هدوء وسكينة يغمرانك حين تطأ قدماك أرضها. بين زراعة الزيتون والتمر والسياحة يتنقل أهلها لكسب عيشهم، على بعد 560 كيلومتراً (هي المسافة التي تفصل بينهما) من العاصمة المصرية القاهرة.
تستحوذ واحة سيوة الرابضة في الصحراء المصرية الغربية، على قلبك، فتراها قطعةً من الجنّة تحوي التاريخ بقوته والطبيعة ببساطتها ووضوحها. قد يصوّرها عقلك على أنها الواحة "الفاضلة" التي لا يُمكن أن يُصيبها مكروه أو يمسها التغير المناخي بأيٍّ من أذرعه الثقيلة.
في موسم السياحة الأكثر إقبالاً بين شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وآذار/ مارس، يحرص الزائر لواحة سيوة التي تمتاز بانخفاض نسبة الرطوبة، على ارتداء الملابس الصيفية نهاراً والشتوية ليلاً، ومع تأثرها بموجات التغير المناخي ارتفعت درجات الحرارة وظل الارتفاع ممتداً لفترة أطول، وازدادت نسبة الرطوبة، وضربتها موجات من البرد القارس قضت على أجنّة الزيتون قبل تلقيحها.
مع تأثر واحة سيوة بموجات التغير المناخي ارتفعت درجات الحرارة وازدادت نسبة الرطوبة، وضربتها موجات من البرد القارس.
تملُّح الآبار وارتفاع الرطوبة
محمد عمران باحث في التراث السيوي، وأحد أبناء الواحة، يقول لرصيف22، إن التغير المناخي انعكس على الواحة في تملح آبار المياه الجوفية، فبات الأهالي يضطرون إلى طمرها وحفر آبار أخرى على عمق 900 إلى 1،300 متر، لتوفير المياه الصالحة للزراعة، فضلاً عن تأثر زراعة الزيتون وقلة الإنتاج في السنوات الأخيرة، موضحاً أنه بالرغم من عمل الأهالي في السياحة إلا أن الاعتماد الأكبر في الدخل يكون على الزراعة، وانخفاض الإنتاج هذا العام إلى نسبة لا تتجاوز 20% يؤثر بشكل كبير على دخل المجتمع السيوي.
يصنع الأهالي مخلل الزيتون في المنازل كنشاط تجاري، فالواحة لا تضم مصنعاً أو معملاً للتخليل كما هو الحال مع التمور، بالرغم من شهرتها بالاثنتين معاً، ويحرص الزائر على اقتناء "برطمان زيتون مخلل"، مع علب التمر المحشوة بالمكسرات. يقول عمران إن موسم الزيتون كان يوفر للعشرات من أبناء الواحة فرص عمل بين جمع المحصول وعمل في التخليل وعصر الزيتون، وكلها مُنتجات ارتبطت في أذهان الزائر بالواحة.
بين أيلول/ سبتمبر ونهاية كانون الأول/ ديسمبر، كان يمتد موسم جمع الزيتون والتمر، ينتظره المزارع من العام إلى العام ليسلّمه للتاجر ويحصل على عائد يكفيه، وفي الأعوام الأخيرة اقتصر الموسم على الفترة الممتدة بين نهاية أيلول/ سبتمبر حتى منتصف تشرين الأول/ أكتوبر، ليفقد المزارع أكثر من ثلثي الموسم. يوضح عمران أن العالم يتجه نحو فكرة التكيف مع تغيير مواسم الزارعة وتجهيز سلالات تتحمل التغيرات المناخية وهو ما ينتظره المزارع السيوي ليستكمل حياته.
لم تكن الزراعة هي الخاسر الوحيد في هجمة التغيرات المناخية على الواحة، فارتفاع نسبة الرطوبة يضرب رحلات السفاري التي تشكل جزءاً أساسياً من رحلات السياحة فيها، فالسباحة على الجبال الرملية بسيارات الدفع الرباعي ونهاية الرحلة بأكواب شاي "الزردة" بحشيشة الليمون (عشب يُضاف إلى الشاي)، وقت مشاهدة الغروب، متعة لا يُفرّط فيها الزائر.
يقول محمد إن ارتفاع نسبة الرطوبة في الواحة أدى إلى هبوب نسمات هواء قد تؤثر سلباً على رحلات السفاري، فيضطر مُنظم الرحلة إلى تغيير المواعيد، موضحاً أن الموعد الثابت طوال السنوات الماضية كان في الثانية والنصف ظهراً وتنتهي الرحلة بغروب الشمس، وقد يؤدي ارتفاع درجات الحرارة أو الرطوبة إلى تغيير الموعد حسب الحالة، فقد تبدأ في الرابعة عصراً مما يقلل مدة الرحلة والاستمتاع بها.
كما يشر الباحث إلى أنه في عام 1926، شهدت الواحة موجة أمطار تسببت في أضرار بالغة للمنازل المبنية على التراث السيوي من مادة الكرشيف التي تمزج بين الملح والطين. تكرر الأمر في نهاية 1984، وبداية 1985، وتركت الأمطار في الموجتين آثاراً في ذاكرة الأهالي، فقرروا الاحتماء منها تخوفاً من تكرارها، باللجوء إلى البناء الخرساني منذ سنوات قبل معرفتهم بالتغير المناخي، حتى أن البعض يحرص على إحلال التربة وعمل خرسانة بمواصفات خاصة حرصاً على أهل بيته من أن يصيبهم مكروه.
الموعد الثابت لرحلات السفاري طوال السنوات الماضية كان في الثانية والنصف ظهراً وتنتهي الرحلة بغروب الشمس، وقد يؤدي ارتفاع درجات الحرارة أو الرطوبة إلى تغيير الموعد حسب الحالة، فقد تبدأ في الرابعة عصراً مما يقلل مدة الرحلة والاستمتاع بها
الحر والبرد يقتلان أجنّة الزيتون
تشير تقديرات رسمية مصرية إلى انخفاض إنتاج الزيتون في البلاد بشكل ملحوظ نتيجة عوامل تتعلق بتأثيرات مناخية. وبالرغم من الخسارة في واحة سيوة بنسبة تصل إلى 65% مقارنةً بالمواسم السابقة، رفض أحمد أبو القاسم، مزارع الزيتون الثلاثيني المقيم في الواحة سيوة، تغيير وجهته وتحويل نشاطه عن مزرعة الزيتون، مرتضياً ما قسمه الله ومتفهماً لحال الزراعة المتقلب. يقول في حديثه إلى رصيف22، إن الموسم مر بفترات تقلّب بين إنتاج مُزدهر إلى درجة كبيرة وإنتاج مُنخفض بعض الشيء، إلا أن ما حدث في العامين الماضيين لم يرَه من قبل.
يُمثل الزيتون والتمر الأعمدة الأساسية للزراعة في الواحة، لوفرة إنتاجها وسهولة تسويقها وبيعها، فمهما كانت التكلفة يخرج المزارع من الموسم وقد جمع ما يزيد عن إنفاقه. تغيّر الحال في السنوات الأخيرة كما يوضح أبو القاسم، شارحاً أن وقت تزهير أشجار الزيتون يكون في شهر شباط/ فبراير، ويتم بعدها تلقيح الأشجار، لكن في الأعوام الأخيرة لم يصل المزارع إلى مرحلة التلقيح بالرغم من التزهير الجيد والذي يُنبئ بإنتاج وفير، إذ إن موجات الحر الشديد في النهار والبرد الشديد في الليل ضربت الأجنّة قبل تلقيحها فقضت على المحصول.
نتيجةً لذلك، ارتفعت أسعار الزيتون بما يقارب 15 في المئة، ويشير المزارع إلى أن سعر الطن العام الحالي وصل إلى 15 ألف جنيه (600 دولار)، وكان يتراوح قبل ذلك بين 9 أو 10 آلاف جنيه، فمع قلة الإنتاج وزيادة الطلب ارتفعت الأسعار، موضحاً أن الأشجار الأكثر تضرراً كانت المُنتجة لزيتون التخليل، والأقل هي تلك المُنتجة للزيتون المُخصص لاستخلاص الزيت، مرجعاً ذلك إلى قوة الشجرة وقدرة تحملها على مواجهة التغير المناخي.
في موسم "الدفن" تأثير عكسي
بين 15 حزيران/ يونيو وحتى الثلث الأول من أيلول/ سبتمبر، يستمر موسم "الدفن" في رمال جبل الدكرور في سيوة، ويستهدف المصابين بالرطوبة وآلام المفاصل وغيرهما من أمراض العظام. يتكرر دفن المريض في الرمال الساخنة لثلاثة أيام أو أكثر حسب الحالة لمدة 10 دقائق في اليوم، يلتزم بعدها بنظام غذائي يحدده المُعالج حتى ينتهي من رحلته. وعلى عكس المُعتاد، كان تأثير التغير المناخي إيجابياً نسبياً على موسم "الدفن".
يقول شريف السنوسي (70 عاماً)، وهو مُعالج ومالك لحمام دفن في جبل الدكرور، إن العام الحالي شهد امتداداً لموسم العمل من أول حزيران/ يونيو حتى نهاية أيلول/ سبتمبر، موضحاً أن الأصل في عملية الدفن هو ارتفاع درجة حرارة الرمال وليس حرارة الجو، ففي شهر أيار/ مايو ترتفع درجة حرارة الجو في سيوة، إلا أن الرمال تظل باردةً. وبالرغم من طول موسم الدفن هذا العام، إلا أنهم فوجئوا بنسمات الهواء في شهر تموز/ يوليو، والمعروف بشدة ارتفاع درجات الحرارة، ليتادرك العاملون الأمر بتغيير ميقات "الدفن" في أثناء اليوم.
يستهدف "الدفن" المصابين بالرطوبة وآلام المفاصل وغيرهما من أمراض العظام، ويتكرر دفن المريض في الرمال الساخنة لثلاثة أيام أو أكثر حسب الحالة لمدة 10 دقائق في اليوم. وعلى عكس المُعتاد، كان تأثير التغير المناخي إيجابياً نسبياً على موسم "الدفن"
لا تبدأ عملية الدفن قبل التأكد من ارتفاع درجة حرارة الرمال بعد حفر مسافة لا تقل عن 70 أو 80 سنتيمتراً، ويشرح السنوسي لرصيف22، أن العوامل الجوية حصرت وقت الذروة من ارتفاع درجات الحرارة بين الساعة 12 ظهراً حتى الـ4 عصراً، موضحا أن "الرديم" خلال السنوات الماضية كان يبدأ عند الساعة الرابعة عصراً وينتهي في السادسة مساءً، إلا أن نسمات الهواء تسببت في تغيير الميعاد فلم يعد ممكناً الاستمرار في العمل بعد الساعة الرابعة.
تأثر موسم الدفن في الرمال بجائحة كورونا طوال الأعوام الماضية، وبدأ بالعودة تدريجياً العام الحالي، وبالرغم من ارتفاع درجات الحرارة التي أمدّت في عمر الموسم حتى نهاية أيلول/ سبتمبر، إلا أن إقبال السياح من خارج مصر لم يعد بكامل طاقته، فاعتادت الواحة استقبال راغبي السياحة العلاجية من الدول العربية والأوروبية طوال السنوات الماضية، موفرةً لهم خدمةً شاملةً من حمامات الدفن والإقامة والإفطار والعشاء لقاء 500 جنيه (20 دولاراً) فقط لا غير، ومن المتوقع أن ترتفع التكلفة في الموسم المُقبل نتيجة ارتفاع الأسعار حسب السنوسي.
تستلزم عملية الطهي درجة حرارة معينةً، في حالة عدم توفرها لا ينضج الطعام، وهي النظرية نفسها التي يعتمدها المُعالج في حمامات الدفن، فأهم شيء أن ترتفع درجة الحرارة إلى الحد الذي يُنضج الرمال، وتساعد على تجهيز الخيام بأن تكون الخيمة مستويةً تماماً فلا تهتز بسبب نسمات الهواء، ويشير السنوسي إلى أنه لا بد من أن تصل درجة الحرارة إلى 50 درجةً مئويةً، فتعطي النتيجة اللازمة، وهو ما يجده في شهري العمل الأساسيين تموز/ يوليو وآب/ أغسطس، بينما يستفيد من فترة الحرارة المترددة خلال الأشهر السابقة واللاحقة، في علاج مرضى العظام من أصحاب السكر والضغط فتكون درجة الحرارة المناسبة له لا تزيد عن 38 إلى 40 درجةً مئويةً كحد أقصى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.