في كتاب The Messy Middle يحكي سكوت بيلسكي ببراعة فائقة حول حقيقة أن الناس غالباً ما يمجدون بدايات ونهايات الشركات الناشئة، متناسين المرحلة الوسطى الحاسمة في الرحلة؛ على سبيل المثال الأفلام التي تركز على قصة نجاح "أبل"، تظهر لنا في البداية ستيف جوبز وستيف وزنياك وهما يبدآن شركة أبل في مرأب لتصليح السيارات، ثم تقدّمهما سريعاً ليصبحا من أقطاب التقنية، يتخطون فعلياً سنوات العمل الجاد وعدم اليقين التي تأتي في المنتصف، وربما هذا ما يحدث مع كل شيء ناجح آخر.
وربما هنا ما يلفت الأنظار. ثمة سعادة غامرة بدت في وجوه شباب السعودية منذ أعلنت شبكة "نتفليكس" عن التعاون لطرح فيلم "الخلاط+" كأول فيلم سعودي تُنتجه؛ رحلة طويلة خاضها الصنّاع الشباب في السعودية للتواجد في لحظة مثلها لم يلتفت إليها الجمهور قدر التفاته للنجاح المدوي وتناسي الرحلة، منذ 2011، لحظة خروجهم على اليوتيوب كأغراب عن الوسط الفني المعتمد فنياً وجماهيرياً، وصولًا لوقوفهم في قاعة مزدحمة بمشاهدين من حول العالم في مهرجان دولي مثل البحر الأحمر في دورته الثانية. ثمة مقامرة مغرية على مستوى البلد الأكبر حدثت لنشاهد كل ذلك، نحاول أن نحكيها هنا.
كيف بدأت القصة؟
بالتحديد في أيار/مايو عام 2016 أعلنت المملكة السعودية إنشاء الهيئة العامة للترفيه كهيئة مختصة بكلّ ما يتعلق بالنشاط الترفيهي تماشياً مع إعلان المملكة للرؤية المستقبلية وما يمثله قطاع الترفيه من أهمية اقتصادية يجب الاعتماد عليها. ذلك بالرغم من اتهامات البعض بإفساد هذه الفعاليات للمجتمع. كلّ القصة بدأت من هناك؛ مجهود متراكم كانت نتيجته ما شاهدناه في الدورة الثانية من مهرجان البحر الأحمر في السعودية.
قبل ذلك بعام واحد وصلت الكوميديا في السعودية محطةً مهمة مع إقامة المهرجان السعودي للكوميديا كأول مهرجان كوميدي في الرياض بمشاركة أكثر من 12 كوميديان. ثم في في آذار/مارس العام ذاته زاد عدد الحضور والكوميديين المشاركين (22 كوميدياً). وفي رأي البعض إن الجمهور الذي يقبل على الكوميديا السعودية يزيد شهرياً وسنوياً بشكل ملحوظ، وصولاً لاستضافة مهرجان "كوميك كون" العالمي.
هذه الحركة شجعت شباباً سعوديين لأخذ خطوات متواضعة في المشهد الموازي الصاعد، تحديداً في منطقة صناعة سكتشات خفيفة تناسب التناول من اليوتيوب مباشرة، وخلق قاعدة جماهيرية جديدة بأذواق معاصرة.
"الخلاط+" نكتة سعودية جديدة أثبتت نجاحها في صالات العرض، تماماً كما أثبتته على مواقع التواصل. خطوة جديدة لمجتمع محافظ يسخر من ذاته ويتقدم نقطة أبعد، فنياً ومجتمعياً بالطبع
آنذاك بدأت شركة ميركوت لصناعة السكتشات الكوميدية، وحازت على تفاعل كبير بين الأوساط الشبابية، تماماً كما راهنت الآن مثلاً، ويتضح ذلك بتصفح قناة "مسامير" السعودية لأفلام الكرتون التي خرجت من رحم هذه القنوات. ربما ستكونون ضمن ملايين المتابعين لهذا الحدث السعودي الثائر على أوضاع المجتمع، والذي يُعتبر أول مسلسل كرتوني سعودي يعرض على الإنترنت فقط، ويخضع لعملية إنتاج عالية الحرفية. وكثيراً ما لاقت مقالات مؤلفها اعتراضاتٍ رقابيةً من داخل الجريدة التي كان يعمل بها فيصل العامر إلى برنامج كرتوني تخطى حاجز الـ250 مليون مشاهد.
شجاعة التواجد أصبحت أكثر إغراءً مع تفاعل جمهور جديد من داخل المملكة يحاول البحث عن جديد، ووجمهور من خارجها لم يصدق أن ثمة شباباً سعودياً وراء نكتة جديدة متحررة تماماً.
بعدها أو ربما بالتوازي مع هذا النجاح خرج "تلفاز11" كقناة منفصلة على اليوتيوب كذلك. شبكة قنوات تلفاز11 هي شبكة لعرض البرامج على موقع "you tube" تم تأسيسها عام 2011 من خلال مبادرة مجموعة من الشباب السعوديين الذين قاموا بتحضير وعمل أفلام قصيرة تجمع بين الفكاهة في الطرح والنقد البنّاء للمجتمع، كونهم أصحاب مبادرة لتحفيز الثقافة والإبداع.
كانت البداية مع برنامج "لا يكثر". بعد ذلك قامت الشبكة بإنتاج العديد من البرامج التي لاقت انتشاراً على مواقع التواصل الاجتماعي واعتُبرت من التجارب الشبابية الناجحة. فهم شبابٌ يبحثون عن المشاكل التي تقف في طريقهم ويحاولون اقتراح حلول لهذه القضايا بطريقة كوميدية ساخرة.
تجمع شبكة تلفاز11 عدداً كبيراً من البرامج الكوميدية مثل "خمبلة" و"التمساح" و"هامش خسارة" وغيرها الكثير. ولكن ربما الأشهر في تجربة شبكة تلفاز11 هو قناة "FOLAIM YA GHOLAIM" التي تقدم نقدَ أصحابها الكوميدي على شكلِ مقاطع فيديو قصيرة وأغانٍ أيضاً في بعض الأحيان، وتناقش مشكلات لا تخص السعوديين فقط. كما توجد القناة الشهيرة "الفئة الفالة" وبالطبع حلقات سكتشات الخلاط التي لاقت نجاحاً مدوياً قبل أن تقرر شبكة نتفليكس التعاون مع الصناع لإنتاج فيلم سينمائي مستوحى من شخصياتها؛ رحلة طويلة لم يكن يصدق أحد مسارها، لكنها حدثت بالفعل.
الخلاط+... سكتشات فيلمية للسخرية من واقع محافظ
في ثالث أيام مهرجان البحر الأحمر المقام على ضفاف البحر الأحمر في السعودية بدورته الثانية، استضاف مسرح جالا بفندق الريتز كارلتون ما يزيد عن ألف مشاهد لحضور العرض الخاص للفيلم لمخرج سعودي شاب هو فهد العماري بصحبة فريق عمل نتفليكس، والعديد من الشخصيات البارزة في مجال السينما والترفيه.
ويأتي طرح الفيلم الجديد بعد ثلاث سنوات من انتهاء برنامج الخلاط الذي حصد أكثر من 1.5 مليار مشاهدة على اليوتيوب على مدى 22 حلقة. يحتوي الفيلم على أربع قصص قصيرة يربطها موضوع واحد: الخداع الاجتماعي، حيث تقع شخصيات الخلاط+ في مواقف غير متوقعة وتحاول أن تجد حيلة لتخرج منها.
في منطقة وسط يمكن اعتبار مجموعة السكتشات التي صنعها شباب تلفاز11 في فيلم واحد هي سينما نوعاً ما، خفيفة، تراهن على جمهور جديد، لا تجمعها حبكة ثابتة أو انتقال وتطور للشخصيات، لكنها تستغل إلى أقصى قدر ممكن إمكاناتِ أبطالها الذين أحبهم الجمهور قبل أن يشاهدهم في صالة العرض.
قصة الخلاط+ تعتمد على نجاح قديم صُنع في سنوات سابقة وتستغله للحديث عن مجتمع راكد، محافظ، يحاول نوعاً ما الخروج من تلك العباءة أمام نفسه قبل الآخرين. وهي تؤمن تماماً بجدوى "الإيفيه" كمخلّص للمجتمع، بدل الصراع.
على عكس إنتاجات عربية أخرى جاءت القصص النتفليكسية السعودية الأولى غير معتمدة على تعريب السينما، بل كان الفيلم السعودي شديدَ المحلية، وهو ما يجعله أكثر أصالةً ومنطقية ونجاحاً
في كتابه "أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية"، يقرّ ميخائيل باختين أن الكاتب فرانسوا رابليه، الذي ارتبط بالأدب الشعبي والثقافة الجماهيرية، كان نابغةَ عصره في القرن السادس عشر لأنه توغل كثيراً في أعماق الضحك الشعبي وأشكاله، الذي قلما دُرس ولوحظ من قبل.
خلْق "الإيفيه" يبدأ من الإيمان بجدواه وتأثيره وحكمته. يختتم ميلان كونديرا روايته "حفلة التفاهة" بنصيحة: "استنشق هذه التفاهة المحيطة بنا، فهي روح الحكمة". وقبله بآلاف السنوات، تحدّث قدماء المصريون عن إله الضحك الذي يُدعى "بِس".
قصص متوازية ضد المجتمع
أربعة قصص في فيلم الخلاط+ يجمعهما هم واحد تقريباً، بداية من قصة مجموعة لصوص يحاولون سرقة إطارات السيارات في حفل زفاف لإنقاذ شريكهم في التآمر، ثم الانتقال إلى طاهية تعمل في مطعم فاخر تضع سمعة المطعم على المحك لإنقاذ زواج والديها الفاشل، وقصة صديق يعود إلى المشرحة لدفن سرّ عن زوجة صديقه المتوفى، وصولاً إلى أمّ تبحث عن زوجها أثناء بحثه عن ابنهما في ملهى ليلي.
قصة "الخلاط+" تعتمد على نجاح قديم صُنع في سنوات سابقة وتستغله للحديث عن مجتمع راكد، محافظ، يحاول نوعاً ما الخروج من تلك العباءة أمام نفسه قبل الآخرين
القصص الأربع تضع أبطالها في موقف متأزم تماماً، وتختبر حدود قدرتهم على الهروب وإيجاد حلّ سريع، مستوحاة من مشكلات سعودية تماماً لتسخر منها. هذه القصص لا تنتصر لأبطالها أو تدينهم قدر ما تكشف زيف مجتمعي أوسع؛ في رجل محافظ يرغب في دخول ملهي ليلي لكنه يخشى حديث الناس أو شاب يهرب في كلّ مكان للاختباء وتدخين سيجارة بعيداً عن والده، ثم يكتشف أن والده ذاته يدخن دون أن يخبرهم.
على عكس إنتاجات عربية أخرى جاءت القصص النتفليكسية السعودية الأولى غير معتمدة على تعريب السينما، مثلما حدث مثلاً في صناعة "أصحاب ولا أعز"، المترجم في النهاية، بل كان الفيلم السعودي شديدَ المحلية، وهو ما يجعله أكثر أصالةً ومنطقية ونجاحاً.
يقول مخرج الفيلم فهد العامري لرصيف22: "الخلاط فكرة سعودية وأبطاله سعوديون، وصنع بإنتاج سعودي، ويعرض لأول مرة في السعودية. بالتأكيد هذا مصدر فخر شخصي، لكنه كاشف عن مساحة الثقة الكبيرة التي قدمتها نتفليكس للشباب السينمائي السعودي ولم تعطِها لغيرهم".
الثورية التي يجدها المشاهدون في رؤية مجتمع سعودي جديد لم تتوقف عند الإعجاب بأخذ خطوات، بل تصل لحدود ربما لم يصل إليها مشاهدون عرب، على الأقل مؤخراً، مع إحدى القصص التي تٌبنى على موت مفاجئ لشاب يحاول صديقه إخفاء كونه على علاقة عاطفية خارج الزواج.
الذهاب بعيداً كوميدياً انطلاقاً من لحظة موت ربما تسبب بعض الإبهار والإعجاب الشديد بجرأة لم نكن لنجدها دون رغبة حميمة من مجموعة شباب قرروا السخرية فعلاً من كلّ شيء في مجتمع محافظ دون خوف.
مخرج الفيلم فهد العامري يقول إن تطور الشخصيات التي استخدمها في "الخلاط+" استمر لسنوات، لذلك كان هذا القبول دافعاً للبناء عليه واستغلاله لأقصى قدر ممكن دون تردد من قبول الجمهور الذي اعتاد على تلفاز أو الجمهور الجديد الذي سيجد هو الآخر شخصيات متمامسكة.
ثمة شيء شديد النباهة في صناعة شخصيات كرتونية نوعاً ما للحديث عن مجتمع أوسع يحاول الاختباء وراء المحافظة؛ تلك السخرية السوداء التي يخلقها الموقف لا تدين المحافظة المجتمعية مباشرةً، لكنها تجعلها تتساءل عن جدوى هذا الحبس الاختياري.
هذه الكاريكاتورية أنقذته من أفخاخ وثغراتِ مبررات درامية للأبطال، ووجهت تركيز المشاهدين نحو التركيز على الموقف الخفيف المضحك أكثر من منطقية تحرك الأبطال.
"الخلاط+" نكتة سعودية جديدة أثبتت نجاحها في صالات العرض، تماماً كما أثبتته على مواقع التواصل. خطوة جديدة لمجتمع محافظ يسخر من ذاته ويتقدم نقطة أبعد، فنياً ومجتمعياً بالطبع، ويقدم أبناءه كأولاد نكتة جدد خاضوا رحلة طويلة يجب الوقوف عليها قبل أن نحسد نجاحها المدوي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...