شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
يتخيل أصدقائي حياة الأرياف المصرية جنّةً... لماذا هذه خرافة؟

يتخيل أصدقائي حياة الأرياف المصرية جنّةً... لماذا هذه خرافة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

أتصفح فيسبوك، لأجد أصدقائي يشاركون صوراً لأطفال في حقول الدلتا، تبدو عليهم السعادة، وصورة لأطفال يصطفون أمام الكتّاب، وهو مكان لتحفيظ القرآن، تبدو مرعبةً بالنسبة لي؛ أكاد أرى مشهد ضرب الشيخ للأطفال، لأنهم لم يحفظوا الآيات جيداً. مشهد رأيته كثيراً في طفولتي.

تسألني صديقة قاهرية إن كانت حياة الأرياف جميلةً كما تراها في المسلسلات؟ يتخيل أصدقائي حياة الأرياف جنّةً، مثل "فيلم خرج ولم يعد"، للمخرج محمد خان، مليئةً بالفواكه والولائم التي لا تنتهي، والأصالة، والطيبة، والخضرة والطبيعة. في حقيقة الأمر كل هذه الأشياء خرافات. الأصالة والطيبة من مرادفات الأبوية وقيم الأسرة وأخلاقها، وتدخّل الجميع في شأنك الخاص، بالإضافة إلى أن أي شخص في القرية قد يسأل جارته: لماذا عادت إلى البيت متأخرةً، من باب النخوة والمسؤولية المجتمعية، أما الخضرة فلحسن الحظ لا تزال موجودةً إلى حد ما، ولم تطلها يد التطوير بشكلٍ كبير كما طالت القاهرة.

كتبت مرةً مازحةً، أعلّق على جملة "القاهرة تقتل": "بالتأكيد من قالها لم يعرف العيش في الأرياف". أتذكر حياتي في القرية الفقيرة التي وُلدت وعشت فيها لمدة 21 عاماً، قبل أن أنتقل إلى إقليم آخر من أقاليم الدلتا؛ بيت بعيد عن العمران، ومعزول كأنه "ثيمة" لفيلم رعب. لا أذكر سوى الحياة المملة، والرتيبة، في قرية معدومة فيها الخدمات، حيث تنقطع المواصلات بعد السادسة مساءً.

في الحقيقة، لا أذكر الريف بالهدوء والطبيعة الخضراء بقدر ما أتذكره بانعدام الخدمات، والفقر. والطرق السيئة التي توصل القرى ببعضها والتي تسمى طرقاً من الدرجة الثالثة، لا يعرف التطوير "الحقيقي" طريقه إليها أبداً، والمدارس السيئة، والقرية التي لا توجد فيها حتى مكتبة عامة، وسؤال أقاربي باستمرار: لماذا ترفضين الزواج؟ واضطراري إلى المكوث في البيت بالحجاب لأني أعيش في "بيت عيلة"، يدخل أي شخص علينا المنزل من دون استئذان.

هل حياة الأرياف تعني الأصالة، والطيبة، والخضرة والطبيعة؟ كل هذه الأشياء خرافات من مرادفات الأبوية وقيم الأسرة وأخلاقها، بالإضافة إلى أن أي شخص في القرية قد يسأل جارته: لماذا عادت إلى البيت متأخرةً، من باب النخوة والمسؤولية المجتمعية

أذكر الريف أيضاً بأبي المصاب بتلف الكبد، ودوالي المريء وربما أصيب بالبلهارسيا في صغره، وأسأل نفسي هل كان سيتغير مصيره، ولن يفقد حياته بسبب مضاعفات مرض الكبد، لو أنه فقط وُلد صدفةً في المدينة وعاش فيها؟

لست من النوع الذي يلقي باللوم دائماً على الناس، لكن العزلة، والفقر، وضعف الخدمات أشياء تجعل العقلية الريفية جامدةً، لا تقتنع بأي شيء بسهولة، ومعادية للتغيير، وتتمسك دائماً بالمكان الذي ولدت فيه، لا تغيره إلا بوصول الروح إلى الحلقوم، وهناك الكثير من النكات التي تحكي كيف يشعر الريفي بالغربة إذا ما سافر إلى بلدة تبعد عنه مدة ساعة فقط.

"غلبت أقطع تذاكر"*

كنت، كما يقول الإيفيه، قد فاتني كل شيء بسبب موقعي الجغرافي. فبسبب مركزية القاهرة تنعدم كل الأنشطة الثقافية في المحافظات، حتى عندما تُذكر ثورة كانون الثاني/ يناير، يُذكر ميدان التحرير. حُجّمت الثورة في ميدان التحرير والكعكة الحجرية (هل فشلت بسبب ذلك؟)، بالرغم من أن كل محافظات مصر وقراها كانت تنتفض وسقط شهداء فيها أيضاً، ولم تنجح أي محاولة لكسر مركزية القاهرة وبناء نواة ثقافية أو فنية في الأقاليم بعد الثورة.

أعتقد أنني لا أبالغ عندما أقول إن حياتي في مكان ناءٍ، هي ما شكّلت شخصيتي، فدائماً كنت الشخص الغريب القادم من بعيد، كنت دائماً مستعجلةً حتى ألحق القطار. والعيش في الريف يحكم كذلك في علاقاتي، ومصائري. كنت أعتقد أن حظي سيئ لأنني لم أولد في القاهرة، ولولا ذلك لتقدمت مهنياً مراحل.

لسوء حظي، انتقلت إلى القاهرة في 2013، وبعد شهرين فُرض فيها حظر التجوال. لكني جرّبت أخيراً العيش في القاهرة، وسرعان ما وجدت أن المدينة التي حلمت بها، مدينة جحيمية لا ترحم

في الحقيقة، ما فاقم من معاناتي هو أن اهتماماتي غريبة عن اهتمامات من حولي، أي كفتاة ريفية تريد الخروج إلى المجال العام، ولا تريد الزواج ككل قريناتها، وتريد العمل في مهنة غير معتادة، والذهاب إلى القاهرة للعيش وحدها بلا أصدقاء أو أهل، فإذا كنت تريد العمل في الصحافة، أو الفن أو أي مهنة غير تقليدية غير الطب أو الصيدلة أو التدريس، أو تريد مجرد حضور حدث ثقافي، أو حضور عرض سينمائي، ستضطر إلى السفر للقاهرة. ولطالما أيضاً كانت هذه البيئة المنغلقة بيئةً خصبةً جداً لانتشار الخرافات، من الجنّيات التي تخرج من البحر ليلاً، والسحر والحسد، وصولاً إلى القطط السوداء وفتح المقص وغلقه والذي يجلب الفقر إلى البيت.

بالتأكيد ليست الخرافات حكراً على الريف، لكن المعرفة ترتبط دائماً بالحرية. وكانت الحرية بالنسبة لي بعيدةً عن هذا المكان الضيق، في القاهرة المدينة التي لا تنام.

لكن لسوء حظي، انتقلت إلى القاهرة في 2013، وبعد شهرين فُرض فيها حظر التجوال. لكني جرّبت أخيراً العيش في القاهرة، وسرعان ما وجدت أن المدينة التي حلمت بها، مدينة جحيمية لا ترحم. الجميع في حالة سباق، لذا لم يتناغم إيقاعي البطيء مع جنون القاهرة، وظللت غريبةً، وغير مستقرة، ولا يمكن إنكار التمييز بين أهل الريف، وأهل المدينة، فحتماً ستفلت منك لكنة أو لفظة ريفية، لتُنمَّط بأنك القروي الساذج.

وبعد سنوات قليلة من العيش في القاهرة، اضطررت إلى العودة من حيث أتيت؛ زادت موقعة تعويم الجنيه من صعوبة الاستقلال عن الأهل، وتغيرت القاهرة كثيراً، ولم تعد تلك المدينة الساحرة التي حلمت بها. ضاقت عليّ هي الأخرى، وأصبحت تنام باكراً.

*بيرم التونسي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image