آمن المصري القديم بالحياة بعد الموت، وهذا جعله أكثر حرصاً على نقل معالم حياته اليومية إلى العالم الآخر بداخل مقبرته، لكن الظروف الاقتصادية لم تسمح لعامة الشعب بتجهيز مقابرهم مثل مقابر الملوك، فلجأوا إلى فكرة التصغير أو تجسيد صور الحياة التي يعيشونها في شكل مجسمات مصغرة. ومن هنا جاءت فكرة فن المصغرات. بهذه الكلمات بدأ الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثاريين في وزارة الآثار المصرية حديثه لرصيف22، لافتاً إلى ماكيتات ميكت رع، التي ظهرت فيها مصغرات للأسواق في مصر الفرعونية وورش النسيج، كما نفذ المصري القديم نماذج مصغرة للطعام والشراب والخضر واستخدم الجبس في تشكيلها وصناعتها.
ويستضيف مركز الهناجر للفنون التابع لوزارة الثقافة المصرية يوم الخميس 22 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، معرض مصر الخامس للمجسمات المصغرة، احتفاءً بفن موغل في القدم. ولكن كيف تغيرت ملامح هذا الفن مع مرور الزمن؟
توثيق للتراث
تخرجت عبير سعد الدين، 47 عاماً، في كلية التربية الفنية، وحصلت بعدها على دبلوم الدراسات العليا بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، وتعلق قلبها بحب فن المصغرات.
تدمج سعد الدين في إنتاجها الفني بين شغفها بالتراث المصري وما تحمله من هم نحو البيئة، إذ تركز على إعادة تدوير المخلفات البيئية وتحويلها إلى مجسمات فنية، وتستخدم في ذلك ورق الكارتون وزجاجات المواد الغازية الفارغة، وبقايا لعب الأطفال، وغيرها من المخلفات.
اتجهت عبير كذلك إلى تدريس فن المصغرات ونشره داخل مصر وخارجها في شكل دورات تدريبية تقدمها لطلابها في الخارج عبر الإنترنت ولديها ورشة خاصة في منزلها، موضحة لرصيف22: "فن المصغرات لا يدرس في أي كليات داخل مصر".
تحاول عبير مع طلابها إعادة صياغة التراث في بعض القطع البسيطة سهلة الاقتناء، فأنجزت ديكورات منازل الصعيد وبيوت الريف المصري من الداخل والفرن البلدي في شكل ميداليات صغيرة تُعلَّق على الأبواب، وتشارك بأعمالها في معرض تراثنا الذي تقيمه مصر كل عام: "بقالي أربع سنين بشارك في المعرض بأعمالي من المصغرات"، تقول.
فن الحارة المصرية
استوحت "نور كرافت"، وهو الاسم الذي تُفضِّل أن تعرف به، أفكارها في صناعة المصغرات من الحارة الشعبية المصرية، وصبت كل تركيزها في هذا الفن على تجسيد معالم الحارات وبيوتها من الداخل والخارج.
تنشر نور فيديو قصير لكل نموذج تنفذه، وتدمجه مع أغنية شعبية معروفة ومعبرة عن العمل، ما مكنها من تحقيق تفاعل مع أعمالها، وبدأت تستقبل طلبات الشراء
تحكي لرصيف22 أن قصة حبها للمصغرات وتركيزها على الحارة المصرية بدأت معها منذ ثماني سنوات، بفضل صديقة لها مهتمة بهذا الفن، تقول: "صديقة لي بتشتغله وهي اللي خلتني أحب المصغرات. حببتني في هذا الفن وأنا بحثت وعلمت نفسي بنفسي".
تعتمد نور على عجينة السيراميك خامة أساسية في معظم أعمالها، إلا أنها تستعين بمختلف الخامات المتوفرة حتى تفي بمتطلبات القطعة موضع العمل، وتضيف: "كل الخامات اللي ربنا خلقها بستخدمها؛ خشب - أقمشة - ورق – أسلاك... أي حاجة تخدم تصميمي بستخدمها".
بدأت نور هذا الفن هواية وتسلية بهدف صناعة نموذج مصغر للحارة المصرية. واستغلت مواقع التواصل الاجتماعي للتسويق لأعمالها الفنية، حيث تنشر فيديو قصير لكل نموذج تنفذه، وتدمجه مع أغنية شعبية معروفة ومعبرة عن العمل، ما مكنها من تحقيق تفاعل مع أعمالها، وبدأت تستقبل طلبات الشراء، وهذا ما جعلها تتجه إلى إنتاج مصغرات لبيعها.
شاركت نور العام الماضي في الدورة الرابعة لمعرض "النماذج المصغرة" لعرض أعمالها، وحظيت بإعجاب المشاركين وزوار المعرض.
لعب مع البنات
الصدفة جمعت عزة عاطف، الحاصلة على بكالوريوس تجارة في جامعة الإسكندرية، وفن المصغرات، منذ سبع سنوات، عندما اشترت قطعة صلصال، لابنتيها "صبا وتيا". في هذه اللحظة اكتشفت شغفها. في البداية لم تحدد لنفسها أي اتجاه فني أو أسلوب معين، فنفذت العديد من المجسمات التقليدية، ثم جربت تنفيذ مصغرات أطعمة من المطبخ المصري، في حجم الجنيه المعدني.
تعرضت عزة للكثير من الاتهامات بسبب التفاعل الكبير الذي حققته مصغراتها "كان فيه اتهامات إن شغلي فوتوشوب وغير حقيقي". تغضبها الاتهامات أحياناً، لكنها تعود وتواصل العمل على هوايتها من دون انقطاع
من خلال أعمالها، وثقت عزة الأكلات المصرية بالصلصال الحراري، ونشرت أعمالها عبر مواقع التواصل الاجتماعي مستخدمة هاشتاغ "#مصغرات_الأكل_المصري"، لكنها لا تسعى لبيع منتجاتها بغرض الكسب منها. تقول: "أنا مش ببيع شغلي، هي هوايتي اللي بحبها وبعملها بحب، وبحتفظ بشغلي في بيتي".
كما ركزت على توثيق أطعمة المناسبات والمواسم الاحتفالية كالفسيخ والرنجة في شم النسيم، والبط والمحشي في رمضان، ومشهد الأضحية والمشروبات الرمضانية وحلاوة المولد، وكذلك الأكلات الشعبية المصرية المشهورة ومنها الكشري والفول المدمس والطعمية. وتضيف: "طورت من نفسي وبقيت بعمل الأكلة بخطوات طبخها، وكله طبعاً بالصلصال. يعني المحشي وتحضيراته وهو نيّ وبعد لما استوى".
تعرضت عزة للكثير من الاتهامات بسبب التفاعل الكبير الذي حققته مصغراتها "كان فيه اتهامات إن شغلي فوتوشوب وغير حقيقي". تغضبها الاتهامات أحياناً، لكنها تعود وتواصل العمل على هوايتها من دون انقطاع.
كذلك تستخدم المخلفات المنزلية في أعمالها إلى جانب الاعتماد على الصلصال الحراري والسائل، وهو خامة رئيسية للعمل، وتقدم عبر قناتها على يوتيوب دروساً لتعليم الأطفال صناعة المصغرات. توضح: "أمهات الأطفال بيبعتولي شغل ولادهم وهما مقلدين شغلي ومصورينه بنفس الطريقة، ببقى طايرة من الفرحة".
"اللي جاي أصغر"
تخرج عمر الصالحي، 27 عاماً، في كلية الزراعة، لكنه لم ينتظر فرصة عمل في مجال دراسته، بعدما وجد شغفه طريقه إليه منذ ست سنوات، عندما شاهد نماذج مصغرة لبعض الآلات الموسيقية يعرضها صناع محتوى على يوتيوب. دقة المعروضات وأحجامها والتفاصيل التي تظهر فيها كانت مذهلة بالنسبة له، من هنا بدأ البحث عن فن المصغرات، وقرر أن يخوض التجربة ثم بدأ تنفيذ مجسم آلة موسيقية مستخدماً خشب الابلكاش، من دون أن تكون لديه فكرة عن نسب العمل أو المسافات أو غيرها من التفاصيل الفنية.
شارك عمر القطعة أصدقاءه على حسابه الشخصي على فيسبوك، ورغم تردده في البداية بسبب ضعف جودة المصغر، نال إعجاب أصدقائه الذين دعموه وشجعوه على إنتاج المزيد، ويقول لرصيف22: "تفاعل الناس شجعني أنشر أعمالي في عروبات داعمة للفنون، ومكنتش متوقع رد فعل الناس ودعمهم ليا".
بدأ عمر يمارس هوايته خلال دراسته على سبيل التسلية، ولم يخطط أن تكون أعماله وسيلة للربح. ويضيف: "أنا مكنتش شايف إني بعمل منتج للبيع، وفضلت سنتين ونص رافض موضوع التربح". لكن المصغرات شغلت كل وقته ولم تصبح هواية بل حالة حب غير قادر على التخلي عنها، وتحولت الهواية إلى صناعة ومصدر رزق، وزادت أعداد المقبلين على الشراء وزاد حرصه على إنتاج أعمال أعلى جودة، ويوضح: "في اللحظة دي قدرت اتخلص من فكرة اني اشتغل بشهادتي أو استنى وظيفة تخص مجال دراستي".
أصبح عمر قادراً على تنفيذ أي مجسم يطلب منه وتعلم النحت على الخشب ونفذ شخصيات كرتونية تنوعت بين ثنائية وثلاثية الأبعاد. ويتحدى نفسه طوال الوقت في إنتاج نماذج أصفر حجماً وأكثر دقة، مروجاً لأعماله تحت هاشتاغ #اللي_جاي_أصغر.
بيوت العرائس
باعد القدر بين سلمى علي الصحفي وبين حلمها في الالتحاق بكلية الهندسة أو الفنون التطبيقية لتصبح مهندسة ديكور، والتحقت بكلية التجارة. لكن رغبتها لم تنم وقررت أن تشبع حاجتها لفن الديكور من خلال الانخراط في فن المصغرات.
تصمم سلمى نماذج مصغرة من البيوت بالديكورات العصرية الحديثة وتنفذ التفاصيل الصغيرة من الأطعمة والأثاث والأجهزة الكهربائية وأدوات المطبخ وغيرها
قبل أربع سنوات عادت الصحفي إلى شغفها من خلال تنفيذ نماذج مصغرة من ألعاب الأطفال ومنزل لعرائس ابنتها. هذه التجربة باتت بعد ذلك هي المطلب الرئيسي لكل محبي اقتناء المجسمات المصغرة الذين تعرفوا إلى إنتاجها.
تقول لرصيف22: "الإقبال الأول في أعمالي على بيوت العرايس لأنها حلم كل الصغيرات".
تصمم سلمى نماذج مصغرة من البيوت بالديكورات العصرية الحديثة وتنفذ التفاصيل الصغيرة من الأطعمة والأثاث والأجهزة الكهربائية وأدوات المطبخ وغيرها، وتضيف: "فيه زبائن بتطلب مني أعمل مجسم مماثل لبيوتهم بيستخدموه اكسسوار منزلي".
تستخدم سلمى مختلف الخامات لتنفيذ مصغراتها، وتعتبر أصعب ماكيت قامت بتنفيذه هو أول تصميم نفذته بسبب خبرتها البسيطة ورغبتها في الوصول إلى جودة ترضيها وترضي متابعيها. عملت كثيراً على تطوير مستواها ومستوى منتجها، وتخطت مراحل صعبة في التعامل مع الخامات وتتمنى مستقبلاً أن يكون منتجها ماركة عالمية. وتختم: "أتمنى يكون عندنا منتج محلي ينافس المستورد ويكون أفضل منه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع