لم تجد الكاتبة نهى حقي سبيلاً سوى اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي للاستغاثة ضد قرار هدم مقبرة أبيها الأديب المؤسِّس يحيى حقي القريبة من رحاب مسجد السيدة نفيسة، والمدفون فيها بناء على وصيته. ورغم علمها بأنباء هدم المقبرة قبل شهور، لأنها تقع ضمن "خطة تطوير القاهرة"، إلا أنها ظلت تقاوم هذه الأنباء معتبرة إياها شائعات، حتى تلقت إخطاراً بالإزالة، قطع عنها الأمل والرجاء.
كتبت "حقي" عبر حسابها على موقع فيسبوك مستغيثة بمن يهمه الأمر: "الوجيعة كبيرة والشكوى لم تعد لها قيمة. أنا زعلانه جداً لقرار نقل مقبرة والدي الحبيب الغالي وأسرته الحبيبة من جوار السيدة نفيسة (...) وإن أبي في ذمة الله لا يملك الاستغاثة".
إزالة مقبرة الأديب يحيى حقي بداعي تطوير القاهرة وإنشاء محاور مرورية، هو امتداد لعمليات إزالة وإنذارات بالإزالة، طالت مقابر لشخصيات تاريخية ومسؤولين مصريين تضم أحمد يكن باشا وزير خارجية مصر الأسبق، ومقبرة يوسف صديق عضو مجلس قيادة ثورة 1952، وجانباً من مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي، والفنان فؤاد المهندس، و الأديب إحسان عبد القدوس، إلى جانب مئات المقابر لمواطنين وأجانب شاء قدرهم أن يُدفنوا في مصر، في نطاق القِرافة العظمى للقاهرة بمدافن الإمام الشافعي والسيدة نفيسة و صحراء المماليك الذين طالتهم جميعاً معاول الهدم.
ابنة الأديب الراحل يحيى حقي: "الوجيعة كبيرة والشكوى لم تعد لها قيمة. أنا زعلانه جداً لقرار نقل مقبرة والدي الحبيب الغالي وأسرته الحبيبة من جوار السيدة نفيسة (...) وإن أبي في ذمة الله لا يملك الاستغاثة"
محاولات للحفظ والتوثيق
دفعت تلك العمليات جماعة من الغيورين على التراث المصري إلى إطلاق حملة للحفاظ على التراث الجنائزي في مصر منذ العصر الإسلامي وحتى الحديث إلا أن جهودهم لم تكلل بالنجاح، في مواجهة إصرار من السلطات المصرية على المضي في الهدم، إلا من مقابر قليلة لمشاهير الأدب والثقافة تراجعت السلطات عن هدمها بعد ضغوط من المواقع الصحافية والأصوات المستقلة القليلة الباقية.
لذا، دعت الدكتورة جليلة القاضي المعمارية المتخصصة في حفظ وإعادة إحياء التراث المعماري والحضري إلى توثيق مشاهد القاهرة قبل أن تُزال، واستجاب لدعوتها الكثيرون من المنخرطين في محاولات الحفاظ على التراث، وتكللت جهودهم هذه المرة بإطلاق معرض فني توثيقي في "أتيليه القاهرة" بوسط البلد، مساء الأحد، 4 ديسمبر/ كانون الثاني، تحت عنوان "علامة إزالة". ضم المعرض عشرات الصور والرسومات التي وثقت القبور وشواهدها وقباب مساجد القاهرة العتيقة، وآثارها المترامية على مساحات واسعة.
المعرض نتاج زيارات وجهود تطوعية، قام بها فريق من الفنانين التشكيليين الذين زاروا الجبانات التاريخية لتوثيقها قبل مواجهة مصيرها المجهول، ثم حتضن أتيليه القاهرة نتاج جهودهم ليعرضها في شكل رسومات وصور أظهرت ما خبأه غبار الزمن من كنوز في جبانات القاهرة.
دعت الدكتورة جليلة القاضي المعمارية المتخصصة في حفظ وإعادة إحياء التراث المعماري والحضري إلى توثيق مشاهد القاهرة قبل أن تُزال، واستجاب لدعوتها الكثيرون من المنخرطين في محاولات الحفاظ على التراث، وتكللت جهودهم في المعرض الفني التوثيقي "علامة إزالة" المقام حالياُ في "أتيليه القاهرة"
تراث على وشك الرحيل
المهندس طارق المري هو واحد ممن شاركوا في عمليات تنظيم التوثيق وأحد الحاضرين في الافتتاح. يشغل المري منصب استشاري الحفاظ على التراث وخبير مركز التراث العالمي باليونسكو.
تحدث الاستشاري عن أهمية جبانات القاهرة ودورها في حفظ التاريخ، وقال إن الهدف من افتتاح معرض "علامة إزالة"، هو ترسيخ فكرة الحفاظ على التراث عند المصريين وكذلك الجهاز الإداري للدولة.
وانتقد المري مساعي الحكومة لهدم الجبانات لإنشاء محاور مرورية، وقال إنه لا يقف ضد فكرة التطوير بشرط أن تجري وفقاً لدراسات متأنية. مضيفاً أن توثيق الجبانات كان المرحلة الأخيرة بعد فشل محاولات مخاطبة القيادة السياسية وتجاهل المسؤولين الرد على المقترحات البديلة.
وثقت المجموعة حتى الآن نحو 120 مدفناً، من بين آلاف المدافن بالقاهرة، ولديها مكتبة بها آلاف الصور عن شواهد القبور، التي تعد بطاقة شخصية بها معلومات عن تاريخ ميلاد ووفاة المتوفى، وفقاً للباحث مصطفى الصادق أحد دعاة الحفاظ على الجبانات التاريخية.
استشاري الحفاظ على التراث في اليونسكو: لا نقف ضد فكرة التطوير، بشرط أن تجري وفقاً لدراسات متأنية. وتوثيق الجبانات كان المرحلة الأخيرة بعد فشل محاولات مخاطبة القيادة السياسية، وتجاهل المسؤولين الرد على المقترحات البديلة
وتحدث الصادق في كلمة موجزة، خلال الافتتاح، عن تاريخ شخصيات الجبانات، وأعطى أمثلة لأحد اليهود القرائين الذين عاشوا في مصر مطلع القرن الماضي، وهو موسى منشة، واندهش الصادق من شاهد قبر منشة في حي المعادي، حيث كتب عليه آية من القرآن الكريم "كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"، بالإضافة إلى تاريخ وفاته بالأعوام الهجرية والميلادية والعبرية، وعبارات جرت العادة أن تسري على لسان المسلمين مثل " انتقل إلى رحمة الله، الفقير إلى الله"، وبسؤاله عن هل ذلك تأثراً بثقافة المسلمين، قال إنه لا يعلم سبب ذلك، لكنه أشار إلى أن مثل هذه الشواهد هي التاريخ الذي ينبغي الحفاظ عليه وتتبعه للإحاطة بكل تفاصيله وخفاياه.
وقال إن القبور تضم رفات شهداء من ثورة 1919 وكل الحروب والثورات التي وقعت بعد ذلك، بما فيها حروب الاستنزاف والعدوان الثلاثي إلى حرب أكتوبر 1973. "من يتذكر عبد الحكم الجراحي؟ شهيد ثورة 1935 المنسية، والتي قامت ضد الاحتلال الإنجليزي وضد حكومة نسيم باشا لإعادة دستور 1923؟ والذي اغتيل بـ 9 رصاصات على كوبري عباس، وكانت جنازته واحدة من أهم الجنازات في القرن العشرين؟".
يشير الصادق إلى هذه السطور من دفتر التاريخ ويعقب قائلاً: "لما قبر عبد الحكم يُهدم، معناه إننا نفقد جزء مهم من تاريخ مصر، فمن سيسجل لنا هذه الواقعة إلا شاهد القبر؟".
من يتذكر عبد الحكم الجراحي؟ شهيد ثورة 1935 المنسية، والتي قامت ضد الاحتلال الإنجليزي وضد حكومة نسيم باشا لإعادة دستور 1923؟ والذي اغتيل بـ 9 رصاصات على كوبري عباس، وكانت جنازته واحدة من أهم الجنازات في القرن العشرين؟ هذا القبر ستجري إزالته
انتهاك حرمة الموت بين مُقدسيها
العلاقة بين المقابر والمصريين راسخة في الزمن، حيث اجتهد أصحاب المقابر في جعلها خالدة وحية ما دام التاريخ حياً، إذ اعتاد المصريون زيارة المقابر في كل يوم جمعة وفي الأعياد، فهي علاقة قوية وخفية، لا تراها العين، لكن يحسها القلب وتدركها الروح، على حد تعبير داليا الشرقاوي قوميسير المعرض.
من أجل ذلك، ظهرت علاقة الربط بين الأموات والأحياء في لوحات الفنانة ريهام أحمد المدرس المساعد بكلية الفنون التطبيقية، فبعد زيارة قامت بها ريهام رفقة فريق عمل المعرض إلى المقابر للتعرف على تاريخها، وجدت ريهام أن المقابر سكناً للأحياء والأموات، فعكست هذا الارتباط في لوحاتها.
وقالت لرصيف22 إنها حرصت على أن استخدام ألوان قاتمة للمقابر وشواهدها ورسمها كأنها آيلة للسقوط، دلالة على أعمال الهدم التي تتعرض لها الجبانات، وتضيف: "حتى لو الجبانات اتهدت هتفضل موجودة في أعمالنا".
ورغم هذه المحاولات، لا تزال إزالة الجبانات مستمرة . من المتوقع وفقاً لمجموعة "فنانون من أجل توثيق جبانات القاهرة"، أن تبدأ عمليات إزالة أخرى خلال الأسبوع المقبل في جبانات السيدة نفيسة، ستضم تلك الإزالات مقبرة الأديب الكبير يحيى حقي. وهو ما أكده مصدر بمحافظة القاهرة. كاشفاً عن صدور قرار بإزالة الجبانات الواقعة في مسار أحد المحاور الجديدة، مشيراً إلى أن عدد المقابر المزمع إزالتها في تلك المنطقة يزيد عن 2600 مقبرة.
يقول المهندس محمد السعيد عضو مجموعة "فنانون من أجل توثيق جبانات القاهرة" لرصيف22 بصوت يائس: "الإزالة إذا استمرت بهذا الشكل، سنكثف جهودنا لتوثيق الجبانات المعرضة للإزالة، فعلنا كل المحاولات ورفعنا دعاوى قضائية لوقف تنفيذ الإزالات، وقدمنا اقتراحات بإقامة أنفاق بدلاً من الكباري، لكن من دون جدوى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...