شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"سأقيم مقهى ثقافياً شرقياً لمساعدة الألمان على فهمنا"... الفن من أجل الاندماج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الخميس 22 ديسمبر 202203:01 م

مبهورة بعنوان فيلم أمير كوستاريكا "الحياة معجزة"، رحت أتتبع حكاية فرهاد التي تبدو فعلاً كمعجزة، إذ اتّخذ من الفن وسيلة للتواصل مع الآخر، وتشكيل علاقات ومعارف، وتأسيس شخصيته الفنية في نفس الوقت.

بدأت حكاية فرهاد القادم من سوريا، تحديداً من منطقة عفرين، إلى ألمانيا، كغيره من السوريين الذين فرّوا من جحيم الحرب، ليجد نفسه في مجتمع لا يعرف عنه شيئاً.

ولأنه لا يريد أن يبقى أسير العزلة داخل الكامب الذي يتقاسم فيه يومياته مع أجانب مثله "من سوريين أو من جنسيات أخرى"، ولأنه لا يستطيع الانخراط في خطة الاندماج الحكومية، إذ لم يحصل بعد على إقامته الرسمية التي تخوّله تعلم اللغة والانخراط في سوق العمل، وفوق ذلك، جاء خلال محنة الكورونا التي أجبرت العالم على العزلة والوحدة. فقد ابتكر فرهاد أداته الخاصة لاختراق العزلة.

الفنان فرهاد حسن 

"كنت أشعر بفراغ كبير، ولا أعرف كيف أمضي وقتي، وكنت مهتماً بالتعرف على هذا المجتمع، وتأسيس علاقات مع أفراده"، يقول فرهاد، شارحاً لي كيف بدأ مشروعه المُبتكر، بحسب شهادات الألمان أنفسهم، عبر اختيار "ستايلات" محددة من الشارع، وتصويرها، ونشر هذه الصور والفيديوهات التعريفية بهؤلاء النماذج المُختارة.

سبق لفرهاد أن قام بعدة محاولات في المونتاج لمقاطع فيديو قصيرة يصورها وينشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها كانت عابرة كما يقول، وليست جذابة.

"رأيت مصوراً كازاخستانياً، يعيش هنا في ألمانيا، يقوم بتصوير الناس في الشارع، فجذبتني الفكرة وقلت في نفسي هذا تماماً ما أريد أن أفعله!". فرهاد حسن

يقول: "رأيت مصوراً كازاخستانياً، يعيش هنا في ألمانيا، يقوم بتصوير الناس في الشارع، فجذبتني الفكرة وقلت في نفسي هذا تماماً ما أريد أن أفعله!".

لم يملك فرهاد سوى كاميرا هاتفه، لكن هذا العمل يحتاج إلى كاميرا احترافية، وعدسة، وحامل الهاتف، وإلى كمبيوتر أيضاً. لهذا كان مضطراً إلى العمل في أي مجال ليتمكن من شراء هذه الأغراض. وهذا ما فعله، فور انتهاء الحجر الصحي، عمل في مطعم، بعد انتهاء دروس اللغة، التي صارت من حقه، إثر حصوله على الإقامة.

الجرأة: الخطوة الأولى

يتابع حديثه: "الشارع يحتاج إلى جرأة. للتحدث مع الألمان، خاصة إن كنت جديداً في البلد، ولا تتقن اللغة، فهذا يتطلب منك جهداً كبيراً. والناس ليسوا دائماً في مزاج جيد يسمح لهم بالابتسام لك والترحيب بك والموافقة على أن تقوم بتصويرهم، بل على العكس، قول لا، هي أسهل بكثير عليهم من قول نعم. كثيرون ممن طلبت منهم التقاط صورهم، اعتذروا بلطف. لكنني لم أستسلم. كنت أوقف الأشخاص الذين يلفتون نظري بطريقة ملابسهم المختلفة، وأشرح لهم، وأريهم بعض نماذج سابقة من عملي، وهكذا أخلق لديهم الفضول. كنت أشعر بالسعادة حين أرى نظرة الإعجاب لدى أحدهم، ولسان حاله يقول: "يبدو أن هذا الشخص يقوم بعمل مهم. كنت أسير وأسير لانتقاء النموذج الذي أود تصويره، ثم أتخذ القرار بالتحدث إليه وإقناعه بلطف، وأنا لا أتقن اللغة".

لاختراق مجال التواصل وتحقيق مكانة جيدة يحتاج المرء إلى جمهور من المتابعين، لأن هذا يعني المصداقية، ويقنع الآخر بجدية العمل. إذ يتم تقييم العمل بحسب عدد المتابعين. لهذا كان هدف فرهاد أيضاً منصبّاً على تشكيل قاعدة جماهيرية من الجيل الشاب الألماني، لأنه الفئة المستهدفة في نشاطه.

يقول: "إذا كنت شخصاً عادياً لن ينجذبوا لك، ولن يكون لديهم الفضول للتعرف عليك. قبل الكاميرا، كان التواصل صعباً، سواء من حيث بناء صداقات مع الألمان، أو من حيث العلاقات العابرة. أما اليوم، فقد صار لدي أصدقاء ألمان، وصارت بعض الموديلات والعارضات يطلبن مني مرافقتهن والتقاط الصور في أماكن مميزة وطرق فنية جذابة، لم أفكر بها أنا من قبل، وتطورت مهاراتي من خلال هذه التجارب".

 هناك قرابة عشرين ألف متابع لحسابات فرهاد في المدينة الألمانية التي يقيم فيها، مع رسائل تشجيع لم يكن يتوقعها تشكره على الصور وتطالبه بالاستمرار.

اليوم في المدينة الألمانية التي يقيم فيها فرهاد، هالا، هناك قرابة عشرين ألف متابع لحساباته، مع رسائل تشجيع لم يكن يتوقعها تشكره على الصور وتطالبه بالاستمرار، لأنه يقدم صورة جميلة وجديدة وجذابة للمدينة وأهلها.

صارت تلك المهنة، التي هي في الأصل هواية لا تجلب المال، وسيلة تواصل معرفي وفكري.

لافا، مقهى الأحلام: لوحات ورقص وأفلام وطعام

حكاية "لافا" أيضاً تشبه قصص السينما التي لا نصدق حدوثها في الواقع.

لافا التي التقيت بها قبل أكثر من عشر سنوات في تركيا، وكانت تغني وتعتبر مشروعها الرئيسي هو الغناء والموسيقا، وبدأت رحلتها كمغنية في ألمانيا عبر بعض الحفلات.

الفنانة لافا مسلم

فوجئت وأنا أتابعها مؤخراً على صفحتها في الفيسبوك باشتغالها في عالم الرسم والألوان بطريقة محترفة عبر معارض للرسم خاصة بها.

لهذا تواصلت مع لافا لتحكي لي قصتها الجديدة في ألمانيا، قصة هذا التحول المفاجئ من الغناء إلى الرسم.

تحدثني لافا أنها كانت تشعر بإحباط شديد وعجز عن إنجاز أي شيء في ألمانيا، خاصة بعد إنجابها، واعتنائها بطفلها، وصعوبة اللغة الألمانية، فراحت تدخن كثيراً ولجأت إلى تدخين "الحشيش"، ومتابعة اليوتيوب مطولاً، إلى أن أذهلتها اللوحات التي كانت تتفرج عليها والتداخلات اللونية، فتوقفت بغتة عن هذا الشرود الدائم في اللاشيء، واستعادت علاقتها باللغة الألمانية وضرورة التركيز على طفلها.

تقول: "كلما كنت أشعر بالضيق، أجلب ورقة وألواناً وأبدأ بالرسم بكل الألوان التي معي. مشهد الألوان الذي يظهر لي وأنا معتزلة عن العالم ومكتئبة، كان يشعرني بالرضا والسلام الداخلي".

راحت لافا تشارك أصدقاءها على وسائل التواصل الرسوم التي تقوم بها، إلى أن تلقت من إحدى الجهات في مدينة إقامتها الألمانية عرضاً للمشاركة في معرض مع فنانين آخرين

قامت لافا بمشاركة أحد رسومها على فيسبوك، ونالت عليه، كما تصف لي، قدراً لا بأس به من الثناء والإعجاب، وقامت إحدى الفنانات بتشجيعها. وهكذا راحت لافا تشارك أصدقاءها على وسائل التواصل الرسوم التي تقوم بها، إلى أن تلقت من إحدى الجهات في مدينة إقامتها عرضاً لمعرض مشترك مع فنانين آخرين.

تتالت العروض والمعارض وبدأت الصحف الألمانية تكتب عن لافا، وصارت عضوة في نقابة الفنانين، واستلمت مرسماً يحتوي "كل شغفي وأحلامي" كما تقول. ثم أنهت مستوى اللغة المطلوب للالتحاق بكلية إدارة الأعمال الدولية، وهي اليوم بصدد إقامة مقهى ثقافي شرقي لمساعدة الألمان على فهمنا نحن السوريين بشكل أفضل من خلال اللوحات والمعارض والقهوة والأكل الشرقي والعروض الترفيهية كالرقص الشرقي والأفلام الوثائقية، أملاً منها ببناء جسر من التواصل بين الثقافتين.

الفن بوصفه أداة تعبير عن الذات

تقول لافا إن الرسم ساعدها على تشكيل هوية بصرية استطاعت من خلالها التعبير عن نفسها والتواصل مع الآخر.

من خلال الموسيقا والغناء، كانت لافا ترى علامات الاستفهام تلوح فوق رؤوس الألمان، الذين لم يكونوا قادرين على الإحساس بالموسيقا الشرقية والتفاعل معها.

"كنت أرى هذا في وجوههم". تقول لافا، "ولم يكونوا يفهمون الكلمات حتى حين تُترجم".

لذلك وجدت لافا في الرسم خلاصها، وطريقة للاندماج مع مجتمع لا يعرف شيئاً عن ثقافة البلد الذي جاءت منه هي والكثير من السوريين.

عبر لوحاتها، تمكنت من إعلان هويتها، وجذب الآخرين إليها، كما تمكن فرهاد من التفاعل مع محيطه وجذب الجمهور من خلال صوره. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

أكثر من مجرد أرقام

نظراً إلى الحروب والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، شهد العقد الماضي تشريد ملايين الأشخاص في منطقتنا.

سواء كانوا نازحين داخلياً، أو اضطروا إلى عبور القارات بحثاً عن منزل جديد، فإن الأشخاص الذين تم تشريدهم غالباً ما يتم تمثيلهم على أنهم أرقام ثقيلة العبء في وسائل الإعلام.

نحن مهتمون بقصصهم الشخصية. نؤمن بأن وسائل الإعلام لديها واجب تسليط الضوء على الكرامة الإنسانية، لا التقليل منها.

Website by WhiteBeard