شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
المثلية مثالاً… لا أكثر

المثلية مثالاً… لا أكثر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لم تكن المثلية قضيتي في يوم من الأيام، ولا أظنها ستكون، فلا الطبيعة البشرية، بمعناها الفردي، ولا الرغبات والتوجهات الجنسية والعاطفية الشخصية يمكنها أن ترتقي، برأيي، لأن تكون عنصراً هوياتياً جامعاً، لأدافع عنه كثقافة تخصّ الجماعة، أو لأرفضه وأحاربه كمعطى يمكنه أن يهدد كينونتي ووجودي.

لماذا المثلية تحديداً هي ما استفزت الشعور العربي، وليس الخمر والأجساد شبه العارية في المدرجات؟

كما أن العادات والتقاليد، بما هي عليه من سيولة في التعريف وديمومة في الحركة والتغيير، لا يمكنها أن تكون مرجعية صالحة لقياس العناصر المستجدة، هذا إذا افترضنا أن هذه العناصر المستجدة يمكنها أن تفرض نفسها بقوتها الذاتية.

لكن، ولأن التناقض احتدم مؤخراً، وخصوصاً في مونديال قطر، فلا بد من هذه المحاولة المتواضعة لقراءة ما يقف خلف طرفي هذا التناقض، وخلفياتهما. سيفيدنا في ذلك، قبل كل شيء، فهم طبيعة الدولة والمجتمع في الغرب، وطبيعتهما في الشرق، وتحديداً الشرق المنضوي تحت مظلة الثقافة العربية الإسلامية. وكممثل مناسب لكل طرف، يمكننا أخذ ألمانيا وقطر، كحالتين تطفوان على السطح في هذا المونديال.

تعتبر الحرية الفردية، ومن ضمنها حرية الجسد، في أعلى نقطة من مسطرة الحريات في ألمانيا. هذه الحرية لم تأت على شكل هبة قانونية قرّرها المشرّع أو الحاكم، بل جاءت عبر سنوات طويلة من حراك ثقافي قيمي للمجتمع نفسه. ولأن هذا المجتمع هو من يوصل حكّامه إلى سدة الحكم، عبر صراع بين برامج سياسية واقتصادية واجتماعية، فالحاكم مجبر أن يرعى ويصون هذه البرامج. بهذه البساطة، لا أكثر ولا أقل، وبسببها نرى استنفار وزيرة الخارجية الألمانية ووقوفها إلى جانب منتخب بلادها الذي احتجّ على منعه من ارتداء "شارة قوس قزح" في الملعب.

المجتمع في الغرب، هو من يقرّر شكل الدولة، والدولة في عالمنا العربي هي من تدير المجتمع. الدولة في الغرب مجبرة أن تأخذ أولويات المجتمع في الحسبان، والدولة في الشرق تقدم للمجتمع ما تراه ملائماً له، وبالتالي لها ولديمومتها

الأمور لا تسير بهذا الشكل في بلادنا العربية، حتى اللحظة على الأقل، فالدولة في قطر، وغير قطر، هي المنتِج والحامي للسياسة والاجتماع والأخلاق، وهذه الحماية لا تكتسب قوتها من قوة المجتمع المدني الذي يتبناها وينتخب على أساسها، بل يتم فرضها عليه من فوق. بمعنى أن الدولة تختار الحزمة الأخلاقية التي تلائم غالبية المجتمع، وتجعل منها معياراً للصالح والطالح من أفراده. هذه الحزمة متوفرة دوماً، وهي مشتقة بشكلها ومصطلحاتها من الأخلاق الدينية، بتعديلات ورتوش هنا وهناك، مهمتها أساساً زيادة الشرائح التي يكتسب من خلالها النظام شرعيته.

هذا المجتمع الطاهر يريد أن يكون له رأي في بعض القضايا. أن يقول كلمته هو الآخر، وإن تعذر عليه أن يقول كلمته بالقضايا المصيرية في وجه الحاكم، فليقلها بقضايا غير مكلفة الثمن في حضور الحاكم.

سأضرب مثالاً لتبسيط الفكرة وفهمها: خذ أية دولة عربية، وستجد أن الخمر فيها من المحرّمات. وزارة الأوقاف تجرّم شاربه، وزارة التجارة تقوم باستيراده، وزارة السياحة تروّج له وتسمح بتناوله في البارات والمطاعم، ووزارة المالية تستوفي حصتها من ضرائبه بسعادة. كل هذه الوزارات تعمل في نفس الدولة التي تعرّف ذاتها، من خلال الدستور، بأنها دولة دينها الإسلام. لماذا تفعل ذلك إذن؟ من أجل توسيع الشرائح المؤيدة للنظام، أو، بلغة أخرى، من أجل توسيع قاعدة شرعيته في المجتمع.

الفارق إذن، هو أن المجتمع في الغرب، هو من يقرّر شكل الدولة، والدولة في عالمنا العربي هي من تدير المجتمع. الدولة في الغرب مجبرة أن تأخذ أولويات المجتمع في الحسبان، والدولة في الشرق تقدم للمجتمع ما تراه ملائماً له، وبالتالي لها ولديمومتها.

انطلاقاً من هذه المعادلة نستطيع فهم لماذا قررت قطر منع شارة المثليين في ملاعبها، ولماذا استنفرت الدولة الألمانية عبر وزيرة الخارجية وذهبت إلى قطر وهي ترتدي الشارة.

لكن لماذا المثلية تحديداً هي ما استفزت الشعور العربي، وليس الخمر والأجساد شبه العارية في المدرجات؟ ولماذا اتفق، في ذلك، الإسلامي مع العلماني مع الملحد، في إدانة المنتخب الألماني الذي وضع أفراده أكفهم على أفواههم؟ الإجابة على هذا التساؤل يلزمها التفكير في ثلاثة أبعاد:

الأول هو العادات والتقاليد، أو بكلمة أدق: الموروث الذي تستمد منه العادات والتقاليد فاعليتها في عالم اليوم. ومع أن هذا الموروث يطفح بالحكايا عن غلمان الخلفاء، وولدان الحكام، وخصيان القصور، إلا أن هذه الحكايا تخصّ الطبقة الحاكمة المحمية، ولا تذكر إلا القليل جداً عن العامة أو الرعية. يضاف إلى ذلك نقطة في غاية الأهمية، وهي أن هذه الحكايا، في غالبيتها، تركّز على فائض الفحولة عند الحاكم، لا على نقصها عند الغلام. بمعنى أن هذا الموروث يتمتع بالطهارة والنقاء فيما يخصّ العامة أو المجتمع، ويمتاز بالفحولة والقوة فيما يخصّ الحكام.

قد نقبل التكنولوجيا في نقل المباريات، والطب لعلاج إصابات منتخبنا الوطني، وحتى ملابس نايكي وأديداس، وقد نبرّرها تحت مقولة "ما لهذا خلقنا"، أما الأفكار فلا

البعد الثاني هو أن هذا المجتمع الطاهر يريد أن يكون له رأي في بعض القضايا. أن يقول كلمته هو الآخر، وإن تعذر عليه أن يقول كلمته بالقضايا المصيرية في وجه الحاكم، فليقلها بقضايا غير مكلفة الثمن في حضور الحاكم. ما بالك إن كان هذا الحاكم يدغدغ شعوره القومي بقصص النجاح والتنظيم والمليارات الكثيرة.

البعد الثالث، هو نظرة المستعمرات السابقة إلى مستعمريها من أوروبا. فبعد مرور سبعة عقود على آخر استقلال، ما زال كل ما يأتي من الغرب سيئاً بالضرورة. قد نقبل التكنولوجيا في نقل المباريات، والطب لعلاج إصابات منتخبنا الوطني، وحتى ملابس نايكي وأديداس، وقد نبرّرها تحت مقولة "ما لهذا خلقنا"، أما الأفكار فلا. الأفكار والسلوك يمكن الاستغناء عنهما دون الشعور بأي نقص.

هذه الأبعاد الثلاثة، بالإضافة إلى أمور هامشية ومؤقتة، من قبيل أن هذه ملاعبنا ولا يمكنكم ترويج فكرتكم فيها، علاوة على شعور النشوة بتضامن عربي رياضي قد يتطور إلى تضامن سياسي، هي ما قادت مثقفين وعلمانيين عرب يدّعون اصطفافهم مع الحريات، بأن ينشروا صورة المنتخب الألماني، ويكتبوا فوقها: "قطر طلبت منكم أن تغلقوا أدباركم لا أفواهكم". هذه الجملة المغرقة في اللا فهم، يمكن تحليل مضمونها استناداً إلى مجاملة الحاكم بفحولته الزائدة، فهو الذي يقرّر ويطلب منك أن تغلق أو تفتح. أنت في حضرته فتصرّف كما يريد هو، ونحن في حضرته ولا بد أن تكون لنا كلمة ما.

أخطأ المنتخب الألماني في قضيتين: الأولى هي عدم فهمه لقواعد السلوك في العالم العربي، وتعامله معها بفوقية ممجوجة. والثانية أنه اختار رياضة ذكورية خشنة، ومليئة بالتستوستيرون في الملعب، وعلى المدرجات، وخلف الشاشات، ليقدّم فكرته

أين أخطأ المنتخب الألماني؟ برأيي أخطأ في قضيتين: الأولى هي عدم فهمه لقواعد السلوك في العالم العربي، وتعامله معها بفوقية ممجوجة. فما هو علني ومعيار للحريات، ويأخذ حصته من الحيز العام في أوروبا، ما زال من ضمن المسكوت عنه في مجتمعاتنا. والثانية أنه اختار رياضة ذكورية خشنة، ومليئة بالتستوستيرون في الملعب، وعلى المدرجات، وخلف الشاشات، ليقدّم فكرته.

أين نخطئ نحن؟ نخطئ، أولاً، في رفض فهم مسار التاريخ. فما اجتاح العالم في ستينيات القرن الماضي من ثورة جنسية، كان عنوانها تحرير العلاقة بين الجنسين من سلطة العائلة، ليس إلا الموجة الأولى لما يحدث اليوم من تحرير هذه العلاقة ضمن الجنس الواحد. ونخطئ، كما نفعل في كل مرة، في انحيازنا ضد الحريات وضد الفئات الضعيفة المضطهدة، ونصرّ أن نوثق ذلك، إلى أن نرضخ تحت ضربات الواقع. أقول الواقع ولا أقول الغرب، لأنه، وانطلاقاً من مقدمة هذا المقال، لا يمكنني القول إن المثلية تتجاوز كونها قضية حقوقية. هي طبيعة ورغبات وتوجهات جنسية وعاطفية تبحث عن حقها في الاعتراف وعدم النبذ، وقد حازت على هذا الاعتراف في مجتمعات ودول الهوية المتماسكة المنفتحة، وما زالت تعاني في مجتمعات العادات والتقاليد والهوية المتشظية الخائفة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard