عندما كنت مراهقاً، تحديداً في مرحلة التعليم الإعدادي، كنت أكره الرياضيات وأحب المواد الأدبية، وكان كرهي يزداد بتقدّم السنوات الدراسية وزيادة التفاصيل الجزئية دون أن أفهم في ماذا تفيد هذه المعادلات في فهمي للعالم والواقع العملي، ولماذا يتم قياس مستوى ذكائي بأمور لا أعرف جدواها؟
أفهم مثلا أن الدراسات الاجتماعية تساعدني لأمتلك ثقافة تاريخية، أعرف معاني وطنية، أتعلم من دروس التاريخ المستفادة، أو تلهمني شخصياته المؤثرة، واللغة العربية تساعدني معرفة قواعدها ومواطن جماليات نصوصها، لأتواصل شفاهية وكتابة، وأنمي تذوقي الأدبي بشكل أفضل إلخ...
لكن كنت لا أدرك ما الذي تؤدي له هذه المعادلات المجرّدة والمبهمة بالنسبة لي. وأدركت فيما بعد أن السبب هو غياب منطق السببية، بمعنى أدق أنها لا تجيبني على سؤال "لماذا"، وتغرقني بالتفاصيل الجزئية التي لا أرى قيمة لها في هذه المرحلة.
عندما تعلمت المنطق فيما بعد، وأن هناك ما يسمى بالمنطق الرياضي، وما يتم استخدامه لقواعد السببية بأساليب رياضية، أدركت هذه الفائدة في الاستدلال والاستنتاج، ولكن وقتها لم أكن أعلم فائدة الرياضيات بشكل عام، أو المعادلات الجزئية المجردة التي تشعرني بقلة الحيلة والجفاف العقلي.
ومع هذا، فإن ما كنت أبحث عنه ليس المنطق، فالمنطق بحد ذاته هو مجرد أداة وليس القضية بذاتها، وهذه الأسئلة والرغبة في المعرفة هي التي دفعتني فيما بعد للبحث في القضايا الوجودية والقراءة في الفلسفة.
الصدمة الوجودية
كان هناك شعور بالاغتراب عن الجزئيات، ليس فقط في الرياضيات، ولكن أيضاً متمثل في الحياة اليومية وأمورها الروتينية، من التعليم والواجبات المدرسية والبحث عن التفوق الدراسي لدخول كليات القمّة، مروراً بالحصول على وظيفة والعمل لجمع المال وسلم الترقي الوظيفي، للزواج وتكوين الأسرة والمظاهر الاجتماعية والمناسبات، المحافظة على التقاليد والأعراف، وكل ذلك يكون في الغالب بتوجيه من المجتمع.
أسأل نفسي في وقت راحتي أو قبل نومي: هل هذه الأعمال هي ما أرغب به ويرضيني أم لا؟ ما الجدوى من كل هذا ولماذا أفعل ذلك؟ وهي الأسئلة التي قد يسألها أي إنسان تائه باختلاف المستويات الحياتية.
عند هذه اللحظة قد تحدث مشاهد درامية، كأن يرمي الطالب كتابه ويسقط ممدداً متأملاً لسقف الغرفة من كمّ الإنهاك الجسدي والعقلي، أو انهيار وصراخ الموظف في مديره فجأة في موقع العمل لعدم تحمل الضغط المتواصل، أو صمت الأب عندما يوجّه له طفله سؤالاً مباغتاً لا يمتلك له إجابة.
أسئلة على شاكلة: كيف خلقت ومن أين جئت؟ كيف أتأكد من وجودي؟ لماذا أعيش؟ هل أنا مسيّر أم مخيّر؟ هل الله موجود وأين هو؟ يسألها الطفل فيتم ردعه بأن هذا حرام أو تسكينه بإجابات سطحية معلبة، أو المراهق فيقال له بالعامية المصرية: "أنت هتتفلسف؟! هوا كدا"
وغيرها من الأمثلة التي قد تدل على جفاف الحياة العقلية لهؤلاء الأشخاص، بسبب هذه الأسئلة الوجودية التي تم دفنها منذ الطفولة من قبل الأهل أو المجتمع.
هذه الأسئلة على شاكلة: كيف خلقت ومن أين جئت؟ كيف أتأكد من وجودي؟ لماذا أعيش؟ هل أنا مسيّر أم مخيّر؟ هل الله موجود وأين هو؟ كان يسألها الطفل الذي يتم ردعه بأن هذا حرام أو تسكينه بإجابات سطحية معلبة، أو المراهق الذي يقال له بالعامية المصرية: "أنت هتتفلسف؟! هوا كدا"، فينحّي هذه الأسئلة جانباً لأنها تجعله مستهجناً وغير مقبول اجتماعياً، وتؤدي لشعوره بالذنب وعدم الأمان تجاه الله أو أسرته.
التمرّد على الواقع
هناك من يستمع لهذه النداءات المدفوعة برغبة مشتعلة للبحث والمعرفة والاكتشاف، للحصول على الرضا الذاتي العقلاني، والخروج من قمقم المنطقة الآمنة والاستقرار المزيف، وكسر الحلقات المفرغة لتكوين دوائر مفتوحة بمركزية جديدة معلومة عن اقتناع ومرونة تقبل الإضافة والتجديد، وهذا هو بداية فعل التفلسف والفلسفة.
كما هو في قصة الكهف الرمزية عند أفلاطون؛ والتي يشبّه بها الناس بسجناء في كهف مظلم منذ لحظة الميلاد، ومقيدين بالسلاسل لا يستطعون التحرك أو النظر إلا على الحائط الذي أمامهم، وراءهم طريق مرتفع وحائط منخفض يقف خلفه السجانون، يحركون من فوقه الدمى على شكل حيوانات ونباتات وغيره من الأشكال، وخلفهم شعلة نار تعكس ظلال هذه الأشكال للمساجين على الحائط أمامهم.
فإذا ما أطلق سراح أحدهم وخرج إلى النور والأشياء الحقيقية، سوف يشعر بالألم من التوهّج واكتشاف الواقع، وتصيبه الحيرة بين أي من الواقعين هو الحقيقي. ولكنه بعد أن يستكشف الأشياء ويتيقن من وجودها المادي، سوف يتأكد أنه كان مخدوعاً، وقد يذهب إلى أصدقائه سكان الكهف ليدفعهم للخروج، لكنهم يميلون أيضاً لعدم تصديقه، وأن الذي رآه هو الظلال وهذا هو الواقع لأنهم لم يروا ما رآه هو.
هذا الشخص هو الإنسان المتمرد الذي يجسّده الفيلسوف، الذي يدعو عوام الناس للخروج من كهفهم واكتشاف الحقيقة بأنفسهم ولكنهم يخافون، لأن ما هو مجهول غير مطمئن، وقد لا يتعايش الإنسان المسجون طوال عمره مع حياته الجديدة في الحرية، كأن مسجوناً خرج من السجن فبنى لنفسه سجناً في الخارج، لأن السجن بداخله أساساً، أي أن العادة صارت طاغية على الفطرة والعقلانية.
بشكل شاعري أرى أن الفلسفة كالجنس للعقل من حيث المتعة الناتجة عن الممارسة وحتمية الاحتياج؛ بمعنى النشوة من بداية تخيل الفعل واستيعابه حتى الوصول للذروة
الخروج يحتاج جرأة وقدرة على الدهشة، فإن ندرة من الناس هم الذين لديهم هذه القدرة على المخاطرة بهدم المعتقدات الموروثة أو القديمة أو المشهورة الخاطئة، وهذا نابع من القدرة على الدهشة، "أم الفلسفة ومنبعها الخصب"، كما يقول شوبنهاور، والدهشة هنا لا تكون أمام تلك العجائب والغرائب والمعجزات، لكن مع أبسط الأشياء والأفكار التي قد تظهر للعامة على أنها مألوفة وعادية لكثرة تداولها، الفيلسوف الباحث عن الحقيقة لا يقبل بالخرائط المتداولة، بل هو من قرر صنع الخريطة بنفسه بخوض الطريق.
حوار مع صديقي المؤمن
أثناء مناقشاتي مع بعض الزملاء الذين كانوا يسألونني عن اهتمامي بالفلسفة، والبحث في هذه الأمور الوجودية، في أمر وجود إله وما هو الدين الصحيح، قال لي زميل دراسة في الكلية (نظم المعلومات الإدارية) إنه لا يرى ضرورة للبحث في مثل هذه الأشياء لأنها مؤكدة بالنسبة له، وهناك من رجال الدين من درس واستخلص النتائج التي هي بالطبع سليمة.
بينما زميل آخر، كنا نحضر معاً دروساً دينية في مرحلة ما، قال لي إنه يرى البحث في مثل هذه الأمور الفلسفية مضيعة للوقت، وأن مادام هو موجود في الحياة فعليه أن يستغل وقته في العمل والعبادة.
وعندما ذكرت للأول أحد المغالطات المنطقية في كلامه، قال لي إن التفكير في مثل هذه الأمور قد أرهق ذهنه، ولا يريد أن يستنفذ طاقة تفكيره قبل المحاضرة القادمة، فهو لا يمتلك عقلاً نقدياً يستطيع أن يتدبر به من صحة معتقداته الموروثة، ولا يريد أن يرهق ذهنه بغير الأمور اليومية.
وعند تحليل تصور الأخير، لا أعلم بشكل بسيط، كيف تفني حياتك بدون أن تقيّم أفكارك وقيمك التي تسير حياتك وفقها. أوبشكل فلسفي أعمق تمتلك رؤية كونية كلية للوجود، من البحث عن الحقيقة في مباحث الفلسفة الثلاثة، الوجود والقيم والمعرفة، معرفة الخالق وأصل الحياة ومعايير المعرفة وحرية الإرادة والأخلاق وماهية الإنسان الروحية والعقلية والجسدية ومفهوم الجمال والميتافيزيقا والخلود.
أليس كل هذه الأمور التي تسير حياتنا وفقاً لها تستحق عناء البحث والتفكير، حتى نتحمل المسؤولية في اختياراتنا العقلية التي تكون الأيديولوجيا، ولا نتبع نظرية القارئ الأكبر، كان رجل دين أو غيره، الذي يستخلص لنا النتائج ويحذرنا من كتب المعتقدات الأخرى؟
إني أرى أن المتشكك الصادق أفضل من المؤمن بالنفاق والجهل. الموضوع لا يرتبط بالإرهاق الذهني وحل أحجية الكلمات المتقاطعة فقط، فهو في الأساس متعة البحث في الطريق لا الوصول إلى "الكنز في الرحلة".
بين التفكير العشوائي والنقدي
قد نلاحظ أن محاولة الهجوم ضد الفلسفة هي نفسها قد تسمى تفلسف، كمن يحاول استخدام مبررات منطقية لنقض المنطق، فإذا كانت مبرراته صحيحة فهو يدعو لاستخدام المنطق الذي يهاجمه.
أليس كل الأمور التي تسير حياتنا وفقاً لها تستحق عناء البحث والتفكير، حتى نتحمل المسؤولية في اختياراتنا العقلية التي تكون الأيديولوجيا، ولا نتبع نظرية القارئ الأكبر، كان رجل دين أو غيره؟
فإن التفلسف قد يوجد في حياتنا بشكل عام، ولكن بشكل بدائي وعشوائي وشعبي، غير الفيلسوف المنهجي، وهي فكرة مشابهة لمولود يشعر بالألم ولكن لا يملك قدرة على التعبير غير الصراخ، وبتراكم خبراته اللغوية يستطيع التعبير باستخدام اللغة.
في العموم أهم نقطة في التفلسف هي امتلاك الحس والتفكير النقدي الذي لا يقبل بالمسلمات قبل المعرفة بتاريخها، الذي هو مهم للاستفادة منه وعدم تكرار نفس الأفكار، مع العلم أن مسار التجديد في الفلسفة يسير في مستوى أفقي وليس رأسياً كما في العلم، لأن العلم يشيد كبناء يأتي من هو لاحق على من هو سابق ليكمل عليه دون هدمه، ولكن في الفلسفة فإن التطور الأفقي لنفس المواضيع يمكن أن يُطرح لها نظريات من البداية بغض النظر عن ما سبق.
إذا كان الدين يقول إن النار تسبّب الحرق فالفيلسوف لا يكف عن التقرب لها حتى مع شعوره بالألم، ويبدأ يجرب كل مسبب موازٍ؛ وإذا كان الدين معادلة أو كتالوج فالفلسفة هي التجربة.
قد يصحّ أن نعرّف الجاهل المتعصب بأنه هو من لا يعرف إلا عن معتقده فقط ويظن أنه الحق المطلق، بدون أن ينظر لمعتقدات الآخرين بشكل مجرّد وخالٍ من التحيز، يدخل المناقشات لا بغرض البحث والاكتشاف لكن بغرض المكسب والخسارة، وسيكون في محل هزيمة إن اعترف بخطأ معتقده الذي إن لم يكن ضعيفاً، لا يستطيع إثبات قوته بالحجة، فبهذا هو يثبت خطأ منهجه في النفي والإثبات بشكل غير موضوعي ونقدي.
مثلا كقاعدة بسيطة "على الناقل الصحة وعلى المدعي الدليل"، فإنه حتى لو لم يعرف عن منهج الآخر سوى بعض العناوين الرئيسية المغلوطة فهو يدافع عن جهله لأنه لا يمتلك من المعرفة – وإن كانت خاطئة – بديلاً؛ قد يخبره أن العالم ليس أبيض وأسود وصواباً/ خطأ مطلقاً، وإنما هناك درجات للرمادي والنسبي، الفلسفة تحتاج لجرأة للخروج عن القطيع والاستعداد للخيارات المتعددة وتحمل عناء الحقيقة.
نشوة العقل
بشكل شاعري أرى أن الفلسفة كالجنس للعقل من حيث المتعة الناتجة عن الممارسة وحتمية الاحتياج؛ بمعنى النشوة من بداية تخيل الفعل واستيعابه حتى الوصول للذروة، والأولى بمعنى التساؤل المبهم والأخيرة بمعنى الوصول لإجابة هي في ذاتها سؤال جديد يدعو لطلب المزيد، وحتمية الاحتياج بمعنى أن أي إنسان لديه جوع للنشاط حتى في أشد حالات العداوة، لا يقاوم تخيل الفعل/ التفلسف بالفطرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع