تمنح المهرجانات السينمائية فرصةً للمشاهدين/ ات، للتعرف أكثر على التغييرات الحادثة في صناعة الأفلام، ليس التقني منها فحسب، ولكن المواضيع محل الاهتمام، بحيث توضح مشاهدة عدد كبير من الأفلام الصادرة في العام نفسه، من بلدان متعددة، الطريقة التي تبدو عليها خريطة السينما في اللحظة الآنية، والتي تُعدّ مرآةً للواقع.
وفي العام 2022، نجد أن السينما ركزت بشكل كبير على مواضيع تتعلق بالشباب، وعكست الكثير من التغيرات في هذا الجيل على عكس الصور الجامدة التي ألِفناها في السينما وخارجها في الأعوام السابقة.
نضوج قبل الأوان
تنقسم حياة الإنسان إلى عدد من المراحل، وعلى الرغم من أن الرشد هي المرحلة الأطول، إلا أن ما يسبقها هو الأهم، ونتحدث هنا عن مرحلة الطفولة والتحضيرات التي يحتاجها الإنسان حتى يستطيع مواجهة الحياة وحده. ولكن هل يحصل جميع البشر على الطفولة الملائمة لإعدادهم للحياة؟
خلال هذا العام، تم عرض أفلام عدة تناولت قصص يافعين وشباب نضجوا قبل الأوان نتيجة خبرات قد تكون مخيفةً، نبدأ بـ"Close"، وهو فيلم بلجيكي حاصل على الجائزة الكبرى في مهرجان كان، ويتناول قصة ولدين على أعتاب المراهقة، ينسجان في المدرسة علاقةً قويةً تثير حفيظة الأطفال الآخرين، وسط تكهنات بأنهما على علاقة عاطفية، وهذا الضغط الخارجي أثّر على الصديقين ودفعهما في اتجاه معاكس: في حين أن ريمي، وهو الأكثر هشاشةً، تشبّث أكثر بصديقه، فإن ليو رضخ لهذا الضغط وابتعد عن صديقه، الأمر الذي أدى إلى انتحار الأخير.
في هذا الفيلم، نلاحظ أنه بين المراهقة والطفولة يخرج كل من ليو وريمي من مجتمع مغلق إلى آخر أوسع، ولكن يصدمهما مجتمع المدرسة المتشبع بالهوموفوبيا، الأمر الذي أدى إلى أن يقرر ليو أن يحمي نفسه من الانتقادات والتعليقات السلبية، غير أن قراره هذا جعله يخسر صديق عمره، ويعيش تحت وطأة الشعور بالذنب.
خلال هذا العام، تم عرض أفلام عدة تناولت قصص يافعين وشباب نضجوا قبل الأوان نتيجة خبرات قد تكون مخيفةً، نبدأ بـ"Close"، وهو فيلم بلجيكي يتناول قصة ولدين على أعتاب المراهقة، ينسجان في المدرسة علاقةً قويةً تثير حفيظة الأطفال الآخرين، وسط تكهنات بأنهما على علاقة عاطفية، وهذا الضغط الخارجي أثّر على الصديقين ودفعهما في اتجاه معاكس
في فيلم "Tori and Lokita"، يعيش طفلان إفريقيان في إحدى الملاجئ في أوروبا، وكان يتعيّن عليهما التحايل للاستمرار في الحياة والعمل لكسب المال لإعالة عائلتهما في الوطن. تتعرض الطفلة الكبرى لوكيتا لفرضية الترحيل، فتضع نفسها تحت وطأة جماعة من مزيّفي الهويات وتجار المخدرات.
لا يوجد لدى الأخ والأخت ذكريات سعيدة سوى الأغنية التي تعلّماها في سواحل إيطاليا، والتي هبطا عليها في أول رحلة هروب من بلدهما، وتالياً، اختبر كل من توري ولوكيتا النضوح قبل الآوان كملايين الأطفال الذين يعيشون في هذا العالم الوحشي.
البحث عن الهوية
قال أرسطو عن الإنسان إنه "حيوان اجتماعي"، لكن هذه الرغبة في الانتماء والاندماج تصبح أحياناً قيداً على الحرية، خاصةً في سن الهشاشة خلال المراهقة وبداية الشباب، وهو أمر يواجهه الجيل الجديد بشكل أكثر من الأجيال السابقة، فمن ناحية يدفع الخطاب العام نحو أهمية التميز والفردية، ومن الجهة الأخرى يروع من نتائج الوحدة.
يدور فيلم "Bread and salt"، حول شاب يعود إلى مدينته الصغيرة ليقضي الإجازة مع شقيقه، وهناك يضطر إلى الاندماج مع أصدقاء الأخير على الرغم من الاختلافات الثقافية والفكرية بينهم.
يكشف الفيلم بعد ذلك أن خوف البطل من الوحدة لم يجبره فقط على التسكع مع أشخاص لا يشبهونه، ولكن جعله يخفي هويته الجنسية ويقبل بالتنمر والسخرية من جماعة إثنية أخرى، بمعنى آخر، إن الخوف من الوحدة أضعفه وجعله يتخلى عن شخصيته قطعة بعد قطعة.
في السياق نفسه، فإن أبطال فيلم "علم"، وهم عبارة عن شباب في نهاية المرحلة الثانوية، يعيشون في فلسطين المحتلة ضمن عرب 48، يبحثون عن هويتهم في ظل الكثير من المعطيات المتضاربة، ويدرسون تاريخاً مزوّراً ويحاولون إبقاء رؤوسهم منخفضةً، حتى لا تؤذيهم السلطة الإسرائيلية، ويقومون بمغامرة لرفع علم فلسطين في إطار رحلة بحث عن هوية يخوضها تامر مع أصدقائه.
كان تامر مجرد تلميذ في المدرسة، يقضي وقت فراغه مع أصدقائه، إلى أن دخلت إلى حياته ميساء، وهي فتاة جريئة، لا تهاب التعامل مع الشباب، تحضر الاجتماعات السياسية والمظاهرات، فينجذب تامر إليها بشكل طبيعي، الأمر الذي يجعله يبدأ بالبحث عن هوية مشابهة فيتخبط في أفعاله: هل بالفعل يؤمن بمعتقدات حبيبته أم يستعير ملامحها ليثير إعجابها؟
في فيلم "الابن"، أيضاً نجد البطل ضائعاً بلا هوية، وأسير فكرة أنه لم يكن جيداً كفاية لينقذ زواج والديه، فيأكله الحزن والاكتئاب. يطلب من والده الذي تزوّج من امرأة أخرى، أن يعيش معه، ويوافق الأب من باب التعويض لابنه عن الحنان والحب الذي لم يلقَهما، لكن الابن يضيع في ظل بحثه عن هويته، ويظن أن تعلّقه بحب والديه هو الخلاص، ولكنه سرعان ما يكتشف أن هذا التعلق ليس كافياً ليواجه أشباحه الداخلية، فيستسلم لها.
في الأجيال السابقة، كانت لكل إنسان هويات معدة مسبقاً ليختار منها، تتناسب مع طبقته الاجتماعية والاقتصادية، ولكن اليوم وفي ظل الاتساع الهائل للعالم المفتوح، أصبحت الحيرة أكبر ويأتي معها الخوف والقلق، وهي السمة التي تميز الشباب واليافعين اليوم على الشاشة وخارجها.
شباب الطبقة الوسطى فقط
تعددت في الفترة الأخيرة الأعمال العربية التي ركزت، سواء بشكل أساسي أو جزئي، على شخصيات من أجيال أصغر، منها مسلسل "مين قال؟"، من بطولة الممثل السوري جمال سليمان، في دور الأب، والشاب المصري أحمد داش، في دور الابن المتمرد الذي لا يرغب في البقاء سجيناً للقوالب الجاهزة التي أعدّها والده لمستقبله، فيطرح مع عنوان العمل سؤال "مين قال؟"، أو من وضع تلك القواعد التي يجب أن تحكم تربية الأجيال الجديدة.
قبل هذا المسلسل، عُرض كذلك "خلي بالك من زيزي"، الذي وعلى الرغم من تركيزه على فئة عمرية أكبر من الشباب والشابات، إلا أنه طرح بقوة موضوع إساءات الوالدين إلى أبنائهم والتربية الخطأ التي تعدّها غالبية أسر الطبقة الوسطى مثاليةً وتمحو فردية الأبناء ولا تراعي الظروف الخاصة لكل منهم، فالبطلة "زيزي" عانت منذ الصغر من "فرط الحركة وضعف التركيز"، أو ما يسمى "ADHD"، ولم تشخص طوال طفولتها بل عاملها والداها على أنها عبء وطفلة "شقية" و"مزعجة".
وفي الموسم الرمضاني الماضي، عُرض كذلك مسلسل "راجعين يا هوى" الذي ركّز على الشقاقات التي تحدث في الأسر بسبب المال، ولكن الخطوط الجانبية كانت للجيل الأصغر من شباب العائلة بمرحلة الدراسة الجامعية الذين، على الرغم من أسلوب الحياة المرفّه الذي ينعمون به، إلا أنهم ما زالوا ضحايا أسرهم الجامدة فكرياً والإيذاء النفسي والجسدي كذلك.
عُرض مسلسل "خلي بالك من زيزي"، الذي وعلى الرغم من تركيزه على فئة عمرية أكبر من الشباب والشابات، إلا أنه طرح بقوة موضوع إساءات الوالدين إلى أبنائهم والتربية الخطأ التي تعدّها غالبية أسر الطبقة الوسطى مثاليةً وتمحو فردية الأبناء ولا تراعي الظروف الخاصة لكل منهم
وبسؤال الكاتبة والناقدة السينمائية، رحمة الحداد، حول تطور السينما والمسلسلات العصرية في تمثيل الأجيال الجديدة في الفترة الأخيرة، أجابت: "هناك تحسن كبير بالفعل يتفاوت حسب طبيعة الأفلام/ المسلسلات، مثلاً في الأعمال الموجهة إلى الأسرة بالكامل بشكل مباشر، مثل "أبو العروسة" أو "راجعين يا هوى"، نرى أن الشباب هم مجرد امتداد لتحقيق أحلام وتصورات أجيال أكبر، أما في الأعمال الموجهة في الأساس إلى الشباب، فهناك حرية أوسع في التناول وميل أكبر إلى البعد عن العقوبات الجاهزة للسقطات الأخلاقية، مع تنوع أكبر في طبيعة الشباب كشخصيات مختلفة عن بعضهم البعض".
وأضافت رحمة لرصيف22: "ولكن هناك عيباً كذلك، هو أن معظم الشخصيات تمثل الشباب من طبقات محددة وخلفيات محددة، فهناك انفصال عن الطبقات الأخرى وتصوير لمشكلات فيها امتيازات مكانية واجتماعية".
الشباب يخافون من الكليشيهات الجاهزة
هل يشعر الجيل الجديد بأن الشاشة تعكس الواقع الذي يعيشه بالفعل؟
قالت رواء سيد، وهي في السابعة عشر من عمرها، لرصيف22: "مؤخراً، شاهدت مسلسل "مين قال؟"، وكانت هناك مشاهد كثيرة جعلتني أشعر بأنها تجسد حياتي وما أمرّ به أنا و90% من أصدقائي مع اختلاف الطريقة، وهناك فيلمان كذلك شاهدتهما مؤخراً عبّرا عن حالة التخبط التي يمر بها المراهق بصورة واقعية، وتعامل الأهل الذي قد يكون خطأً، إما لفرق الأجيال أو استخفافاً بالموضوع وهما The Edge of Seventeen وBeautiful Boy".
رأى أحمد سالم، وهو طالب في كلية الطب، أن الأعمال العربية التي تتناول الجيل الجديد مكررة ولا تقدّم وجهات نظر جديةً: "أشعر بأنه استسهال من المخرج والمؤلف، أو خوف من البعد عن الواقعية، كما لو أن إظهار مراهق متزن وذي تفكير رزين يشبه شخصاً غير متعلم يتحدث عن الفيزياء النووية"، مشيراً إلى جمود وجهة النظر السائدة عن جيل الشباب والمراهقين في الأعمال التلفزيونية والسينمائية.
من جهتها، قالت ندى حسام (في العشرين من عمرها)، لرصيف22: "للأسف، أحاول قدر الإمكان عدم مشاهدة أعمال مصرية لأن الطرح في بعض الأحيان يكون متواضعاً، وبالنسبة إلى شخصيات المراهقين في الأعمال التي شاهدتها فكانت واقعيةً، ولكن مع التركيز على ظهورهم بشكل المراهقين والحالمين، وهي فئة موجودة ولكن ليست السائدة أو الوحيدة".
وأشارت ندى إلى أن تناول شخصيات المراهقين/ ات أفضل من شخصيات الكبار التي تميل إلى الكليشيهات أكثر.
تغيرت صورة الجيل الجديد على الشاشة في الأعوام الأخيرة، سواء في الأعمال العربية أو الأجنبية، ولكن لا زلت تحتاج إلى المزيد من التحرر من الكليشيهات والقوالب الجامدة، وكذلك الاهتمام بطبقات مختلفة، فلا تظل هذه الصورة حبيسة الطبقة الوسطى فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.