في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1932، قُتل مرتضى إبراهيم برصاصة في الرأس في منزله بولاية ميشيغان التي هاجر إليها قبل أعوام من بلده الأم سوريا. أفضت التحقيقات إلى متهميْن أساسيين: زينب أمين، زوجته السابقة وهي سورية أيضاً، ولويس غروس، نازح يهودي من نيويورك. برّأت المحكمة أمين وأدانت غروس وحكمت عليه بالسجن المؤبد. بالرغم من إصراره على براءته وزعمه بأن أمين قد لفّقت له التهمة بالتآمر مع عشيقها سام حزامي، أمضى غروس سبعة عشر عاماً في السجن محاولاً استئناف الحكم أكثر من مرة الى أن نجح أخيراً بمساعدة الكاتب والمحامي إيرل غاردنير في إثبات براءته وردّ الحكم.
قصة كتلك، بما فيها من تفاصيل مذهلة سنتلوها لاحقاً عن علاقات زينب ومغامراتها، قد تصلح مادة لرواية بوليسية أو حتى لسلسلة درامية تلفزيونية، إلا أن الباحثة رندة طويل وجدت فيها مدخلاً مناسباً لدراسة تداعيات الهجرة على صياغة الهويات العرقية والجندرية للمهاجرين، وجعلتها موضوعاً لورقتها البحثية "بساط طائر نحو الهلاك: تقفي الجندر والاستشراق في الرحلات عبر الوطنية لامرأة سورية مهاجرة 1912-1949". يلقي هذا البحث الضوء على اقتصادات الحركة (أي جميع التبادلات الاقتصادية المستفيدة من حركة المهاجرين) ودورها في تشكيل علاقات المهاجرين بعضهم ببعض وبالمجتمعات المضيفة كذلك.
الجغرافيا كمجال منتج للجنس
كانت زينب أمين واحدة من ملايين المهاجرين الذين أقدموا، في بداية الألفية السابقة، على العبور من دول العالم الأقل حظاً باتجاه الأمريكيتين، بحثاً عن فرص العمل والحياة العصرية. خلال انتقالهم عبر القارات والبحار، شقّ هؤلاء الرحالة دروباً لم تقتصر على المجال الجغرافي وحده، بل تخللتها مسارات بناء الهويات العرقية والثقافية والجندرية للمهاجرين، هي هويات أملتها عليهم حركة الانتقال مع ما يتخلّلها من قيود ورقابة وتشكيك في نيات هؤلاء الأفراد وجوهرهم الانساني.
تتخذ طويل من رحلة زينب عبر المحيطات نموذجاً بحثياً لمقاربة الحدود الجغرافية بين الدول بوصفها مواقع منتجة للجندر والجنسانية. وبدلاً من تبني مفهوم الاستشراق كأساس لتحليل التغاير الثقافي للمهاجرين (الشرقيين منهم تحديداً)، تسلّط طويل الضوء على مساعي الدولة لطمس ممارساتها العنفية عبر إعادة تقديمها في قالب الاختلاف الثقافي.
لا تلعب الكاتبة دور المحقق أو التحري، ولا يهمها كشف ملابسات الجريمة بنية تبرئة أمين أو غروس. إلا أنها تبذل جهداً في سبيل إثبات براءة زينب في مواجهة تهمٍ أخرى وجّهها إليها مفتشو الحدود ومؤسسات الدولة خلال انتقالها من بيروت إلى مارسيليا ثم ليفربول والمكسيك، وصولاً الى الولايات المتحدة. هي اتهامات متجذرة في جنسانية زينب وهويتها الثقافية التي تمّ النظر إليها بعين الريبة في كل نقطة حدودية حاولت عبورها، كامرأة مستقلة أو مرافقة لزوج أو رجل غريب، ما اضطرها للجوء إلى طرق ملتوية من أجل كسر حصارها والعبور نحو حياة جديدة. لكن تلك الريبة لاحقتها في حياتها الجديدة، إذ استُبدلت رقابة الدولة بأخرى مجتمعية تعاملت معها بوصفها "آخر" يقلّ تحضراً وفضيلة.
في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1932، قُتل مرتضى إبراهيم برصاصة في الرأس في منزله بولاية ميشيغان التي هاجر إليها قبل أعوام من بلده الأم سوريا. أفضت التحقيقات إلى متهميْن أساسيين: زينب أمين، زوجته السابقة وهي سورية أيضاً، ولويس غروس، نازح يهودي من نيويورك
من أجل إنصاف أمين، تستند الباحثة الى الأرشيفات الحكومية التي وثّقت حركة تنقلها بين عدة دول، وعمدت إلى ربط بعضها ببعضٍ بغية بناء سردية منطقية حول رحلة زينب وعواقبها اللاحقة، وذلك في سياق جنسانيتها وانتمائها الثقافي. كذلك، تحلّل طويل باقتضاب رحلة غروس من نيويورك الى ميشيغان في سياق خلفيته العرقية والدينية التي جعلته مذنباً في ولاية معينة ثم بريئاً على نطاق وطني، مع تبدّل الأهواء الأمريكية وابتعادها شيئاً فشيئاً عن معاداة السامية نحو الإيمان بالاستثناء والخصوصية اليهودية.
زينب
أبحرت زينب في العام 1912 من مرفأ بيروت باتجاه الولايات المتحدة على متن سفينة تابعة لشركة شحن فرنسية، برفقة زوجها محمود عجمي وابنهما. كانت الوجهة ولاية ميشيغان حيث جذبت فرص العمل التي وفّرها مصنع "فورد" أعداداً هائلة من الأسر العربية التي استقرّت في الولاية.
مع ازدياد حركة الهجرة والتجارة، أضحى رعايا الاستعمار يجسدون مخاطر العدوى المرضية والجنس، فازدادت معها القيود القانونية والطبية التي سعت الى ضبط حركة التنقل بأشكالٍ اعتباطية، مدعّمةً بخطاب استشراقي يرى الأفراد الآتين من "الشرق" على أنهم منحرفون وهمجيون في علاقاتهم وفي استهلاكهم للأطعمة والجنس على نحو غير صحي، مع تجاهل كامل لإخفاق شركات الشحن والسلطات الأوروبية في توفير ظروف صحية لائقة للمسافرين.
وقعت أمين ضحية هذه الاعتباطية في مرسيليا حيث تمّ تشخيصها بمرض "TRACHOMA" لمجرّد أن عينيها تبدوان أكثر احمراراً من اللازم. وعليه، مُنعت من استكمال رحلتها وتمّ ارسالها إلى ليفربول من أجل العلاج، لتفوتها الرحلة إلى الولايات المتحدة وتفترق عن زوجها وابنها اللذين أبحرا من دونها على أن توافيهما لاحقاً. وهكذا وجدت نفسها وحيدةً من دون موارد (لا مال ولا لغة) في بلدٍ غريب، مما جعلها عرضةً للاستغلال والإساءة.
هي اتهامات متجذرة في جنسانية زينب وهويتها الثقافية التي تمّ النظر اليها بعين الريبة في كل نقطة حدودية حاولت عبورها، كإمرأة مستقلة أو مرافقة لزوج أو رجل غريب، ما اضطرها للجوء الى طرق ملتوية من أجل كسر حصارها
في الفندق التي كانت تقيم فيه في ليفربول، تعرّفت زينب على رجل سوري يدعى أبو علي سعيد عبد الله ويحمل جواز سفر كندياً. أقنعها عبد الله أن مرافقته كزوجته في الرحلة إلى أمريكا سيتيح لها الدخول إلى كندا ومن ثم الى الولايات المتحدة بسهولة. نجحت الخطة ووصلت زينب إلى ميشيغان حيث أمضت أشهراً خمسة مع زوجها قبل أن تكتشفت السلطات أمرها فتخضع لمحاكمة ويجري ترحيلها الى مرسيليا. من هناك، سافرت إلى الحدود المكسيكية حيث حاولت مراراً، على مدى سنوات ثلاث، الدخولَ شرعياً إلى الولايات المتحدة، ومراراً تم رفض طلبها على خلفية سجلات ترحيلها من الولايات المتحدة وعلاقتيها المشبوهتين بعجمي وبعبد الله.
وغالباً ما تمت مساءلتها من قبل مفتشي الحدود عن طبيعة علاقتها بعبد الله، لا سيما في بعدها الجنسي، إذ أظهر المحققون اهتماماً بالغاً بمعرفة ما إذا كانت قد مارست الجنس معه أم لا، كأساسٍ لدراسة طلبها المتعلق بالدخول إلى الولايات المتحدة. حتى أن أحد المحققين قد خلص إلى أنه "بناءً على تاريخها، فهناك احتمال كبير بأن تعيش حياة سيئة إذا ما سُمح لها بالعبور". بالنسبة للباحثة، لم تكن هذه الكلمات نبوءة إنما إدانة.
أخيراً، بعد محاولاتٍ عدة، اضطرت زينب في إحداها للجوء إلى سبل الاحتيال وفشلت مرةً اخرى. توقف زوجها عن مدّها بالمال بسبب غرقه في الديون، كما طّلقها وطلب من قريبه (مرتضى ابراهيم) أن يتزوجها كي يأتي بها إلى الولايات المتحدة. وبناءً على اقتراح محمود، تزوجت زينب من جديد وعبرت الحدود، تحت اسمٍ زائف، برفقة إبراهيم الذي قضى لاحقاً في جريمة القتل التي اتّهمت بها زينب- وتمّت تبرئتها- إلى جانب غروس- وجرت محاكمته.
غروس
لا تملك الباحثة عن حياة غروس غزارة التفاصيل التي زودتها بها سجلات هجرة زينب. ما تعرفه عنه هو ما نشره الصحافي غاردنير في عموده القانوني "محكمة الملاذ الأخير" في مجلة "أرغوزي". باختصار، لويس غروس هو رجل يهودي من أسرة فقيرة مقيمة في نيويورك، كان يعمل بائعاً متجولاً هناك إلى أن أفلس إثر تعرضه لإصابة جسدية، فشرع يبحث عن فرص أخرى في ولاية "أوهايو" حيث نصحه أقرباؤه بالانتقال إلى ديتروت للعمل في معمل فورد.
كان هنري فورد عملياً يملك منطقة "هايلاند بارك" في ديترويت، وقد عرف بتوجهاته المعادية للسامية، إذ أسّس جريدة مخصصة لنشر الدعاية التي "تتهم اليهود بالتآمر، البولشفية، والسيطرة على وسائل الإعلام،" بحسب الباحثة. وعليه، أضحت "هايلاند بارك" معقلاً لإحدى الجماعات الإرهابية المتعصبة للعرق الأبيض (بلاك ليجون)، والتي أرهبت السكان السّود واليهود في ديترويت.
بين الجماعات البيضاء الكارهة لليهود من جهة، والمقيمين العرب الذين ما انفكت تزداد أعدادهم من جهة أخرى، وجد لويس نفسه مبعداً وغريباً في مدينة لا تقبله، ما جعله هدفاً هشاً للمجتمع المضيف وللنظام القضائي أيضاً. إن نزوحه من نيويورك الى أوهايو ثمّ ديترويت وضعه في عزلة خلال أزمة اقتصادية كان فيها الأفراد في أمس الحاجة الى حماية الجماعة ودعمها.
حاول غروس استخدام الصور العرقية النمطية من أجل إثبات ذنب زينب، فيما عمد الى محو خلفيته العرقية والاقتصادية مقدّماً نفسه كرجلٍ أبيض من مرتبة اجتماعية متوسطة
خلال المحاكمة، ألقى الشهود اللوم على غروس في قضية مقتل مرتضى، وزعموا أن الجريمة قد وقعت بسبب صفقة تجارية سيئة متعلّقة ببيع بساط. وقد ساهمت جرائمه السابقة وتمضيته فترات في السجن في تصويره على أنه دخيل على المجتمع ومثيراً للمشاكل. وبالرغم من أن يهوديته لم تشكّل دليلاً جرمياً صريحاً، ساهمت التصورات العنصرية المرتبطة بها، كالإجرام والرغبة في الحصول على المال، في لصق التهمة به.
حُكم على غروس بالسجن المؤبد وحاول مراراً الاستئناف ولكن دون نجاح. نشر فيما بعد مقالاً في الصحيفة القانونية Crimes & Confessions زاعماً أن زينب تآمرت مع حبيبها سام حزامي من أجل قتل زوجها ولفّقت له التهمة بعد أن باعته بساطاً أضحى الرابط الوحيد بينه وبين الزوجين زينب ومرتضى. في مقالته، حاول غروس استخدام الصور العرقية النمطية من أجل إثبات ذنب زينب، فيما عمد الى محو خلفيته العرقية والاقتصادية مقدّماً نفسه كرجلٍ أبيض من مرتبة اجتماعية متوسطة.
مهاجر مثالي وآخر همجي
أثارت قضية غروس فضول الصحافي غاردنير برغم أن شخصية الأول لا تتطابق مع صورة المواطن الصالح والمتهم المظلوم الذين كان يسعى غاردنير عادةً الى تبرئته. لكن في قصة غروس بطل آخر كان هو السبب في تولّي غاردنير الدفاع عن المتهم، وهو حاخام غروس، جوشوا سبيركا، الذي رأى فيه الصحافي النموذج المثالي للمهاجر الذي يستحق الترحيب به في المجتمع الأمريكي.
كمهاجر بولندي ينتمي الى أسرة حاخامات بارزة، جاء سبيركا الى الولايات المتحدة وإلتحق بجامعة لدراسة اللاهوت اليهودي ومن ثم وضع تعاليمه الدينية في خدمة مجتمعه. وعليه رأى غاردنير في جوشوا سبيركا "المهاجر والبطريرك المثالي، بما يحمله من صفات الفردية البطولية التي يمجّدها المجتمع الأمريكي،" على حدّ تعبير طويل. أولاً لأن سردية هروبه من الفاشية الأوروبية بحثاً عن التسامح والعدالة الأميركية تتناسب مع أيديولوجية الحرب الباردة التي كان غاردنير من أتباعها. ثانياً، لأن سبيركا ينحدر من أسرة يهودية مثقفة وكان يجسّد بالنسبة للمجتمع الأمريكي الأبيض النوع المرغوب فيه من المهاجرين، أي ذلك القادر على أداء واجباته المدنية خارجاً، مع الحفاظ على ثقافته الخاصة في المنزل.
بالنسبة لزينب، كلّما سافرت كلّما "زاد حصارها". صحيح أنها لم تُدَنْ في جريمة القتل لكنها عوقبت مراراً على حركتها واستقلاليتها من الذكور، وحملت وصمة الانحلال الأخلاقي والانحراف الجنسي
وضع غاردنير هذه الصفات في تناقض صارخ مع سلوك الجالية السورية في ديترويت التي كانت "منغلقة على نفسها" "ومستهترة بقوانين البلاد". جسّد سبيركا النوع "الصحيح" من المهاجرين الذين وجدوا طريقةً للفصل بين إيمانهم الديني وحياتهم المدنية، في مقابل المجتمع السوري الذي حمّله غاردنير مسؤولية استمرار مشكلات "العالم القديم" في الولايات المتحدة.
العدالة لغروس، أما زينب...
في العام 1949، خرج غروس من السجن عائداً الى نيويورك. "هل تجعله رحلته رجلاً حراً؟"، تتساءل طويل. فالوضع مختلف بالنسبة لزينب التي "كلّما سافرت زاد حصارها". صحيح أنها لم تُدَنْ في جريمة القتل لكنها عوقبت مراراً على حركتها واستقلاليتها من الذكور، وحملت وصمة الانحلال الأخلاقي والانحراف الجنسي.
لا يمكن أن ننكر هنا تورط بطلة قصتنا، بشكلٍ أو بآخر، في علاقات مشبوهة ومتعدّدة، لكن ما يهم الباحثة إظهاره هو أن "الوقائع التي تحيط بهجرة زينب الى ميشغان هي المسؤولة عن جندرة وجنسنة علاقاتها". فحركة أمين كانت دائماً منظمة حول جنسانيتها، هي التي سمحت لها بالهجرة بدايةً (كزوجة وأم)، وهي التي منعتها من مواصلة الطريق وأصبحت سبب استبعادها.
تسرد المؤلفة قصة زينب أملاً بفتح "باب العدالة أمام زينب ومثيلاتها من النساء المتنقلات اللواتي يواجَهن بخيارات مستحيلة في إحدى محطات رحلتهن فقط لكي يتمّ معاقبتهن بقسوة على القرارات التي اتخذنها في المحطة التالية".
*رندة طويل هي أستاذة مساعدة لدراسات المرأة والنوع الاجتماعي في جامعة تكساس المسيحية، ومتخصصة في شؤون الهجرة والتنقل والدراسات العرقية والدراسات العربية/ الشرق أوسطية الأمريكية.
**نُشر هذا البحث في مجلة "Frontiers: A Journal of Women Studies" (2022) التابعة لجامعة نبراسكا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...