انهمكت في العمل شهرين متواصلين من دون راحة مما أدى إلى انهياري ذهنيّاً وعاطفيّاً، ولكن انهيار الليرة التركيّة كان أعنف بكثير. الفرصة مواتية الآن حتماً لزيارة تلك البلاد التي طالما ارتبطت في ذهني بالعثمانيين وحضارتهم. ولربما ارتبطت أكثر بالمآذن الضخمة، أسياخ الشاورما، وعمليات التجميل وزرع الشعر لأعضاء نادي الثلاثين أمثالي. تلك هي روح إسطنبول المليئة بالتناقضات؛ فهي تشتهر بأندية كرة القدم التي أرعبت الأوروبيين في دوري الأبطال، وأيضاً بـ"الدونر كباب" الذي يرعبنا بمجرد معرفة ما يحتويه من سعرات حراريّة. منذ اللحظة الأولى، تقع عيوننا على ذلك التناقض، فهناك فتاة ترتدي "هوت شورت" أقصر من فترة انتباهي، وبجانبها فتاة أخرى مغطاة تماماً.
في اللحظة التي تطأ قدماي خارج مطار "صبيحة جوكشِن"، أرى الأعلام التركية تتدلى من شرفات المنازل مرفرِفةً في كل مكان، وبجانبها صورة للعم أتاتورك مؤسس الدولة الحديثة ووالد صبيحة جوكشِن. قسّم أتاتورك -من دون أن يدري- الترك إلى قسمين؛ أحدهما علماني مهووس بالغرب والحداثة، وهم أغلب سكان كاديكوي حيث قطنت. أما القسم الآخر فهو محافظ متمسك بتديّن عثماني الهويّة، ما زال يبكي أطلالَ السلطنة البائدة، ويحلم بعودة دولة تجاوزها الأتراك أنفسهم، وفضّلوا الاندماج مع نصفهم الأوروبي.
تقع إسطنبول ما بين آسيا وأوروبا حيث يقسّمها مضيق البوسفور إلى نصفين، والذي يصل بدوره بين بحر مرمرة جنوباً -وهو امتداد البحر الأبيض المتوسط- والبحر الأسود شَمالاً.
الشاي في إسطنبول
تَجولُ العبَّارات على مهل في مضيق البوسفور، حيث يمكنكم قضاء نهار صيفي حار متابعين إيّاها من مرفأ "أوسكودار" في مشهدٍ خلّاب. ولكن طابعي الجوزائي -سريع الملل - أبى إلاّ أن يغيّر المشهد للتجوّل في سوق أوُسكودار "Üsküdar" الشعبي. عرفت هناك المحّار المحشي بالأرز والتوابل، السميت الساخن والشاي الذي يرضعونه قبل الأكل وبعده وخلاله .
أكادُ أجزم أن مَزارع الشاي لو توقفت عن الإنتاج لتوقفت الحياة في إسطنبول. إنهم فاقوا المصريين في رَشف كاسات الشاي صباحاً ومساءً بلا توقف لدرجة أن التقاليد في حانات الشارع في كاديكوي، تحتّم أن تشربوا الشاي بعد أن تنتهوا من مشروب العَرَقْ "الراكي" - وهو مشروب كحولي قوي تركيزه يعادل مجموع أختي في الثانوية العامة 60% -.
هي البلاد التي طالما ارتبطت في ذهني بالعثمانيين وحضارتهم. ولربما ارتبطت أكثر بالمآذن الضخمة، أسياخ الشاورما، وعمليات التجميل وزرع الشعر لأعضاء نادي الثلاثين أمثالي... تلك هي روح إسطنبول المليئة بالتناقضات
انبهر أواخر السلاطين العثمانيين في الغرب، فأنشأوا قصر "ضولمة بهتشة" على ساحل البوسفور في بشِكْتَاشْ على الطراز الأوروبي الفخم والمعاصر. وتركوا مقرّ الحكم القديم "توبكابي Topkapi Sarayi" الذي بُني على الطراز العثماني والذي ظهر في مسلسل "حريم السلطان".
قصور إسطنبول
تذمّرت وأنا أدفع مائتي ليرة محاولاً إقناع الشقراء في شباك التذاكر أن أجدادي هم من دفعوا الضرائب لبناء هذا الصرح، وأنّ العمال المهرة غادروا مصر إلى الأستانة في عهد سليم الأول كما أكدت لي ميس عزّة مدرّسة التاريخ. وحتماً كان أحد أقربائي من العمال المهرة هؤلاء ولي الحق في... قاطعتني الشقراء مفضّلة عدم الردّ، وأعطتني ماكينة الڤيزا لتسكتني. فدفعت رغماً عنّي، واعتبرتها إكراميّة للنقاش الذي شطَّب الواجهة المبهرة للقصر.
قرابة الساعتين، تجوّلت في ردهات قصر "الضولمة بهتشة" منبهراً بالتفاصيل الدقيقة في تزيين الأعمدة، والحيطان، ورسوم الجدران. سحقاً، كم دفع عبد المجيد الأول للعمال مقابل تشطيب ذلك القصر. لكنني سرعان ما تذكرت أنّ تلك كانت أموال ضرائب أجدادي المصريين التي دفعوها رغماً عنهم إلى العثمانيين، فاندفع منِّي سيل من الشتائم المصريّة التي تعلّمتها في "العطّارين" مسقط رأسي. وسرعان ما أسكتني الحارس التركي - السيىء التغذية - مطالباً إيّاي بالمحافظة على هدوء المكان. دخلنا الآن قاعة المراسم حيث تقبع النجفة الكريستاليّة الشهيرة والتي تحوي 750 مصباحاً وتزن 4.5 أطنان، يقولون في دليل الزيارة إنها جاءت خصيصاً من بريطانيا مفككة في صناديق واستغرق تجميعها 12 عاماً.
ما بين غرفة البيانو، غرفة الاجتماعات الفخمة، الحمّامات المغطاة بالكامل بالرخام الفاخر، السقوف المرتفعة والنوافذ المطلة على مناظر بوسفوريّة أجمل من الرسوم المعلّقة على الجدران بجانبها. شعرت بهيبة السلاطين العثمانيين وأشفقت على السيدة التي تأتي للتنظيف كل يوم جمعة، فحتماً كانت تعاني من المجهود أولاً، ناهيك بتسلّط البيه والهانم وتعليماتهما لتلميع النجفة ثانياً.
خرجت من القصر المهيب لأجد أفواجاً من جماهير الفريق الأشهر في تلك المنطقة "بشكتاش"، وهم متجهون صوب الإستاد المقابل للقصر والذي سمّي "ڤودافون بارك"، وقد كانت عادة مستحدثة في ملاعب كرة القدم والتي يتمّ تسميتها بإسم الشركات الراعية كنوع من الدعاية، أو فلنقل كنوع من تأكيد انتصار القيم الرأسماليّة على تلك الرياضة. على الناحية الأخرى في الجانب الآسيوي أيضاً، نجد الإستاد الأشهر هناك لفريق فناربخشة وقد سمّي "أولكر ستاديوم" تيمّناً بشركة أولكر "Ülker" وهو المصنع الأشهر في تركيا لانتاج البسكويت والحلويات.
بوابة قصر ضولمة بهتشة - بشكتاش
ركبت العبّارة العائدة إلى الجانب الآسيوي من بشكتاش إلى كاديكوي حيثُ أقطن، وهي نزهة مسلّية أكثر منها وسيلة مواصلات حيث نشاهد السفن الصغيرة في البوسفور وأيضاً سفن خطوط الملاحة وزوارق الصيّادين. كانت طيور النورس المخادعة تأكل السميت من ركاب العبّارة، تارة برضاهم وتارة رغماً عنهم. فالنوارس هناك كبيرة الحجم وعدوانيّة أحياناً، ولولا منقارها الكبير لانقضّت على كوب الشاي الذي دفعت ثمنه لتوّي ولم يبرد بعد. نزلت في المرفأ وركبت الميكروباص الصغير - الذي نسميه في الإسكندريّة "مشروع" - ويسمونه هنا دولموش Dolmuş. وقد كان موقف الدلامش مزدحماً، لكنني أمتلك المهارة اللازمة لذلك من مزاحمة الركاب بكتفي، وقد اكتسبتها من مشاركتي يومياً في ماراثون الركوب من محطة مصر في الإسكندريّة. أربع سنوات في كلية العلوم بـ "محرّم بك" لم تذهب هباءً.
أكادُ أجزم أن مَزارع الشاي لو توقفت عن الإنتاج لتوقفت الحياة في إسطنبول. لقد فاقوا المصريين في رَشف كاسات الشاي صباحاً ومساءً بلا توقف لدرجة أن التقاليد في حانات الشارع في كاديكوي، تحتّم أن تشربوا الشاي بعد أن تنتهوا من شرب "الراكي"
كان اليوم التالي ممطراً شديد الرياح، فقد كانت إسطنبول تتقلب مزاجيّاً كل يوم بشكل يعجز شخصي الجوزائي عن فهمه. وكان عليّ أن أوصد النافذة، لكن لم تكن لديّ أيّ نيّة للنهوض من الفراش الذي أدفأته بصعوبة. أقنعت شريكي الكسول بالنهوض بعد عناء -وهو شخصيتي الثانية- لنأخذ إفطاراً سريعاً في "مادو"، مكوّناً من شاي -بالطبع - ومينمن بالسجق، وهي التي نسميها "شكشوكة"، ثم شاي مرة أخرى. حتى لا أحرج مقدمة الطعام الحسناء، تجاذبت معها أطراف الحديث مستخدماً الإشارات، فالأتراك بنسبة كبيرة لا يعرفون الإنكليزية، لكنهم يجيدون الابتسام والمساعدة. حيّيتها: "Görüşürüz, salam".
ثم انطلقت في شارع بغداد للتبضّع قليلاً. امتلأ "بغداد جاديسي" في الليالي الماضية، بشباب العشرينات الذين يفضّلون بارات الشارع على الطراز الإنكليزي "street pubs"، بينما يعجُّ في الصباح بالعائلات والعجائز والشوارب الكثيفة. "بغداد جاديسي" تعني "جادة بغداد" أو "شارع بغداد"، فالتركية تشترك مع العربية في مصطلحات كثيرة.
بعد تمشية طويلة، بدا حيّ "موضا" وجهة مناسبة لقضاء الأمسية. فركبت الترام إلى هناك، واخترت بقعة هادئة في الحديقة العامة لمشاهدة الغروب على شاطئ مرمرة. تباً لتلك الحديقة، فالخروج منها يتطلّب صعود 56 درجة سلّم. لو علمت ذلك لما دخلتها وليذهب الغروب إلى الجحيم، فما المميّز فيه على أيّ حال؟! فقط كجرس الحِصّة يعلن انتهاء فترة وبداية فترة أسوأ!
حان الآن وقت التسكّع في أزقّة "موضا" إلى أن أجد حانة تعجبني موسيقاها، وتكون جلستها خارجيّة مُطِلّة على الشارع. وجدت ضالتي عندما سمعت موسيقى "بون چوفي" في حانة أوفينهاوس، فأيقنت أنني في المكان الصحيح. لحظة واحدة، لم أرَ في "موضا" برمّتها فتاة واحدة محجّبة، على العكس من منطقة فاتح والسلطان أحمد، حيث كان ذلك مشهداً اعتيادياً. فقررت أن أستفسر عن ذلك في أول محادثة مع تركي يجيد الإنكليزية، وعرفت لاحقاً أن قرارات أتاتورك الخاصة بالجمهورية الجديدة كان من آثارها الجانبيّة شعور بعض الأتراك بضرورة التخلّص من الثقافة العثمانيّة التي زالت تحت ضربات الحداثة الغربيّة. فتكوّنت طبقة من الأثرياء الجدد بعد نشأة الجمهورية، وتباهت بتبنّيها لقيَم الحضارة الغربيّة. كانت "موضا" ممتلئة بالشباب المنتمين إلى أبناء الطبقة الوسطى الجديدة المتأثرة بالانفتاح على أوروبا. فالإسطنبوليّون قسّموا المناطق على أساس طبقي -كحال البشر جميعاً- وعلى أساس فكري أيضاً.
لم يختلف الحال عن الإسكندريّة
نقاشات ثقافيّة، شكوى من غلاء الأسعار، فتيات سيّئات التغذية، نميمة شبابيّة، مطاعم برغر على الطراز الأمريكي وكميات رهيبة من البيرة المحليّة الصنع "Efes". لم يختلف الحال هنالك كثيراً عن الإسكندريّة، فهو ليلُ واحدٍ في كل المدن. إكتفيت من النقاش وذهبت لأطلب وجبة دسمة من الإسكندر كباب وهي قطع من اللحم المطبوخ بالكثير من الزبدة. ندِم قولوني ندماً شديداً وسمعت سبابهُ لي واضحاً - بالعربية -. فحاولت إنقاذه بالمشروب المهضّم المفضل لدى الإسطنبوليين "عيران Ayran" وهو لبن رائب يغلب عليه الطعم المالح. لكنه لم يفلح في غسل آثار الجريمة ولا في إسكات قولوني "العصبي جداً"، فآثرت العودة إلى المنزل. شكراً للربّ -والملائكة- على وجود الشطّافة في المنزل، لقد انتصرت القيم الغربية في كل شيء إلاّ في تلك المعركة الهامة. لم يرضخ أبناء الأناضول تماماً رغم كل شيء.
ساقني الفضول في اليوم التالي إلى "بيه أوغلو" وهو الحيّ الأشهر في الجانب الأوروبي، الذي يحتوي على ميدان "تقسيم" وشارع الاستقلال امتداداً إلى غلاطا. اشتهر "إستقلال" قديماً بدكاكين الملابس في مبانٍ على الطراز الأوروبي، محال الصاغة، باعة الحلويات، وبالطبع مقاهي الشارع. ونجد تلك الأبنية الكلاسيكيّة نفسها الآن وقد تحوّلت بطبيعة الحال إلى محالّ أشهر الماركات العالمية من ملابس وأحذية تعرض أحدث صيحات الموضة، بأسعارٍ سياحيّة بالطبع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...