الحواس
لم أفهم تماماً معنى هذه العبارة حين قرأتها، حتى عشتُها حرفياً ليلةَ أمس.
المشهد الأول، المشهد البعيد
جلسنا معاً. أشعلتَ سيجارتك التي نادراً ما تنطفئ وأنتَ المولع بالتّدخين، وبعد ثوانٍ وضعتَها في المنفضة، ومددتَ يدك تتلمّس ذراعي الأيسر، كتفي، زندي، ساعدي، معصمي، كَفّي، أصابعي، وأضفت: "ما أحلاكِ!".
حينها شعرتُ حرفيّاً بطفلٍ يجلسُ أمامي، يتفقّد ليلاً وجود أمِّه إلى جانبه في السّرير لأنّه يخاف العتمة. ابتسمتُ لكَ بطمأنينةً وكأنّي أقول لكَ: "أنا هنا، يا ابنَ قلبي".
انتبهتَ أنّ سيجارتك في مشربها قد نقُصَ حجمها وانطفأت، فأعدتَ إشعالها. دخّنتَ ما بقي منها وأنتَ تمسكها بأصابع يدك اليُمنى، في حين كنت أُمسك يدك اليسرى بطريقة أعلم أنّها كانت متعبةً لكَ، لكنّك كنتَ تبتسم لي وتنظر في عينيَّ، وقلت: "لمَ لمْ تُشعلي سيجارة بعد؟".
ضحكت لأنّي كنت قد نسيت الأمر كليّاً، بل حتى قطع البسكويت التي جلبتها لي بعدّة نكهات (شوكولا، حليب وفانيليا، وقطعة كيك محشو بالشوكولا) ، وأنا التي تحمل مشاعر الأطفال ولهفتهم حيال هذه المأكولات السّكرية، لم أمدّ يدي عليها؛ وأيضاً "كاسة المتة" الموضوعة أمامي كانت مهملة كليّاً بالنّسبة لي، إذ كان كلّ تركيزي البصري عليك: كيف تنظر، كيف تتنفس، كيف تدخن، كيف تنفث الدّخان، كيف تتحرك شفاهك وأنت تتحدّث، انحناءة جسدك باتجاهي وكأنّك تريد أن تعبر الطّاولة التي تفصلني عنك لتصل لحضني؛ بينما كان تركيزي الحسيّ على ملمس أصابعك.
كان كلّ تركيزي البصري عليك: كيف تنظر، كيف تتنفس، كيف تدخن، كيف تنفث الدّخان، كيف تتحرك شفاهك وأنت تتحدّث، انحناءة جسدك باتجاهي وكأنّك تريد أن تعبر الطّاولة التي تفصلني عنك لتصل لحضني... مجاز
طلبُكَ بأن أشعل سيجارة قطعَ كل تركيزي، وأخرجني من حالة الانغماس فيك التي كانت تلبسُني. أخرجتُ من حقيبتي علبةَ سجائري، أشعلتُ سيجارة وسحبتُ منها، وما كدتُ أنفثُ دخانها حتى قلتَ لي: "خلّيني دخن معك". مددتُ لكَ السّيجارة، وأنا أبتسم بفرط، وبحركة مشاغبة لحستَ جزءاً من سبابتي وإصبعي الوسطى التي توسطتهما السّيجارة، ثمّ سحبتَ من السّيجارة ونفثتَ دخانها، وفي اللحظة التي كنتُ فيها أُقرّب السّيجارة من فمي، بكلِّ خفةٍ سحبتَها من بين أصابعي لتضعَها بين شفاهك، سحبتَ منها من جديد ثمّ قرّبتها من شفاهي لأدخّن. ابتسمتُ لكَ، وفي تلك اللحظة بدا الكون لي بأكمله وكأنّه يبتسم، بما فيه منفضة السّجائر الموضوعة على الطّاولة على الجانب الأيمن منّي والأيسر بالنّسبة لك.
لقد كانت منفضة سجائر غارقة في السّعادة والبهجة وهي تمتلئُ شيئاً فشيئاً بأعقاب السّجائر ورمادها، إذ رحنا ندخن معاً سيجارة تلوَ الأخرى، بينما نتبادل الأحاديث والضّحكات.
كانت منفضة السجائر تبتسم لنا بكلِّ وداعةٍ وحبٍّ، بينما نسترق اللمسات ونظرات الحبّ والأفكار، وبانسجام هائل كنّا قادرين وسط ذلك على التّحدث في السّينما والشّعر والوضع المعيشي الذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، والوضع المُخزي لكلّ من الكهرباء والماء والمواصلات والمحروقات، والمفارقة أنّنا نتحدث عن كلّ تلك المعاناة اليومية ونحنُ مُنتشيان بالسّعادة، هكذا الحبّ مفعوله أشبه بجرعة كوكائين، تُعطيك شعور "الزّهزهة" حتى لو كنتّ تعيش في بلدٍ غارقٍ في التّعاسة. والمفارقة الثّانية، أنّنا بعد ذلك الحديث المطرّز بالكآبة والعجز، كنّا قادرين على متابعة الحديث بكلّ تلقائية، دون أن نغفل الحديث عن صديقنا المشترك "البحر"، ومغامرات خاصة قضاها كلّ منّا يوماً على شاطئه، ونحن ابنان لمدينتين ساحليتين متجاورتين. وكذلك الأغاني كان لها من حديثنا نصيب، توقفنا عند الكثير من العبارات السّاحرة في أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب والشّيخ إمام ووردة وغيرهم، قلتَ لي: "ها هو صديقك ملحم بركات يُغني (لا تغيب وتبعد عنّي.. رح يُهرب صوتي منّي.. بعمري وروحي بندهك)".
خدر الهواء البارد الذي دخل من نافذتي المفتوحة ولفّ جسدي العاري، أعادَ إحساسي بالمكان والأشياء من حولي، عندها انتبهت بخيبةٍ للمنفضة الممتلئة بأعقاب السّجائر التي تدّعي بامتلائها النّشوة، لكنّها في عمقها تبكي... مجاز
لم نتوقف ثانية عن الكلام، تمتلئ المنفضة السّعيدة، يقترب الجرسون يتخلص من البقايا التي فيها ويعيدها إلى الطّاولة مبتسماً لنا.
ووسط كلّ ذلك لم تتوقّف يدك عن ممارسة شغبها وطفولتها أبداً.
المشهد الثّاني، المشهد القريب
خارج المشهد
النّسبية أن تقضي ساعاتٍ مع من تُحبّ فتشعر أنّها لحظة، وتدخن علبتي سجائر فتجد رئتيك ممتلئين بأوكسجين يساعدك أن تجوب العالم سيراً على قدميك، بينما تجد أنّ ليلةً من الوحدة لا ينتهي حزنها، وسحبةً واحدة من سيجارتك كفيلة بأن تُصيبك بموجة اختناق وبكاء، تمنعك من الوصول إلى خزانة ملابسك!
النّسبية أيضاً وجود منافض فرحة برمادها الغارق في السّعادة، ومنافض أخرى تعتقد أنّها فرحة، لكنّها تكذب، فرمادها غارق في الشّوق والوحدة!
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 6 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.