شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
النسبية أن تقضي ساعات مع من تُحبّ فتشعر أنّها لحظة

النسبية أن تقضي ساعات مع من تُحبّ فتشعر أنّها لحظة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 10 ديسمبر 202212:40 م

الحواس


لم أفهم تماماً معنى هذه العبارة حين قرأتها، حتى عشتُها حرفياً ليلةَ أمس.

المشهد الأول، المشهد البعيد

جلسنا معاً. أشعلتَ سيجارتك التي نادراً ما تنطفئ وأنتَ المولع بالتّدخين، وبعد ثوانٍ وضعتَها في المنفضة، ومددتَ يدك تتلمّس ذراعي الأيسر، كتفي، زندي، ساعدي، معصمي، كَفّي، أصابعي، وأضفت: "ما أحلاكِ!".

حينها شعرتُ حرفيّاً بطفلٍ يجلسُ أمامي، يتفقّد ليلاً وجود أمِّه إلى جانبه في السّرير لأنّه يخاف العتمة. ابتسمتُ لكَ بطمأنينةً وكأنّي أقول لكَ: "أنا هنا، يا ابنَ قلبي".

انتبهتَ أنّ سيجارتك في مشربها قد نقُصَ حجمها وانطفأت، فأعدتَ إشعالها. دخّنتَ ما بقي منها وأنتَ تمسكها بأصابع يدك اليُمنى، في حين كنت أُمسك يدك اليسرى بطريقة أعلم أنّها كانت متعبةً لكَ، لكنّك كنتَ تبتسم لي وتنظر في عينيَّ، وقلت: "لمَ لمْ تُشعلي سيجارة بعد؟".

ضحكت لأنّي كنت قد نسيت الأمر كليّاً، بل حتى قطع البسكويت التي جلبتها لي بعدّة نكهات (شوكولا، حليب وفانيليا، وقطعة كيك محشو بالشوكولا) ، وأنا التي تحمل مشاعر الأطفال ولهفتهم حيال هذه المأكولات السّكرية، لم أمدّ يدي عليها؛ وأيضاً "كاسة المتة" الموضوعة أمامي كانت مهملة كليّاً بالنّسبة لي، إذ كان كلّ تركيزي البصري عليك: كيف تنظر، كيف تتنفس، كيف تدخن، كيف تنفث الدّخان، كيف تتحرك شفاهك وأنت تتحدّث، انحناءة جسدك باتجاهي وكأنّك تريد أن تعبر الطّاولة التي تفصلني عنك لتصل لحضني؛ بينما كان تركيزي الحسيّ على ملمس أصابعك.

كان كلّ تركيزي البصري عليك: كيف تنظر، كيف تتنفس، كيف تدخن، كيف تنفث الدّخان، كيف تتحرك شفاهك وأنت تتحدّث، انحناءة جسدك باتجاهي وكأنّك تريد أن تعبر الطّاولة التي تفصلني عنك لتصل لحضني... مجاز

طلبُكَ بأن أشعل سيجارة قطعَ كل تركيزي، وأخرجني من حالة الانغماس فيك التي كانت تلبسُني. أخرجتُ من حقيبتي علبةَ سجائري، أشعلتُ سيجارة وسحبتُ منها، وما كدتُ أنفثُ دخانها حتى قلتَ لي: "خلّيني دخن معك". مددتُ لكَ السّيجارة، وأنا أبتسم بفرط، وبحركة مشاغبة لحستَ جزءاً من سبابتي وإصبعي الوسطى التي توسطتهما السّيجارة، ثمّ سحبتَ من السّيجارة ونفثتَ دخانها، وفي اللحظة التي كنتُ فيها أُقرّب السّيجارة من فمي، بكلِّ خفةٍ سحبتَها من بين أصابعي لتضعَها بين شفاهك، سحبتَ منها من جديد ثمّ قرّبتها من شفاهي لأدخّن. ابتسمتُ لكَ، وفي تلك اللحظة بدا الكون لي بأكمله وكأنّه يبتسم، بما فيه منفضة السّجائر الموضوعة على الطّاولة على الجانب الأيمن منّي والأيسر بالنّسبة لك.

لقد كانت منفضة سجائر غارقة في السّعادة والبهجة وهي تمتلئُ شيئاً فشيئاً بأعقاب السّجائر ورمادها، إذ رحنا ندخن معاً سيجارة تلوَ الأخرى، بينما نتبادل الأحاديث والضّحكات.

 كانت منفضة السجائر تبتسم لنا بكلِّ وداعةٍ وحبٍّ، بينما نسترق اللمسات ونظرات الحبّ والأفكار، وبانسجام هائل كنّا قادرين وسط ذلك على التّحدث في السّينما والشّعر والوضع المعيشي الذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، والوضع المُخزي لكلّ من الكهرباء والماء والمواصلات والمحروقات، والمفارقة أنّنا نتحدث عن كلّ تلك المعاناة اليومية ونحنُ مُنتشيان بالسّعادة، هكذا الحبّ مفعوله أشبه بجرعة كوكائين، تُعطيك شعور "الزّهزهة" حتى لو كنتّ تعيش في بلدٍ غارقٍ في التّعاسة. والمفارقة الثّانية، أنّنا بعد ذلك الحديث المطرّز بالكآبة والعجز، كنّا قادرين على متابعة الحديث بكلّ تلقائية، دون أن  نغفل الحديث عن صديقنا المشترك  "البحر"، ومغامرات خاصة قضاها كلّ منّا يوماً على شاطئه، ونحن ابنان لمدينتين ساحليتين متجاورتين. وكذلك الأغاني كان لها من حديثنا نصيب، توقفنا عند الكثير من العبارات السّاحرة في أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب والشّيخ إمام ووردة وغيرهم،  قلتَ لي: "ها هو صديقك ملحم بركات يُغني (لا تغيب وتبعد عنّي.. رح يُهرب صوتي منّي.. بعمري وروحي بندهك)".

خدر الهواء البارد الذي دخل من نافذتي المفتوحة ولفّ جسدي العاري، أعادَ إحساسي بالمكان والأشياء من حولي، عندها انتبهت بخيبةٍ للمنفضة الممتلئة بأعقاب السّجائر التي تدّعي بامتلائها النّشوة، لكنّها في عمقها تبكي... مجاز

لم نتوقف ثانية عن الكلام، تمتلئ المنفضة السّعيدة، يقترب الجرسون  يتخلص من البقايا التي فيها ويعيدها إلى الطّاولة مبتسماً لنا.

ووسط  كلّ ذلك لم تتوقّف يدك عن ممارسة شغبها وطفولتها أبداً.

المشهد الثّاني، المشهد القريب

أتمدّد على سريري، أمدُّ يديَّ خلف ظهري، أفك السُّوتيان برفق يديك، أسحبها عن جسدي ببطء، أمدُّ ذراعي خارج السّرير، وأتركها ترتمي أرضاً، ثمَّ أستبدلها بكفيَّ وأنا أستذكر عبارتك السّاحرة التي كنت دائماً تُخبرني إيّاها: "إنّ أجمل سُوتيان ترتديه الأنثى، هو كَفيّ الرّجل الذي تُحبّ". أنتبه أنّ مقاس يديَّ ليس مناسباً، وأنّ كفيك كانا تماماً المقاس المناسب للإحاطة بكامل استدارة نهدَيّ.
أبكي شوقاً وليس كحدثٍ عابر. أُشعل سيجارة، أمسك هاتفي، أجده مُطفأً، ولا مجال لشحنه الآن فالكهرباء مقطوعة، وهذا حدث دائم الوقوع  في هذه البقعة الجغرافية منذ سنوات. لكن ربما وللمرّة الأولى كان غياب الكهرباء أمراً جيداً، كيلا أظهر بكامل ضعفي فيما لو اتصلت!
أشعل سيجارة ثانية، بعدما حالت الأولى إلى رماد. أركن السّيجارة إلى طرف المنفضة، ثمّ أدخل في موجة شرود جديدة وأنا أُردد عبارة ملحم بركات: "رح يهرب صوتي مني... بعمري وروحي بندهك"، تُحال السّيجارة لرماد، أُشعل سيجارةً ثالثة أسحب منها محاولةً تقليد أصابعك في مسكها، فأكتئب من حنيني وأركنها على طرف المنفضة لأنساها، وهكذا أتابع إشعال السّجائر والشّرود وإعادة تدوير ذكرياتنا في مخيلتي حتى مطلُعَ الفجر.
خدر الهواء البارد الذي دخل من نافذتي المفتوحة ولفّ جسدي العاري، أعادَ إحساسي بالمكان والأشياء من حولي، عندها انتبهت بخيبةٍ للمنفضة الممتلئة بأعقاب السّجائر التي تدّعي بامتلائها النّشوة، لكنّها في عمقها تبكي.
تذكّرت ابتسامة النّادل، وأدركتُ حرفياً وبكامل فقدي لكَ معنى عبارة: "منافضٌ تشعرُ أنّها فرحة، لكنّها تكذب".

خارج المشهد

النّسبية أن تقضي ساعاتٍ مع من تُحبّ فتشعر أنّها لحظة، وتدخن علبتي سجائر فتجد رئتيك ممتلئين بأوكسجين يساعدك أن تجوب العالم سيراً على قدميك، بينما تجد أنّ ليلةً من الوحدة لا ينتهي حزنها، وسحبةً واحدة من سيجارتك كفيلة بأن تُصيبك بموجة اختناق وبكاء، تمنعك من الوصول إلى خزانة ملابسك!

النّسبية أيضاً وجود منافض فرحة برمادها الغارق في السّعادة، ومنافض أخرى تعتقد أنّها فرحة، لكنّها تكذب، فرمادها غارق في الشّوق والوحدة!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image