أول مباراة شاهدتها للفريق البرازيلي، كانت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. كان عمري حينها نحو عشر سنوات. في الحقيقة، هي لم تكن مباراةً كاملةً بل نحو دقيقتين، عرضهما التلفزيون السوري ضمن برنامج رياضي أسبوعي اسمه: "محطات رياضية"، وكان يقدّمه عدنان بوظو.
بالرغم من ذلك، كنت أشجّع هذا الفريق وأحفظ أسماء بعض لاعبيه منذ عمر الست سنوات؛ لأنّ الفتى ابن الرجل الأكثر ثراءً في قريتي، والذي يكبرني بسنوات عدة، كان يشجع الفريق البرازيلي ويرتدي لباسه، والأهم من ذلك أنه كان الوحيد الذي يملك كرة قدم في تلك الأيام.
الفتى الأقوى من منظمة الفيفا
القانون كان واضحاً وصارماً: من لا يُشجع منتخب البرازيل لن يلمس كرتي! هذا ما صرّح به ذلك الفتى الذي كان أقوى من منظمة الفيفا، لأنه يملك رأس المال، "كرة القدم"، وتالياً يملك السلطة المطلقة في اتخاذ كل القرارات التي تخص هذه اللعبة ولاعبيها ضمن قريتنا، مثل تحديد موعد اللعب وانتهائه، واختيار اللاعبين الذين يحق لهم المشاركة، وطرد أي لاعب سواء من فريقه أو من فريق خصمه، وما شابه...
كان السيد الذي نخاف من إغضابه ورفض طلباته. فمثلاً، أنا وأقراني سرقنا له أكثر من مرة الدرّاق وحبات الصنوبر والجوز من حقول الجيران، وأيضاً بيض الدجاج البلدي من "خمّ" أم شحادة، وقد تم الإمساك بنا في مرات عدة وتعرضنا للضرب.
القانون كان واضحاً وصارماً: من لا يُشجع منتخب البرازيل لن يلمس كرتي! هذا ما صرّح به ذلك الفتى الذي كان أقوى من منظمة الفيفا، لأنه يملك رأس المال، "كرة القدم"
هذا مع العلم أنّ من كانوا تحت سن الخامسة عشر، أي أنا وأقراني، لم يكن يُسمح لهم باللعب في المباريات كلها، إلا في بعض الحالات: كأن يكون هناك نقص في عدد اللاعبين، أو يُقرر سيد الكرة زيادة عدد اللاعبين في كل فريق من ستة لاعبين إلى تسعة أو عشرة، أو حين يقوم بطرد لاعب ما فيختار أحدنا بديلاً له.
بناءً على ذلك، كُنّا نحظى بفرصة اللعب مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً، وفي بقية الأيام نبقى متفرجين، أو للدقة أكثر نبقى منتظرين، نحلم بأن يحدث شيء ما يجعلنا نحظى بفرصة دخول الملعب قبل غياب الشمس.
البروليتاريا الرثة تسحق البرجوازية والرأسمالية
كنت أبكي بحرقة أحياناً، وأشعر بالحرمان والبرد في عزّ الصيف، لأنني لم أستطع لعب كرة القدم، وهذا ما جعلني أعلن حالة النضال والكفاح السلمي ضد والدي على مدار سنوات عدة، مستخدماً معه القوة الناعمة "الحريرية"، من أجل أن يشتري لي كرةً.
في تلك الفترة، لم يكن شراء كرة القدم من ضمن الأولويات بالنسبة إلى أبي الذي بالكاد يستطيع إطعام عائلته وتأمين كسوتها وتعليمها، إلا أنه في النهاية استجاب لطلبي واشترى لي واحدةً حين كنت في سن الخامسة عشر. ما زلت أذكر يومها كيف أمسكت بالكرة وشممتها ونمت وأنا أحتضنها.
كنت أبكي بحرقة أحياناً، وأشعر بالحرمان والبرد في عزّ الصيف، لأنني لم أستطع لعب كرة القدم.
اليوم الذي امتلكت فيه كرة قدم، كان يوماً تاريخياً ومفصلياً في حياة أبناء القرية الكروية، حيث استطاعت البروليتاريا الرثة تحقيق فوزٍ عظيمٍ على البرجوازية والرأسمالية العفنة التي يُمثّلها ذلك الفتى.
وبما أنني أصبحتُ أملك رأس المال والسلطة في اتخاذ القرارات، وبما أنني بكيتُ أكثر من مرة، بسبب الحرمان من لعب كرة القدم، ونكاية بذلك الفتى الوغد، أعلنت للجميع أنه يمكن أنْ يُصبح عدد اللاعبين في كل فريق 12 لاعباً؛ أي 24 لاعباً، وفي بعض الحالات 28 لاعباً، بمعنى آخر لن يكون هناك متفرجون. وفي حال لم يكن في مقدوري الذهاب إلى الملعب لسبب ما، سأعطي الكرة للآخرين كي يلعبوا بها. مع الوقت، تم تأميم كرتي لتصبح كرة أبناء القرية كلهم.
ألا يحق للفقراء أن يحلموا؟
حبي لكرة القدم كان حاجةً شبه يومية ومتعةً لا مثيل لها، وكنت أرى في منامي أحياناً بعض المباريات التي خسرت وفزت فيها، وبالرغم من قامتي القصيرة ونحول جسدي مقارنةً بأقراني، إلا أنني كنتُ أمتلك مهاراتٍ وفنّياتٍ وسرعةً في الجري، ودقةً في التسديد بقدمي اليسرى، بما يكفي لتمنحي الثقة بأنْ أعلن أمام الجميع أنني سأصير كابتن المنتخب السوري لكرة القدم، وسأقوده إلى الفوز في كأس العالم يوماً ما. بالطبع لم أكن الوحيد الذي أعلن عن ذلك، فمعظم أقراني كانوا يحلمون مثلي، ويرون أنفسهم ماهرين في اللعب. ألا يحق للفقراء أنْ يحلموا؟!
لم يكن شراء كرة القدم من ضمن الأولويات بالنسبة إلى أبي الذي بالكاد يستطيع إطعام عائلته وتأمين كسوتها وتعليمها، إلا أنه في النهاية استجاب لطلبي واشترى لي واحدةً حين كنت في سن الخامسة عشر
لماذا أشجع البرازيل والأرجنتين؟
كبرتُ في العمر، ولم أصبح "كابتن" أيّ فريق، ومع الوقت صرت أشجع مع البرازيل منتخب الأرجنتين حتى هذه اللحظة. لماذا أشجعهما؟ لأن الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية كانت وما زالت تدهشني وتمتعني. الدهشة والمتعة عينهما أشعر بهما حين أشاهد مباراةً للأرجنتين أو البرازيل، وما كتبه اللاتينيان "خوان رولفو" و"غابرييل غارسيا ماركيز"، من سحر وعجائبية في الأدب، كتبه رونالدينيو وميسّي في كرة القدم، ومن قبلهما مارادونا وبيليه. حين شاهدت لأول مرة فيديوهات عدة على اليوتيوب لبيليه وهو يلعب، سألت نفسي: هل هو ساحر وفنان إلى هذه الدرجة، أو أنّ خصومه في اللعب ما زالوا أطفالاً في هذه اللعبة؟
مشاهدة كرة القدم من قبل جمهور يجلس على المدرجات، تشبه بشكل ما مشاهدة المسرح، ومما لا شك فيه أنّ هناك منتخبات كثيرةً قدّمت عروضاً في مسرح كرة القدم كانت شيّقةً وممتعةً. بالنسبة لي، منتخبا الأرجنتين والبرازيل هما شاعرا كرة القدم في العالم، فلا أحد غيرهما استطاع إدخال الشعر إلى مسرح كرة القدم، وقد أبدو متطرفاً لو قلت إنهما أدخلا نوعاً محدداً من الشعر، وهو قصيدة النثر البسيطة الممتعة المدهشة. فقصائد أنسي الحاج ومهارات ماردونا كلاهما نوع من الشعر الصافي.
بالنسبة لي، منتخبا الأرجنتين والبرازيل هما شاعرا كرة القدم في العالم، فلا أحد غيرهما استطاع إدخال الشعر إلى مسرح كرة القدم.
في الـ20 اعتزلت كرة القدم
كرة القدم وكل ما يتعلق بها من شغف ومتعة وأحلام كبيرة، لم يبقَ منها شيء حين تجاوزت العشرين من عمري. كل ذلك تحول إلى مشاهدة الأخبار الرياضية ومتابعتها بشغف. مع مرور السنوات، حتى هذا الشغف بدأ يتراجع إلى درجة أنني لم أشاهد أي مباراة في كأس العالم 2022، باستثناء ملخصات عن مباريات الأرجنتين والبرازيل على اليوتيوب لا تتجاوز مدتها خمس أو عشر دقائق، وأيضاً مقاطع لبعض المباريات التي سمعت من قبل الأصدقاء أنها كانت مميزةً. في الحقيقة، لدي رغبة في مشاهدة المباراة النهائية، لأن الأرجنتين ستلعب فيها.
كأس العالم للأرجنتين
حبي للبرازيل منذ الطفولة وحتى الآن، لا يعني أنني كنت أريد فوزها بكأس العالم 2022، فأنا لم أزعل حين خسرت أمام الكاميرون وكرواتيا، بل شعرت بالفرح لفوز هذين المنتخبين. حبي وتشجيعي للبرازيل شيء ورغبتي في فوزها على منتخبات لم تربح كأس العالم في حياتها، شيء آخر.
أنا مع البرازيل ضد أي منتخب سبق أن فاز بكأس العالم، ولكنني ضد البرازيل حين تلعب مع أي منتخب لم يحظَ في حياته بفرصة الفوز بكأس العالم
أنا مع البرازيل ضد أي منتخب سبق أن فاز بكأس العالم، ولكنني ضد البرازيل حين تلعب مع أي منتخب لم يحظَ في حياته بفرصة الفوز بكأس العالم، لأن مثل هذا المنتخب يشبهني ويشبه الملايين ممن لم يحظوا في حياتهم بفرصة ذهبية بكل معنى الكلمة، كي يفرحوا من كل قلبهم، لذلك أنا ضد أولئك الأوغاد الذين يبقون في المقدمة دوماً.
قد أبدو متناقضاً لو قلت إنني لا أفكر بالطريقة نفسها بخصوص الأرجنتين، التي أتمنى أن تأخذ كأس العالم حتى لو كان خصمها في المباراة النهائية البرازيل، أو أي منتخب في العالم؛ لأنني أحب مارادونا وميسّي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.