمي إلى أن الجانبين تطرّقا إلى موضوع الصحراء، ومقترح الحكم الذاتي الذي تطرحه الرباط "باعتباره حلاً واقعياً ذا مصداقية"، يحظى بتأييد دولي لحل النزاع، بينما اقتصر البرلمان الفرنسي اليوم على نشر خبر اللقاء عبر حساباته الرسمية من دون ذكرٍ لنزاع الصحراء.
فهل يؤدي تعزيز علاقات الطرفين بعد الأزمة الأخيرة، إلى تحوّل فرنسي في الموقف من النزاع؟
اعتماد متبادل
يرى خالد شيات، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة محمد الأول في وجدة، أن "المغرب ليس دولةً للعلاقات العابرة والمرحلية كما هو الحال بالنسبة إلى علاقات فرنسا مع بعض الدول في أنساق ظرفية من قبيل أزمة الطاقة"، مشيراً إلى أن فرنسا تملك رؤى إستراتيجيةً في علاقتها مع المغرب، "ويمكنها أيضاً الاعتماد عليه في مجموعة من القضايا، وليس فقط أن يعتمد المغرب على فرنسا في قضية الصحراء"، وهذا مكسب بالنسبة إليه بحكم المقعد الفرنسي الدائم في مجلس الأمن.
ذكرت وزيرة الخارجية الفرنسية، أنه يمكن للمغرب التعويل على دعم فرنسا في ملف "الصحراء الغربية"، خلال الزيارة الأخيرة التي تلاها لقاء جمع يوم الإثنين 19 كانون الأول/ ديسمبر
يرى شيات، في حديثه إلى رصيف22، أن "المغرب لديه سياسة ناجحة"، تجعل فرنسا تعتمد عليه اقتصادياً، مشيراً إلى أنه بالرغم من تنوع شركاء الرباط وتضارب توجهاتهم، "يظل توجهها في إفريقيا غربياً من خلال اعتمادها على واشنطن أو دول الاتحاد الأوروبي حسب المزايا التي يمكن أن يجنيها المغرب من كل مسار على حدة أو من كليهما".
وشدّد على أن سياسة المغرب في القارة السمراء تمكّنه من أن يكون جسراً بين ضفتي المتوسط، "خاصةً في ما يتعلق بالاستقلالية الطاقية لأوروبا التي تُعدّ إفريقيا بالنسبة إليها اليوم أنسب على المستوى الإستراتيجي، من غاز روسيا"، مضيفاً أنه تبعاً لذلك "المغرب مهم في كل الحالات بالنسبة إلى فرنسا كما أن الأخيرة طبعاً تظل شريكاً مهماً بالنسبة إلى المغرب"، الذي ليست له رغبة في القطيعة مع شريك أساسي مثل باريس، لافتاً إلى تأييدها قرارات مجلس الأمن التي تصب في صالح الموقف المغربي من ملف الصحراء.
"موقف غامض"
إبداء الرغبة في دعم الموقف المغربي من النزاع على لسان وزيرة خارجية فرنسا، ومن الرباط، بالرغم من أن البعض عدّ من خلالها أن مؤشرات تحول الموقف الفرنسي موجودة على الأرض، خاصةً مع نهاية أزمتين دبلوماسيتين للمغرب مع أوروبا، يعد بتحقيق مكتسبات تاريخية لصالحه، بعدما استطاع ربح دعم صريح من إسبانيا وألمانيا لـ"سيادته" على الصحراء. فيما يرى محللون أن موقف باريس يظل كلاماً غامضاً يحتاج إلى المزيد من التوضيح.
يقول رئيس المرصد الصحراوي للإعلام وحقوق الإنسان، محمد سالم عبد الفتاح، "إن تبنّي فرنسا لخطاب متّسم بالغموض إزاء قضية الصحراء، يأتي في سياق توجسها من تنويع الرباط لشركائها الاقتصاديين وانفتاحها على قوى دولية أخرى، نظراً إلى الأدوار المهمة التي بات يلعبها المغرب في عمقه الإفريقي، لا سيما في مناطق كانت تُعدّ ضمن نطاق النفوذ الفرنسي".
إبداء الرغبة في دعم الموقف المغربي من النزاع على لسان وزيرة خارجية فرنسا، ومن الرباط، والتأكيد مجددا على موقف فرنسا المساند لمقترح الحكم الذاتي الذي تقدمه الرباط حلال لنزاع الصحراء قد يؤشر على خطوة فرنسية جديدة في صالح الرباط
يضيف عبد الفتاح، في حديثه إلى رصيف22، أن خصوم المغرب "حاولوا بدورهم ركوب حالة الفتور التي انتابت العلاقات المغربية الفرنسية، من خلال ابتزاز الموقف الفرنسي عبر إعمال إمدادات الغاز، فضلاً عن تلويحهم بالانحياز إلى خصوم فرنسا في الأزمات المستعرة التي تشهدها بلدان مجاورة شهدت تدخلات فرنسيةً من قبيل مالي وبوركينا فاسو".
إلا أن مجمل التطورات التي شهدتها المنطقة مؤخراً، يضيف المتحدث، "عززت ثقة الشريك الفرنسي ومن خلفه مجمل الشركاء الأوروبيين في المغرب، برزانة الرباط في التعاطي مع شركائها وحلفائها الإستراتيجيين، حتى حينما يتعلق الأمر بملفات تشهد مواقف متباينةً معهم، بعكس خصوم المغرب، الذين أبانوا عن مواقف متشنجة وغير مسؤولة قوّضت ثقة الفاعليين الدوليين بهم".
ما يحسم الموقف الفرنسي في رأي الناشط الصحراوي الوحدويّ، هي المقاربة الدبلوماسية للملك محمد السادس، "المتسمة بالندّية والصرامة إزاء شركاء المغرب وحلفائه الإستراتيجيين، جاعلةً من قضية الصحراء بمثابة النظارة التي يرى من خلالها المغرب الخارج"، والتي أفضت بكافة الراغبين في الحفاظ على علاقات جيدة مع المغرب "إلى الخروج من دائرة الغموض بخصوص الموقف من نزاع الصحراء، والتصريح بمواقف واضحة مؤيدة لمغربيتها".
يرى عبد الفتاح، أن فرنسا تراهن اليوم على الشريك المغربي كونه منصةً استثماريةً واعدةً، "لا سيما بالنظر إلى التغلغل المغربي الاقتصادي في القارة الإفريقية، والأدوار المهمة التي بات يضطلع بها إقليمياً، خاصةً على المستويات الاقتصادية والأمنية والطاقية"، ما يفرض على أي متدخل في المنطقة، حسب المتحدث، "الحفاظ على علاقات ودية ومتينة معه".
شددت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، على أن "موقف بلادها من ملف الصحراء الغربية ليس غامضاً. إنه واضح وثابت
ورداً على وصف الموقف الفرنسي بالغموض، شددت وزيرة الخارجية كاترين كولونا، على أن "موقف فرنسا ليس غامضاً. إنه واضح وثابت"، وقالت في حوار مع جريدة "لوماتان" المغربية الناطقة بالفرنسية، إن بلادها تدعم اتفاق وقف إطلاق النار، وجهود الوساطة التي يبذلها المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية، واستئناف المفاوضات بين الطرفين سعياً إلى التوصل إلى حل عادل وواقعي"، لافتةً إلى دعمها أيضاً خطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب في عام 2007، "بلا انتظار موقف هذا البلد أو ذاك".
وأشارت إلى أن فرنسا تجاهر بموقف مؤيد بوضوح للمغرب منذ البداية، مشددةً على أنها "غالباً ما واجهت العزلة في هذه القضية"، ويسري ذلك على مجلس الأمن "الذي يدرك المغرب أنه يمكنه التعويل على دعم فرنسا ومساندتها فيه"، عادّةً أن بلادها هي التي أتاحت "تحقيق التوافق في هذه القضية وتوسيعه".
من جهته، لا يرى وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، أن موقف باريس في ملف الصحراء سلبي، موضحاً خلال الزيارة الأخيرة لنظيرته الفرنسية أن باريس "كانت دوماً تدعم مقترح الحكم الذاتي"، مبدياً في الوقت نفسه أنه ينتظر منها اتخاذ قرارات أكثر وضوحاً.
يُذكر أن زيارة كولونا للمغرب، أتت بعد "أزمة صامتة" كان من أبرز مظاهرها تجميد زيارات مسؤولي البلدين، وحدوث فراغ دبلوماسي على مستوى السفراء دام شهرين، بعد تكليف سفيري باريس والرباط بمهام أخرى في دولهما.
وعاش البلدان فتوراً على مستوى علاقاتهما بعد قرار باريس تشديد شروط منح التأشيرات للمتقدمين من المغرب، وتخفيض العدد السنوي المسموح به بنسبة 50 في المئة، ما أثار غضباً متصاعداً في البلاد وصل إلى حد المطالبة بمقاطعة المنتجات الفرنسية، وتنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر بعثة الاتحاد الأوروبي في الرباط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...