ليس من السهل أن تكون ضحية أذى ما، ثم تقرر أن يقف هذا الأذى عندك، وألا تمرره لغيرك. فتلك سيدة كان يعنفها والدها الذي كان بدوره يلقى التعنيف من أحد والديه، ولكنها قررت ألا تكون حلقة أخرى وألا تؤذي أطفالها، مستعينة في رحلتها تلك بالعلاج النفسي والمهدئات وكل السبل للسيطرة على سلوكياتها معهم. وهذا بطل آخر قرر أن يحمي أخاه من العنف الأسر الذي تعرض له، وهناك اكثير من الأبطال غير المعروفين واللا مرئيين، الذين قرروا أن يفعلوا ما بوسعهم حتى يقل عدد ضحايا العنف والأذى في العالم، وألا تستمر دائرة العنف والعدوانية وتقف عندهم.
"كابوسي في الحياة أن تشعر ابنتي نحوي بأي خوف أو كراهية، كما شعرت أنا تجاه أبي المُعنِّف"
"لا أريد أن أكون نسخة من أبي"
تقول نهى حماد، 32 عاماً، من الجيزة: "كل ما أعرفه أنني لا أريد أن أكون نسخة من أبي. كان أبي عنيفاً، مارس ضدي العنف النفسي والجسدي، ضربني مرة حتى نزف جسدي. كرهت حياتي وكرهته، لا أتذكر أنه كان يوماً أباً حنوناً. ولا أدري هل حدث ذلك بقرار واعٍ مني، لكني وجدت نفسي أسعى بكل قوة ألا أشبهه في أي شيء، وعندما لاحظت بعض العصبية على تصرفاتي مع ابنتي، لجأت للمساعدة النفسية لأحل هذه المشكلة على المدى القريب بالمهدئات، وعلى المدى البعيد بجلسات العلاج النفسي وتغيير أسلوب حياتي. وأعتقد أنني نجحت في هذا الهدف إلى حد ما".
ترى نهى أن "كابوسها في الحياة" هو أن تشعر ابنتها نحوها بأي درجة من الخوف والكراهية، كما كانت تشعر هي تجاه أبيها: "أحاول أن أصنع نسخة حنونة وعطوفة لأجل ابنتي، ألا أترك لها ذكريات عن طفولة مشوهة ومعنَفة كما حدث معي".
"بمجرد حصولي على مسكن خاص أخذت أخي بعيداً عن أبي وأمي، وكان لا يزال في المرحلة الإعدادية. وقبلا عرضي على الفور، خاصة أنهما أرادا ألا يتورطا في نفقاته في الثانوية العامة أو الجامعة، فكان أول ما اشترطاه عليّ أن أتكفل بكل مصاريفه، وهو ما وافقت عليه على الفور"
لا تختلف حكاية أحمد مهنى، المدير المالي لإحدى شركات التقنية في القاهرة كثيراً عما تعرضت له نهى، إلا أنه كان يلقى التعنيف من كلا الوالدين، يقول: "كان لي أخ أصغر، ولم أكن قادراً على حمايته منهما، كانت وسيلة حمايته الوحيدة التي أقدر عليها، هي أن أتلقى أنا نصيب الأسد من التعنيف الذي يمارسه أبي وأمي".
كان الاستقلال المادي هو خطوة محمد الأولى نحو التخلص من أذى والديه وحماية شقيقه الأصغر: "بمجرد حصولي على مسكن خاص أخذت أخي بعيداً عنهما وكان لا يزال في المرحلة الإعدادية. والحقيقة الأمر لم يكن معركة أو حتى صعباً بأي شكل، بل وكأنما أزحت هماً عن صدريهما، خاصة أنهما أرادا ألا يتورطا في نفقاته في الثانوية العامة أو الجامعة، فكان أول ما اشترطاه عليّ أن أتكفل بكل مصاريفه، وهو ما وافقت عليه على الفور".
يحرص أحمد الآن على الزيارات المنتظمة لطبيبه النفسي، الذي شجعه منذ سنوات على قراره أن يتحمل مسؤولية أخيه كاملة، كوسيلة للتوازن النفسي، وإيقاف دائرة الأذى عن أن تؤلم أخيه كما آلمته هو.
أقسمت أن أكون داعمة لفريقي
أما مها عابدين، مهندسة الاتصالات السكندرية، فتروي لرصيف22 أنها منذ بدأت العمل، قادها حظها للعمل تحت إمرة مديرين ورؤساء تعرضت على أيديهم لصنوف مختلفة من الأذى المعنوي والمهني والمادي. تقول "الأغلبية كانت تجيد تحطيم المعنويات والتقليل من جهد فريق العمل، بل وأذكر واحداً من المديرين كان يغضب جداً لو شعر أن لدينا حياة خاصة واجتماعية بعيدة عن العمل. لذلك أقسمت أنه لو أتيحت لي الفرصة وكنت مسؤولة عن فريق عمل ومديرة له، لن أكون شبيهة بمن مروا بي؛ بل سأبذل كل طاقتي في مساعدته والعمل على رفع معنوياته، وهو ما أنفذه مع فريق عملي حالياً".
أنماط العنف المنتشرة حالياً تجاه الأبناء في المجتمع المصري، وأحدثها قصة طبيبة الأسنان الشابة سارة خالد، هي أنماط لا يمكن ردّها لمسألة التوارث الجيني، وإنما هي سلوكيات عنيفة خاضعة إلى حد كبير لإرادة أصحابها
العنف وراثي
الطبيبة النفسية نهال زين تقول لرصيف22 إن الشواهد العلمية على توارث العنف قوية، فمن يتعرض للعنف والإيذاء لفترات طويلة في الصغر، يصعب عليه تخيل شكل آخر لإدارة العلاقات الإنسانية.
تشير زين إلى سلسلة من الدراسات العلمية التي أجريت في عدد من مراكز الأبحاث الأكاديمية حول "جينات توارث العنف"، والتي خلص بعضها إلى وجود مجموعات منعزلة خاصة في الدول النامية يمكن تفسير سلوكها العنيف تجاه أولادها بميراث جيني من آباء معنفين بطبعهم، إلا أنه نادراً ما يكون العنف النابع عن ذلك الميراث الجيني بالغ الإفراط حد قتل الأبناء أو ممارسة درجة من العنف تدفعم إلى الانتحار، ما يعني أن أنماط العنف المنتشرة حالياً تجاه الأبناء في المجتمع المصري، وأحدثها قصة طبيبة الأسنان الشابة سارة خالد، هي أنماط لا يمكن ردّها لمسألة التوارث الجيني، وإنما هي سلوكيات عنيفة خاضعة إلى حد كبير لإرادة أصحابها.
في كتاب "الأسس الوراثية للعنف والعدوانية: الجزء الثاني - دور Genetics الجينات"، الصادر عن المركز العراقي لبحوث السرطان والوراثة الطبية، ناقش علي محمد الحسين االديب، وسعد معن ابراهيم، وناهي يوسف ياسين، دور العوامل الوراثية الموجودة في الخلية وعلاقتها بالعنف والعدوانية والسـلوكيات الأخرى المرتبطة بها. وقد نشروا جدولاً ملخصاً لنتائج الدراسة، يوضح مسؤولية كل جين عن سلوك معين، مثل العنف والعدوان، والميول الانتحارية، والاغتصاب، والاكتئاب الثنائي القطب.
تقول الطبيبة النفسية نهال زين: "طبياً، نحن نرث العنف من أهلنا. لكن الأمر ليس وراثياً او جينياً فقط، بل يمكن للبيئة المحيطة أن تكسب الإنسان سلوكاً عنيفاً وعدوانياً، فالطفل الذي يتربى في أسرة معتلة ومؤذية، مارست ضده عنفا نفسياً أو جسدياً أو جنسياً، يكون معرضاً لاكتساب سلوكيات عنيفة".
إلا أن هناك – بحسب الطبيبة - فرصة لدى الفرد المتعرض للإيذاء، أن يرفض هذه السلوكيات ويقاومها، "وهناك مدارس علاجية كثيرة لتقويمها وعلاجها، وإدارة مشاعر الغضب. لكن هذه الفرصة، تقول زين، تتطلب عدة مقومات، منها أن يكون هناك وعي وإدراك ورغبة في كسر هذه الدائرة من العنف والأذى، "هذا الوعي هو الذي يحرك الشخص لتلقي العلاج السلوكي والنفسي، وهنا يكمن الفارق الجوهري، فليس كل من تعرض للعنف يملك هذا النوع من الوعي والرغبة في كسر سلسلة العنف، وألا يعيد ممارسة العنف الذي مورس ضده/ ها من قبل أهله/ ها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «الاستبصار»".
وتختم زين: "وأخيراً، فإن الوعي والتثقيف النفسي، يعملان على اكتشاف المعاناة؛ ما قد يدفع الناس نحو التغيير للأفضل، خاصة إذا وصلت هذه المعاناة بالشخص إلى خسارة أصدقائه أو عمله أو تعرض لمشاكل كبيرة قد تكون قانونية. فعدم القدرة على إدارة الغضب قادر على توريط الشخص في أزمات ضخمة، وكذلك من المهم جداً وجود طرف داعم يوفر مساحة آمنة نفسياً، مثل الأم التي تقرر الخروج من علاقة مؤذية من أجل حماية أطفالها والعمل على علاجهم نفسياً مع متخصصين، أو الأصدقاء، أو بعض الأقارب. هذا الطرف من الممكن أن يكون قارب نجاة في لحظة ما".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...