يأتي ذكر نشأة "العلمانية" عادةَ مصحوباً بعصر النهضة الأوروبي، خاصة من خلال الحركات الفكرية والكتابات الفلسفية التي سادت القرن السابع عشر، إذ تمثّلت بوادر المطالبة بفصل السلطة الزمنية (الأرضية – الدولة) عن السلطة الدينية (اللازمنية – المطلقة) في إنتاج سبينوزا.
في كتاب "النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام" تشير كارين آرسمترونغ إلى أن سبينوزا كان منشغلاً بأن النهضة تتطلب مرونة في أدوات الإصلاح، وبحكم أن السلطة الدينية تعتمد على المطلق والتشريعات الثابتة، فإنها لا تستطيع أن تكون دائماً الحل الأنسب لقيام المجتمعات، ولا بُد من استبدالها بمعايير أكثر كونية، مثل المساواة وحرية التعبير والإخاء.
بحكم الظرف التاريخي، و ثبوتية "الخِلافة" في كثير من الدول العربية حتى مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، كانت أفكار عصر النهضة الأوروبي بعيدة عن التطبيق، لكنها بحكم التداخل، والاتجاه الاستعماري الأوروبي نحو المنطقة العربية بداية من نهايات القرن الثامن عشر، ظهرت أولى المقابلات مع الفكر العلماني بصورة مبدئية خلال الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801) وظهر أثرها فيما كتبه المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، مسجلاً أولى انطباعاته عن الحملة الفرنسية، فقال عن ناسها: "يحكمون بالعقل ولا يتدينون بدين".
جاءت أولى صياغات مصطلح (علماني- secular) في مصر من خلال أحد مترجمي الحملة الفرنسية، واُدرج التعريف الجديد ضمن قاموس فرنسي عربي في 1828، وتم إيراد المصطلح من خلال مجمع اللغة العربية في "معجم الوسيط" 1960.
ما بين سنوات الحملة الفرنسية وحتى مطلع القرن العشرين، ظهرت محاولات ناشئة، تبنّاها مجموعة من المثقفين العرب، انفتحوا في مقتبل حياتهم على العالم الكبير من خلال التعلُّم في الخارج، ودفعهم إطلاعهم الواسع إلى النظر في الأحوال العالمية، وكيف تتطور الأمم بمعايير مدنية
بدايات عربية
ما بين سنوات الحملة الفرنسية وحتى مطلع القرن العشرين، ظهرت محاولات ناشئة، تبنّاها مجموعة من المثقفين العرب، انفتحوا في مقتبل حياتهم على العالم الكبير من خلال التعلُّم في الخارج، ودفعهم إطلاعهم الواسع إلى النظر في الأحوال العالمية، وكيف تتطور الأمم بمعايير مدنية.
مفهوم "العلمانية" الذي حاول المثقفون العرب تتبّعه واختبار آثار تطبيقة –ولو نظرياً-، يختلف قليلاً عن المفهوم المعاصر للعلمانية، إذ دفعنا عصر الحداثة وما بعدها إلى سلسلة من التركيبات والتفريعات داخل كل اتجه فكري أو سياسي، لكننا يمكن وضع تعريف مبدئي لمشروع العلمانية في العالم العربي، على أنه يقضي بالفصل بين السلطة الزمنية والروحية، ولا تنطلق السلطة –كليَا- من الكود الديني للتشريع، وكذلك لا يتم التحاكم إلى المنابر الدينية للتدخل في السلطات السياسية من خلال وازع ديني.
في هذا المقال، نتتبّع ثلاثة مراحل مركزية في مشروع بُتر مبكراً، في مرحلة نشأة الاتجاهات العلمانية في المشرق العربي، وفي القلب منه مصر.
الاشتباك الأول
خلال تتبّعه الفكر العربي في عصر النهضة، يشير المؤرخ ألبرت حوراني، إلى ظهور نخبة جديدة من الموظفين والأساتذة في دول السلطنة العثمانية، منتصف القرن التاسع عشر. وأدركت تلك النخبة الجديدة ضرورة التدخل في إصلاح الإمبراطورية التي كانت في مرحلة تداعيها وتحديد حضورها في ممارسات صورية.
مصر مثلاً، ترأس عرشها إسماعيل باشا الذي تعلّم تعليماً فرنسياً، وظهر طلّاب المدارس المسيحية في لبنان وسوريا، وعلى الرغم من ضعف قدرتهم على الاشتباك المباشر في حكم بلاد إسلامية، لكن تأثيرهم كان فعّالاً في نواحٍ أخرى، إذ عملوا مترجمين في الحكومات والقنصليات الأجنبية.
التعددية اللغوية عند جمهور الصحافة العربية المبكرة في القرن التاسع عشر، دفعتهم إلى التساؤل حول ماهية المجتمع الفاضل، وكيف يمكن الانطلاق من قاعدة مغايرة للإصلاح، وهل يمكن بدء ذلك من خلال الشريعة الإسلامية؟ أم من الضروري التقيّد بالتعاليم الأوروبية المعاصرة؟
كان لهذه الأسئلة شرارة أولى سابقة، تمثّلت في ظهور رفاعة الطهطاوي (1801- 1873)، الذي تعلّم في الأزهر، وتتلمذ على يد الشيخ حسن العطّار، ومن خلال سفر الأخير إلى فرنسا، كانت لديه دراية جيّدة بالعلوم الأوروبية، درّسها لرفاعة الطالب ورشّحه لمرافقة أول بعثة تعليمية مصرية إلى فرنسا.
خلال وجود رفاعة في فرنسا، تحول اهتمامه إلى المنطق والفلسفة الإغريقية - كان لها أثرها المبكر في التاريخ الإسلامي من خلال حركات الترجمة لإسلامية المبكرة أثناء الخلافة العباسية- إضافة إلى حقول معرفيّة مُعاصرة أثّرت في نظرته للتعليم في مصر لاحقاً. إضافة إلى توسيع مصادره المعرفية؛ تأثر رفاعة بجان جاك روسو، لا سيما مبدأ العدل في كتاب روسو المرجعي "العقد الاجتماعي"، ويقوم المبدأ على انطلاق العدل في تأسيس المجتمعات من خلال وضع مصالح المحكومين كأولوية، من دون النظر بشكل مسبق لقدسية القاعدة.
يشير كتاب "الفكر العربي في عصر النهضة" إلى التزام رفاعة تجاه طرف المحكومين في معادلة الدولة، إذ رأى أن عملية الحكم تحتاج النظر بعين التفضيل والتبديل بالنسبة للأكواد الدينية الحاكمة.
رغم النظرة النقدية للحضور الديني في تشريعات الدولة المصرية، لم تكن الفكرة متعلقة "بالأصول" عند رفاعة، لأنه يذكر في كتاب "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" أن المرجعية ضروري أن تكون إسلامية، وللحاكم سلطة تنفيذية مطلقة تقوم على مبدأ "الخليفة-السلطان" لكن هذه السلطة يجب أن نقلل من حيّز إطلاقها، ويُتاح وضع تشريعات –موضوعة- تقوم على تفضيل مصلحة الشعب.
ثمّة توجيهات أخرى مركزية في مشروع رفاعة الإصلاحي، إذ يذكر في كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" ضرورة تعليم البنات وتضمين شراكتهم مجتمعياً، لخلق زواج متجانس وتربية أبناء صالحين، وتمكين المرأة من مشاركة الرجل في العمل.
السؤال الأساسي الذي شغل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، هو محاولة ربط المسلمين بالعالم الحديث، دون تخلِ كليّ عن الدين، لكن أيضاً مع وضع معايير تقدّر القوانين المدنية الموضوعة
لم يكن رفاعة وحده صاحب الريادة في المناداة بالنظر إلى التطور الأوروبي. إذ يذكُر أحمد أمين في كتاب "زعماء الإصلاح في العصر الحديث" خير الدين التونسي (1820- 1890) المولود في القوقاز لعائلة شركسية، الذي ذهب إلى اسطنبول طامحاً في مهنة عسكرية. تعلّم التونسي في فرنسا، غير أنّ توجهه الإصلاحي كان أكثر عمقاً من رفاعة، لأن خير الدين نظر إلى ضرورة الإصلاح من خلال وضع وتعديل التشريعات الدستورية، وهي نقلة من الالتجاء للكتب المقدسة والفتوى باعتبارها مصادر وحيدة للتشريع وشرعية الحكم.
بسبب عمله لمدة ست سنوات في حركة الإصلاح الدستوري 1860، عُزل خير الدين من منصبه، لأنّه أوصى بوضع مواد تقلل من سلطة الخليفة المطلقة. ركّز خير الدين على فكرة إزاحة الحاكم من مقام القداسة، ووضع حيثيات حكمه في إطار مدني ومؤسسي، وأن الضرورة اللازمة لتحقيق "العدالة" هي تقييد سلطة الحاكم.
تشجيع خير الدين على حضور أكثر تأثير للمؤسسات السياسية القائمة على العدل والحرية، لم يكن أفضل خطاب في نظر "دولة الخلافة" العثمانية، إذ كانت الإمبراطورية في مرحلة التداعي. ذهب مجد العثمانيون الأوائل، ولم تعد هناك أداة سلطوية فاعلة سوى الاستناد على مركزية المُقدّس، كبوابة للإنفراد التام بالسلطة.
رأي التونسي أن الضرورة اللازمة لتحقيق "العدالة" هي تقييد سلطة الحاكم
السؤال الأساسي الذي شغل رفاعة وخير الدين، هو محاولة ربط المسلمين بالعالم الحديث، دون تخلِ كليّ عن الدين، لكن أيضاً مع وضع معايير تقدّر القوانين المدنية الموضوعة. رغم أن هذه الفكرة تظل بعيدة عن المبدأ الجوهري للعلمانية "فصل الدين عن الدولة"، لكن مُجّرد المناداة بالانفتاح على أفكار العالم، هي فكرة ضد المنبع القبلي للدين، وبالتالي نتج عن خطاب الإثنين محاولات أكثر منهجية في النظر إلى إمكانات الإصلاح، من دون حكم مسبق بالتراتبية بين الديني والموضوع.
البحث عن المرأة
بعد الرؤية الطليعية للدولة المدنية الحديثة التي نظّر لها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في مصر، ظهر من خطاب المُعاصرَة فريقان، الأول انتزع "ضرورة المرجعية الدينية" عند محمد عبده من سياقها الفكري، وتحوّلوا إلى ما يشبه التيار السلفي. أما الفريق الثاني، فطوّر خطاب تمازج المدني مع الديني، وحاول تضمين قاعدة (فصل الدين عن الدولة)، ولو بصورة جزئية وحذرة.
في 1899 نشر قاسم أمين كتاباً عن تحرير المرأة، يشير فيه إلى مسببات الانحطاط المجتمعي وزوائل الفضائل بين الناس، وأعاد ذلك إلى الجهل بالعلوم الحديثة، وكانت رؤيته أنه حتى لو تم التقيّد وتطبيق التشريعات الدينية، لا غنى حالياً عن ملاحقة الجديد من العلوم والمعارف المعاصرة، لأنها قطب يؤثر في التطور بنفس قدر الدين.
في كتابه الثاني "المرأة الجديدة" عبر قاسم أمين بوضوح أن الدين لا يستطيع وحده أن يخلق مجتمعاً ودولة مدنية، إذ أن تطور المجتمع يتوقف على عدّة عوامل، الدين واحد منها وليس جميعها
وضع قاسم أمين عقدة مبدئية للصدام مع أحد القواعد الدينية المُتفق عليها، رغم أنّه مهّد لذلك بأن المشكلة ليست في النص؛ بل في معتنقيه واتجاهاتهم.
حينما نادى قاسم أمين في كتابه بضرورة تعليم المرأة وإشراكها في المجتمع، لم يكن خطابه منوطاً بالتعليم فقط، بل تطرق إلى الحجاب، وبمعايير منفصلة عن الدين، إذ تناول الأمر من خلال قاعدة موازية، حيث تمامَ الحضور الجسدي وتجاوز الحذَر المسبق من التطرق إلى ذلك الحيّز المحظور. رأى قاسم أن الحجاب يمنع عن المرأة وجود كامل وحقيقي، وفي ذلك تأثير على ماهية حضورها كطرف مجتمعي له وجود مُجهّل.
في كتابه الثاني "المرأة الجديدة" بدأ قاسم التعبّير بوضوح أن الدين لا يستطيع وحده، أن يخلق مجتمعاً ودولة مدنية، إذ أن تطور المجتمع يتوقف على عدّة عوامل، الدين واحد منها وليس جميعها.
على مستوى أكثر منهجية ومواكبة للفكر المعاصر، ظهر أحمد لطفي السيد (1963-1872) في المشهد السياسي/ الفكري المصري الحديث، بأنماط من التفكير الأوروبي، أهمها تأثره بالمؤرخ الفرنسي إرنست رينان ومواطنه إميل دوركهايم. يشرح ألبرت حوراني في كتاب “الفكر العربي في عصر النهضة” تأثّر لطفي السيد بذلك النمط، فيقول: "المجتمع البشري متجه، بحكم سنّة التقديم الذي لا يُقاوم، نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل واتساع أفق الحرية الفردية وازدياد التخصص والتشابك، وحلول العلاقات القائمة على التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العلاقات القائمة على العادات والأوضاع الراهنة".
الطلائع
في سبعينيات القرن التاسع عشر، ظهر لونان جديدان من الصحف العربية، الصحف السياسية المستقلة والمجلات المهتمة بعرض تشابكات الفكر العربي بالأوروبي والأمريكي.
عمل هذان النوعان من الكتابة المستقلة على تقديم أخبار السياسات العالمية، ومواكبة الوضع الراهن، من هذه المجلات كانت "الجنان" لبطرس البستاني، التي استمرت ستة عشر سنة ثم توقفت بسبب قمع السلطان عبد الحميد الثاني لمثل هذه المجلّات. وانتقل كثير من كوادر الصحافة العربية في لبنان إلى القاهرة، نظراً لأن بها قاعدة قرّاء أوسع ومساحة أكثر حرية في الكتابة.
رغم تجاهل تلك الصحف الجديدة للاشتباك السياسي المباشر، لكن أهمّيتها تمركزت في موضوعاتها العلمية، وتتبعها الحذر للتساؤلات حول ماهية أصول الأشياء، وكيف يمكننا البحث عنها خارج إطار ديني
من أشهر جرائد القاهرة في هذه المرحلة، جريدة "المقتطف"، أنشأها يعقوب صروف وفارس نمر، الأستاذان السابقان في الكليّة البروتستانتية السورية. استمرت المقتطف حوالي نصف قرن، ويمكن توضيح طبيعة مضمونها من خلال عدد يناير-كانون الثاني 1896، الذي نُشر خلاله عدة مقالات عن الأمراض المُعدية وآليات الوقاية منها، والميكروبات في الهواء، و"بحث علمي فلسفي عن الاختلافات بين الرجل والمرأة"، وأيضاً تحليل فلسفي لموقع الإنسان التراتبي بين الحيوانات.
أسَّس جورجي زيدان (1861-1914) مجلة "الهلال" – أقدم مجلة ثقافة عربية لا تزال تصدر إلى الآن- في وقت مقارب لصدور المقتطف، كان زيدان أحد السوريين المهاجرين إلى مصر، اعتمد في الهلال على حقول أكثر نظرية من معلوماتية المقتطف، كتب في علم الاجتماع والسياسات العالمية والجغرافيا والتاريخ واللغة والأدب وآثار العرب. نجد مثلًا في عدد شباط فبراير 1913 مقالات عن النظام الاجتماعي، وميكافيلي وابن خلدون، وفصول تاريخية عن طائفة الحشّاشين، وقراءات في التطورات السياسية الحديثة في فرنسا وانجلترا.
لم ترضِ موضوعات الصحف الناشئة كثير من الدول العربية، أحدها كان العراق، الذي لم توّزع مجلة المقتطف به إلا في إطار ضيّق، إذ اعترض عليها محافظون مسلمون ومسيحيون ويهود، لأنها كانت في نظرهم "تنشر عقائد جديدة وخطيرة"
ورغم تجاهل هذه الصحف للاشتباك السياسي المباشر، لكن أهمّيتها تمركزت في موضوعاتها العلمية، وفي تتبعها الحذر للتساؤلات حول ماهية أصول الأشياء، وكيف يمكننا البحث عنها خارج إطار ديني، ومن ناحية أخرى محاولة تعديل جهات الاطلاع المباشرة لدى القاريء العربي، يأتي ذلك انطلاقاً من قبل مؤسسي الصحف تجاه أهمية المدنية، من دون مرجعية عقائدية مسبقة.
بطبيعة الحال، لم ترضِ موضوعات تلك الصحف الناشئة كثير من الدول العربية، أحدها كان العراق الذي لم توّزع مجلة المقتطف به إلا في إطار ضيّق، إذ اعترض عليها محافظون مسلمون ومسيحيون ويهود، لأنها كانت في نظرهم "تنشر عقائد جديدة وخطيرة".
جاء أثر هذه الصحف و المجلات في جيل لاحق، استطاع أن يعبر عن لُبّ الجدل الديني والمدني بطرق أكثر تنظيماً ووضوحاً. منهم فرنسيس مرّاش (1836- 1873) الذي درس الطب في باريس. ورغم أنه توفي مبكراً، لكنه ترك، بجوار عدّة قصائد، قصة غابة الحق، التي كُتبت على شكل حوار يعالج فيها ضرورة إنشاء دول عربية مدنية حرة، تقوم على المساواة وحرية الاعتقاد.
جاء الصحفي اللبناني فرح أنطون (1874- 1922) إلى القاهرة، وقضى حياته منتقلاً بينها وبين نيويورك، عمل رئيس تحرير "المجلّة" التي كانت ذائعة الصيت آنذاك.
القراءة الطويلة عن ابن رشد، التي نشرها أنطون في المجلّة وصدرت لاحقاً في كتاب، فتحت جدلاً معرفياً واسعاً. واشتبك فرح أنطون من خلال كتاباته في المجلة مع أفكار محمد عبده. تلك الاشتباكات، يمكننا اعتبارها النموذج الأولي، والوحيد، لمشروع العلمانية –بمعايير أوليّة- في الوطن العربي، والذي بدأ كمجرد فكرة منذ رفاعة.
الخلاف الحاصل بين محمد عبده وأنطون كان حول محورية الدين ومركزيته، إذ اعتاد محمد عبده العودة إلى الدين الإسلامي باعتباره الجوهر المركزي والمتطور والأرضية الثابتة، بينما أنطون استطاع في هذه المرة أن يُعبّر عن فكرته بصورة أكثر وضوحاً، بعيداً عن حذر أساتذته.
تسبب الجدل بين محمد عبده وأنطون حول مركزية الدين في الإدارة والحكم، في القطيعة بينهما، وبعدها غابت المنطقة العربية في تتابعات سياسية أطاحت بكثير من بوادر محطات "العلمنة" المبدئية
رأى أنطون أن الدين هو ممارسة روحية أكثر منه أداة بناء مجتمع متكافل ومُعاصر، كانت هذه النظرة مستقاه من خلال إرنست رينان في كتاب "ابن رشد والرشدية". جدير بالذكر أن رينان وهو أحد مترجمي "الكتاب المقدّس"، ذكر في ترجمته ضرورة نقد المصادر التاريخية المقدسة نقداً عملياً وتمييز ما بها من عناصر أسطورية.
يرى ألبرت حوراني أن مفهوم العلم عند أنطون مطابق لمفهوم رينان، إذ رأى الأول أن العلم "لا بُد أن يخرج من حيّز الجميل الصافي المتسم باللاجدية، وأساسيّ أن نقرأ الإنسان من خلال قوتين: العقل والقلب".
لكل من القوتين أساليب عمل وطرق في إثبات الحقيقة، فالقلب يأخذ من الكتب المقدّسة، لكن "دون فحص أساسات هذه القواعد"، بينما العقل له سياق أكثر تعقيداً، وأكثر قدرة على التأثير، ومن خلاله يمكننا إنتاج مجتمع متماسك وعصري. وفي الأخير لا يمكن أن تجور قوّة على أخرى، والمقياس العمومي في هذا السياق هو المساواة الكليّة، على اخلاف المعتقد، طالما هناك شراكة المواطنة.
انقطاع
تسبب الجدل بين محمد عبده وأنطون في القطيعة بينهما، وبعدها غابت المنطقة العربية في تتابعات سياسية أطاحت كثيراً من بوادر محطات "العلمنة" المبدئية.
على الرغم من جماعية الحذر في العرض عند النماذج التي ذكرناها، يظل الأساس السياسي مشتركاً بينهم جميعاً، وهو وضع أسس مدنية يتشاركها المسلمون والمسيحيون وغيرهم على أساس من المساواة التامة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...