شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أجسادُ جزائريات، ساحات معارك

أجسادُ جزائريات، ساحات معارك

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 3 يناير 202301:47 م

صنعت عودة عارضة الأزياء والممثلة الجزائرية نوال قدودو إلى بلاتوهات التلفزة حدثاً نهايات العام الماضي 2022 في الجزائر، فهي من القليلات اللواتي حزن شعبية مطلع الألفية الجديدة، بحضورها الدائم كعارضة أزياء في برنامج تلفزيوني شهير عنوانه "مسك الليل" من إنتاج مؤسسة التلفزيون الجزائري، وعُرض على القناة الوطنية، ثم كممثلة في عدة أعمال ذات شعبية متفاوتة، مثل "حورية بنت الشطآن"، و"ناس ملاح سيتي".

شكلت نوال علامة فارقة في تاريخ البلد، الذي كان يدخل مرحلة جديدة (نظرياً تمتد مما يسمى في الجزائر بـ "العشرية السوداء" (من 1991 حتى 2001 تقريباً) تعد بوقف حمام الدم، ورئيس جديد واثق بامتلاكه مفاتيح إعادة الأمور لنصابها، لا لجمالها وحضورها البديهيين حصراً، بل للوظيفة التي راحت تؤديها بكل أريحية (ولو لفترة قصيرة) في مجتمع كانت لا تزال أخبار القتل تصنع يومياته، وقد قُرئ كنوع من التحدي والصمود في وجه الظلامية.

شكلت نوال علامة فارقة في تاريخ البلد

عودة قدودو بعد ثماني عشرة سنة من الغياب لم تشكل مفاجأة فقط للجمهور الذي أطلق شائعات لسنوات عن مصيرها، بل لأن عودتها جعلتنا ننتبه لغياب "صانعة جمال" وطنية حاضرة وذات وزن، إذ لا نعرف أسماء عارضات أزياء جزائريات ذاع صيتهن عالمياً (عدا ياسمين أوشن)، ولا حتى مشاركة وطنية فاعلة في مسابقات الجمال العالمية الكبرى.

معايير وواقع

لا تمر سنة واحدة دون إجراء بضع مسابقات لاختيار ملكة جمال منطقة، حي جامعي، عيد معين، كما لا يندر أن تطل على الجزائريين فتيات يحملن ألقاباً وطنية أو إقليمية.

كثرة هذه المسابقات وتنظيمها من قبل جهات متنوعة يثيران استياء فيصل حمداد شرادي، الذي يترأس مؤسسة "ملكة جمال الجزائر" منذ سنة 2013، بعد أن أسس لها والده، وأطلق أول نسخة منها سنة 1997 (بعد نسخة مشابهة وغير رسمية سنة 1984، بالتوازي مع منتدى الصداقة) حتى إنه يدلّ على المفارقة التي عرفتها أول مسابقة وطنية للجمال في تاريخ البلد، والتي يحمي حقوق تسميتها "الديوان الوطني لحفظ حقوق المؤلف والحقوق المجاورة"، إذ يروي أن تغطية مجزرة بن طلحة "الرهيبة"، التي تعتبر منعطفاً في تاريخ العشرية الدموية التي عاشتها البلاد، من قِبل المجلة الفرنسية "باري-ماتش"، قد جاورت تغطية فعاليات انتخاب أول ملكة جمال في تاريخ الجزائر المستقلة "حليمة باغا" في عدد واحد.

كيف يصبحن عارضات أزياء في الجزائر؟

المثير في أمر التعاطي مع الجمال في الفضاء العام في الجزائر أنه يتجاوز النقاش حول أهمية امتلاك "صناعة جمال وطنية" إلى تحليل طبيعة التفاعل في الفضاء العام مع المواضيع التي تدور في فلكه، ولإدراك هذه الخصوصية يكفي متابعة التفاعل مع انتشار صور متسابقات من أجل أي لقب كان، إذ سرعان ما يتحولن إلى مادة للسخرية، أو الاستهجان على مواقع التواصل الاجتماعي، سخرية من أشكالهن لعدم مطابقتها معايير الجمال العالمية، والتي يرجعها سفيان حجار، وهو عارض أزياء سابق، وصاحب مؤسسة مختصة في تكوين وتدريب عارضي الأزياء، إلى فرض أصحاب دور الأزياء التقليدية في البلاد لعارضين بمقاييس أكثر شعبية، لملاءمتها "مقاييس العوام"، بسبب غلاء أسعار الألبسة المنجزة، والتي يسعون لبيعها بعد العروض.

سخرية من العارضات

ويطال الاستهجان أيضاً عدم انسجام المرشحات مع معايير الجمال المكرسة شعبياً، كحملة التنمر الواسعة التي طالت ابنة مدينة أدرار في الجنوب الغربي للبلاد، خديجة بن حمو سنة 2018، وهي الفتاة السمراء، الواثقة، ذات الابتسامة الفاتنة.

تستنكر ردود الأفعال تلك على مواقع التواصل الاجتماعي "استعراض المفاتن" المزعوم، رغم انحسار الاستعراضات في أزياء محتشمة عموماً بين ألبسة تقليدية وطنية وأخرى عصرية. ووصل الغلو في التعاطي مع القضية إلى درجة إنشاء مسابقات موازية تدعمها تيارات إسلام سياسي تشجع على تحجيب البنات، وتستهدف "تقوية عفتهن ودعم قيمهن"، رغم ارتباط عدم مشاركة البلاد في "مسابقة ملكة جمال الكون" بمقاطعة استعراض المايوه، إذ أكد السيد حمداد شرادي الذي يترأس مؤسسة "ملكة جمال الجزائر" أن ملكات جمال الجزائر يشاركن في مسابقة "ملكة جمال العالم"، في حين يقاطعن مسابقة "ملكة جمال الكون" بسبب لوحة "المايوه" المفروضة في المسابقة الثانية عكس الأولى، احتراماً لما يسمّى "القيم الوطنية".

بعد انتشار صور ملكات الجمال في الجزائر، سرعان ما يتحولن إلى مادة للسخرية، أو الاستهجان على مواقع التواصل الاجتماعي. لماذا؟

قبل سنوات قليلة أثيرت حملة شرسة على الراقصة الجزائرية المحترفة، صوفيا بوتلة، التي شاركت في الكثير من الأعمال الهوليودية، وهي ابنة الملحن صافي بوتلة، مهندس ألبوم "كوتشي" الذي غناه الشاب خالد، ويعد واحداً من بين مائة أفضل ألبوم في القرن العشرين، بعد ظهورها بمشاهد عُدَت جريئة، رغم أن زميلاً جزائرياً، إبراهيم زايبات، سبق واشتغل مع مغنية البوب العالمية مادونا، بل جمعته علاقة حميمة بها دون أن يتسبب ذلك في أي ردود أفعال.

حملة مشابهة تعرضت لها قريبتها، شيرين بوتلة، التي بدأت مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم ممثلة تشارك في أعمال درامية مهمة في الجزائر، قبل أن تدشن سلسلة أعمال ناجحة في أوروبا.

الحملتان ركزتا على جزائرية انتماء القريبتين "بوتلة"، اللتين لم تكونا بمستواه، حتى إن بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي طالبوا بتجريدهما من انتسابهما للجزائر، كما لو كانتا قد تقمصتا البلد بمساحته وشعبه، وتجاوزت ملكية جسديهما نفسيهما إلى الشعب بأكمله.

قصة أخرى لا تبعد كثيراً عما عاشته بوتلة. مؤخراً انتشر لممثلة جزائرية خمسينية فيديو قصير وهي ترقص في إحدى الحفلات بفستان وُصف بالمكشوف، لتنهال عليها الشتائم والدعوات بالهداية والتحذير من سوء المآل، بل حتى سيدة سطيف العارية، تمثال عين الفوارة، والتي يتردد إليها كل زائري المدينة، تعرضت للتخريب في 2 ديسمبر/ كانون الأول 2022.

تخريب أتى على وجهها بالإضافة لنهديها، ومثل كل محاولة تخريب يبرر الفعل بضعف قوى الفاعل العقلية، غير أن رمزية الفعل تتجاوز علاقة الفرد الجزائري بالفن، ووضعية الفن في الفضاء العام الجزائري إلى علاقته الإشكالية مع الجسد الأنثوي عموماً، إذ تنتشر الكثير من التماثيل البرونزية والرخامية العارية في مناطق كثيرة في البلاد، تماثيل رجالية في الأعم، تتوسط حدائق عمومية من أيام الحقبة الاستعمارية لكن لا أحد يلقي لها بالاً.

الجسد الأنثوي ساحة معركة

لا يمكن بأي حال إنكار دور عشرية الدم الجزائرية في انغلاق المجتمع على نفسه، كما سيطرة التيارات الدينية منذ الثمانينيات على العديد من المؤسسات الرسمية، وخاصة المدرسة التي لطالما كانت مكاناً لتنميط الفرد، وإخراجه إلى العالم بإعدادات مسبقة سيشقى طويلاً قبل التخلص من ترسباتها إذا ما أراد، في عالم تتغير محدداته الثقافية آلاف المرات يومياً، لكن الجسد الأنثوي كساحة معركة في الجزائر له جذور أقدم بكثير.

تذكر جميلة دباش، وهي إحدى أولى الصحافيات الجزائريات التي ولجت الميدان زمن الاستعمار، موقفاً عاشته وهي بصدد السفر إلى الضفة الشمالية من المتوسط، على متن باخرة في النصف الأول من القرن الماضي. في ذلك الزمان، كانت النسوة من الأهالي يوضعن في مكان بعيد عن نظيراتهن من أصول أوروبية.

ملكات جمال الجزائر يشاركن في مسابقة "ملكة جمال العالم"، في حين يقاطعن مسابقة "ملكة جمال الكون" بسبب لوحة "المايوه" المفروضة في المسابقة الثانية، احتراماً لما يسمّى "القيم الوطنية"

تحكي دباش عن تجربتها فتقول إنها واجهت العنصرية مرتين، مرة حين سيقت إلى المكان المخصص للأهالي، ومرة من قبل النسوة الجزائيات اللواتي أخذن ينظرن إليها نظرات استهجان، هن اللواتي بدورهن كن عرضة لحملات ما سميت بـ "تحرير النساء" من قبل الإدارة الاستعمارية وإقناعهن بالتخلي عما يصنع تفردهن في ظل نظام أبارتهايد خالص، إذ أجبرن في كثير من الأحيان على التخلص من الألبسة الشعبية في ذلك الوقت من "حايك"، "ملاية" و"محرمة"، وغيرها من الألبسة الجزائرية التي لم تتلاءم مع قيم "الرسالة الحضارية" للقوة الاستعمارية".

بعد عقود طويلة بعد الحادثة لا تزال علاقة الجزائري مع جسده مهزوزة بشكل عام، ومع جسد المرأة تحديداً، رغم بعض الاستثناءات التي يفرضها الواقع، إذ يذكر سفيان حجار أن ولوج مواقع التواصل الاجتماعي لحياة الجزائريين أفرزت تغير الكثير من الرؤى، فلم يعد مجال "المانكينا" بدرجة "تابوه"، ويبرهن على ذلك باستقباله الدائم للكثير من الأشخاص من الجنسين الذين يبحثون عن فرص في مجال عروض الأزياء، بل إن البعض يأتون مصحوبين بأوليائهم، لكنه يجعل من غياب صناعة وطنية للألبسة السبب الأساسي لعدم تطور هذا المجال في الجزائر.

يصر شرادي حمداد على استخدام عبارات توقير قبل اسم أي ملكة جمال جزائرية، يشيد بمستويات التعليم العليا التي تمتلكها، خصوصاً ملكات جمال الجزائر في السنوات الأخيرة

كما يتفق مع السيد حمداد شرادي في وقوف المبالغ الكبيرة التي تتطلبها المشاركة في مسابقات الجمال العالمية عقبة أمام مشاركة الجزائر في مثل هذه المواعيد، بل يضيف السيد شرادي أن صعوبة استخراج تأشيرات السفر تشكل أحياناً عقبة أخرى، إضافة لحالة الهرج وسوء التنظيم تطال مسابقات جمال موازية وتجعل عقود الرعاية مع بعض الشركات تتبخر.

يصر شرادي حمداد على استخدام عبارات توقير قبل اسم أي ملكة جمال جزائرية، يشيد بمستويات التعليم العليا التي تمتلكها، خصوصاً ملكات جمال الجزائر في السنوات الأخيرة كـ"ريم عماري"، ملكة جمال الجزائر 2013، التي سافرت إلى أوروبا للدراسة قبل أن تصبح إحدى أهم الإعلاميات ومقدمات الأخبار في الجزائر.

وكذلك ميليسا حامومراوي، التي تواصل دراستها بأوروبا بالتوازي مع حملها للقب في السنة الجارية 2022، كتبرير ضمني لجدية هذه المسابقات، رغم غياب إطار تشريعي لميدان النشاط هذا، كما لو كان يسعى لإثبات مشروعية وجود مثل هذه المسابقات، وللوقوف في وجه التشويه الذي يطال سمعة مناسبات كهذه، في بلد زحف القبح على روحه بفعل الأزمات المتلاحقة، وعمق انفتاحه الأعرج على الاقتصاد العالمي من فصامه في غياب إستراتيجيات واضحة قادرة على استيعاب الاختلاف أو حتى تشجيعه، والاستجابة لتطلعات الأفراد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image