شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"النساء الصالحات لا يتابعن كأس العالم"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 7 ديسمبر 202211:54 ص

عند الإنصات للآراء المختلفة للمجتمع العربي في الشوارع والمقاهي وعبر منصات التواصل الاجتماعي حول موضوع اهتمام النساء ومتابعتهن لكأس العالم 2022 في قطر، قد تعتقد أن الأمر مزحة من ذلك النوع الترحيبي بالنساء في متابعة المونديال وحدهن أو في أوساط الأصدقاء والعائلة، ولكن سرعان ما تكتشف أن الأمر ليس مزحة، ولا ترحيباً بالمطلق!

لقد أثارت كأس العالم 2022 في قطر الكثير من الجدل والمتناقضات في الساحة العربية، كقضية إلزام المنتخبات الدولية بثقافة المجتمع العربي، ومنعهم من إرتداء شارات مجتمع الميم وغيرها، وقضية الاقتباسات الإسلامية التي تم وضعها في المرافق وعلى اللافتات في الشوارع والأروقة الفندقية، مروراً باستضافة الداعية الإسلامي ذاكر نايك في المونديال، كل ذلك أثار الكثير من النقاش والجدل في الأوساط العربية بين مؤيدٍ ورافض انطلاقاً من مبدأ رفض الإجبار وقمع الحريات، وأيضاً حالة التخبط والحيرة التي أثارتها أغنية كأس العالم 2022 إذ اعتبرها البعض ترسيخاً للصورة الغربية عن المرأة الشرقية والمجتمع العربي، وهذا ما رفضه الكثيرون "انتصاراً للصورة المُرضية" للمجتمع العربي وهي صورة السيدة المحجبة أو المنقبة التي لا تزيد أدوارها عن المهام البيتية والوظائف البسيطة الأخرى، إذ في ذلك تحقيقٌ لمقاصد الشريعة وحفاظٌ على الموروثات والتقاليد الإسلامية من سطوة الاستشراق و"الغزو الفكري الغربي".

وكان آخر تلك الجدليات استنكار اهتمام النساء بمتابعة مباريات كأس العالم 2022 بنسخته الحالية في قطر، بوصفه أمراً دخيلاً على الأوضاع السائدة في المجتمعات العربية التي بشكلٍ ما تضع نفسها موضع العداء مع أي فكرة تجديدية، دون وضوح للأهداف أو المبررات لذلك الرفض القاطع، مع وضوح المستفيد من تلك الرجعية وذلك الجمود والثبات الفكري.

الأصل الديني

لطالما رسخت الأديان تلك الصورة النمطية عن المرأة كتابعة للرجل، ومُكملة لأدواره التي تعد جوهرية ورئيسية في هذا الوجود، بينما المرأة تخدمه ليقوى على الاستمرار! هذا ما ساهم في توارث صورة المرأة عبر القرون كإنسانة مكسورة وخائفة ومترددة في غالب الوقت، لا يمكنها إدارة شؤونها بمعزل عن قرار الرجل لأن في ذلك مصلحتها، وحتى في النص الديني المناصر للمرأة هناك إرساء لنفس قواعد التمييز بين الجنسين مع إعطاء السلطة والجوهرية للذكر، ففي النص الديني الإسلامي على سبيل المثال، ورد في السيرة النبوية في حديث صحيح: "رفقاً بالقوارير". ذلك أن القارورة الزجاجية سهلة الكسر ورقيقة للغاية، من هنا جاء تشبيه المرأة بالقارورة.

لطالما رسخت الأديان تلك الصورة النمطية عن المرأة كتابعة للرجل، ومُكملة لأدواره التي تعد جوهرية ورئيسية في هذا الوجود، بينما المرأة تخدمه ليقوى على الاستمرار! هذا ما ساهم في توارث صورة المرأة عبر القرون كإنسانة مكسورة وخائفة ومترددة في غالب الوقت

وكذلك جميع النصوص الدينية التي لم تتجاوز مناصرة المرأة فيها حدود القضايا اليومية العادية؛ كالميراث والمَهر، و"آداب الجِماع"؛ والتي لا تغيّر من حقيقة أن تلك النصوص تبقي على صورة المرأة كتابع للرجل ومُيسرة لشؤونه، دون أي حديث عن المساحة الشخصية لتلك المرأة، والحياة الكاملة الخاصة بها، والتي من المفترض أن تعيشها بكامل إرادتها وحريتها دون وصاية سلطوية، فاختلاف الجنس ليس سبباً مقنعاً لوصاية الرجل.

إن كل تلك الأصول الدينية التي حفرت شكلاً واحداً للمرأة في وعي المجتمع العربي، تداخلت ضمنياً مع الفكر الشرقي المُعقد لذلك المجتمع، ما أدى إلى ظهور حالة مركبة من التمييز على أساس الجنس، فتارةً يُنكر الرجل حقوق المرأة واستقلاليتها انطلاقاً مما تفرضه عليه عقيدته الدينية، فمثلاً، هو لن يسمح لها أن تشاركه متابعة المونديال مع الأصدقاء أو العائلة لأن ذلك حرام! وتارةً أخرى يضطهد الرجل المرأة وينكر حقها في تقرير شكل حياتها انتصاراً لذكوريته الشرقية وصورة الرجل "الفحل" الذي لا ينصاع لإمرأة مهما كلفه الأمر، وإلا فهو إمرأة مثلها، هذا ما يدفعنا إلى استنتاج كيف أن التمازج بين ذكورية الدين، وذكورية الشرق، أفرز مفهوماً عن المرأة أنها شيء مثير للخجل، ومدعاة للعار، وأنها عورة وعيب، بالتالي عليها أن تخدمه لا أن تجلس بجانبه لمشاهدة التلفاز. بل إن ذلك يدفعنا إلى ما هو أبعد، عند التساؤل عن مدى التوافق والانسجام بين العقلية التي يفكر بها الدين، والعقلية التي يفكر بها الشرق!

موروثات المجتمع الشرقي وصورة المرأة المقبولة اجتماعياً

إن المشهد في ذاته مزعجٌ للوعي الجمعي الشرقي-الإسلامي، أن تجلس المرأة أمام شاشة التلفاز في بيتها أو مع صديقاتها في مقهى ما وتتابع مباراة كرة قدم، إذ في ذلك ضربٌ من ضروب الاسترجال المحرم دينياً، حيث تعتبر كرة القدم حصرية للرجال فقط كواحدة من لائحة طويلة من الأمور التي يحتكرها الرجال وحدهم في المجتمعات العربية، فالمرأة في الوعي الشرقي-الديني العام هي مكمل وتابع وليس لها حياة خاصة أو مستقلة تستطيع ممارستها والتعبير عنها بحرية.

هذا فيما يخص كرة القدم، وكأس العالم على وجه الخصوص كمناسبة رجالية خاصة، أما على الأصعدة الأخرى وعند الحديث عن صورة المرأة المقبولة اجتماعياً فالانكسار والخضوع لهيمنة السلطة الذكورية الأبوية هما متطلب أساسي للقبول اجتماعياً، وإلا فهي ناشز وخارجة عن إطار الأدب والأخلاق التي يتم تحديدها ورسم خطوطها العريضة من قبل العقل الذكر فقط، أما المرأة فلها السمع والطاعة وممارسة حياتها ضمن المساحة الضيقة التي تسمح بها السلطة الأبوية.

ويتم إعداد الفتاة في تلك المجتمعات منذ ولادتها لتكون زوجةً صالحة، وأماً جيدةً، حتى وإن سُمح لها بممارسة حياتها الشخصية والأكاديمية والاجتماعية والمهنية فكل ذلك يجب أن يظل في حدود إعدادها لأدوارها الرئيسية التي تنحصر في حياة الأمومة ورعاية البيت والزوج، أو العناية بالأسرة في حال عدم مجيء الزوج بعد، ويمكن القول إن الاستفزاز والجدل الذي حدث بين الأوساط الاجتماعية المختلفة في المجتمعات العربية عندما قررت المرأة أن تكون متابعة، ومشجعة لمنتخبها المفضل في المونديال هو لاعتبارات تتعلق بخروج تلك المرأة عن الإطار الذكوري المرسوم لها، والذي تدافع عنه صاحبات الفكر الذكوري بشراسة تفوق شراسة الرجال أنفسهم، فالمرأة التي عجزت عن تحقيق حياتها المستقلة الخاصة بها كامرأة، ستتحول شيئاً فشيئاً إلى صاحبة فكر ذكوري في محاولة منها لإثبات وجودها الملموس والمؤثر حتى إن كان ذلك على حساب فقدانها قيمتها كامرأة، فعوضاً عن الوقوف من أجل النساء ولتحقيق القيمة، فهي تقف في صف الرجال ضد النساء من أجل الحفاظ على قبولها الاجتماعي، وذلك بسبب الدعاية الواسعة التي فرضها الرجال بأن أي حرب تخوضها المرأة من أجل حياتها هي حرب خاسرة لا داعي لها.

 الاستفزاز والجدل الذي حدث بين الأوساط الاجتماعية المختلفة في المجتمعات العربية عندما قررت المرأة أن تكون متابعة، ومشجعة لمنتخبها المفضل في المونديال هو لاعتبارات تتعلق بخروج تلك المرأة عن الإطار الذكوري المرسوم لها

إذن، يمكن القول إن المرأة المقبولة اجتماعياً في المجتمعات العربية-الدينية هي تلك الراضخة والمُنكسرة، والمشاركة في ذكورية المجتمع على حساب قيمتها كأنثى، وأيضاً هي التي لا تجد حرجاً في ترك الدين يخط لها طريق حياتها دون أي إرادة حرة لها، فترتدي أي لباس ديني يرضي المجتمع بل وتدافع عنه كقناعة، وتتنازل عن أي حق مشروع لها مقابل الاستمرار في مجتمعها كسيدة صالحة، وحتماً لن تهتم بكرة القدم ولا بأي شأن آخر تم إقناعها أنه ليس من شأنها، دون تفكير في الأسباب ولا في أفكارها وتوجهاتها وخياراتها الخاصة فيها كإنسان صاحب حياة مستقلة وكاملة.

"الفحولة الذكورية" وهيمنتهما على مساحات المرأة العربية

إن ما عايشته المجتمعات العربية من اضطرابات وحروب وثورات على مدار قرن كامل من الزمان، بالإضافة إلى التدخلات الغربية والأوروبية في رسم سياسة الشرق الأوسط أفرزت لنا مجتمعاً يعيش بين الوهم والحقيقة، فمرةً يحاول الحفاظ على عروبته وإسلاميته، ومرة أخرى تراه يتطلع إلى الانفتاح والتحرر بعيون مترددة وخائفة، خاصةً أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية في المجتمعات العربية لا تشجع بالمطلق على الإبقاء والحفاظ على الأوضاع السائدة، أما تردده وخوفه من الانفتاح على العالم وترك النظرة الذكورية للأمور، فهذه كلها نابعة مما أرسته الوهابية في الوعي الجمعي العربي وهو أن هناك مؤامرة خارجية ضخمة تحاك ضد العرب والمسلمين من أجل هدم مجتمعاتهم ونهب ثرواتهم، ولم تكن تلك الدعاية الوهابية إلا من أجل تضليل الشارع العربي وإعماء عيونه عن البرجوازية الإسلامية التي لا تزال آخذةً بالتضخم، فبينما كانت الوهابية وغيرها من الأيدولوجيات المضللة تدعو إلى الحفاظ على القواعد الرجعية للمجتمع العربي-الإسلامي من أجل التصدي للغزو الفكري الخارجي، كانت في نفس الوقت تعقد الصفقات والمعاهدات من أجل صناعة برجوازية إسلامية على غرار الإمبريالية العالمية، وتعمل تحت جناحها من أجل إحكام السيطرة على العالم العربي، والذهاب بخطى ثابتة نحو المواطنة العربية العالمية.

هذا كله أدى إلى حالة من اللافهم لدى الوعي الجمعي العام لدى المجتمعات العربية خصوصاً الفقيرة منها والتي تعاصر حالة من التشرذم والتطرف والانصياع لأي فكرة رجعية من شأنها تحقيق شيءٍ من التوازن، وربما تكون الرجعية الإسلامية التي يشهدها العالم العربي في هذه الأوقات، وخاصة المجتمعات العربية الفقيرة والتي تخضع للاحتلال كالمجتمع الفلسطيني، واحدة من أبرز الأمثلة على حالة اللافهم العام، والتي تتمثل في تعزيز السلطة الأبوية كحامية للمجتمع من المؤامرات الخارجية، وإضعاف الوجود الأنثوي في الأوساط العربية باعتباره مدخلاً من مداخل الشيطان والغزو الفكري، هذا بدوره أدى إلى استفحال الذكورية الأبوية، وأسهم بشكلٍ مباشر في خلق تصور جديد عن "الرجولة" بحيث تحتمل معنى البطولة والحفاظ على الشرف والتصدي لمحاولات الأعداء "الكفار" اختراق مجتمعاتنا وهدمها، ما أدى إلى تضييق وحصر مساحات النساء في تلك المجتمعات حتى أصبحت تكاد تكون معدومة بالمطلق.

وبينما يفترض أن يكون إيمان الشعوب بأن الأوطان الحرة، لا تكون إلا بنساء كاملات الإرادة والحرية، فقد نجحت التيارات الإسلامية المضللة في عكس تلك القيمة، وأن معيار قربنا أو بعدنا عن نيل حريتنا واستقلالنا هو مدى التزام النساء بعبوديتهن! ولكن في حقيقة الأمر أن ما يقوم به العقل الذكوري الجمعي من قمع للنساء وإقصائهن من الحياة المدنية، هو إعدام لحرية الرجال أيضاً، ونموذج مصغر عن استعباد الأنظمة الدينية الشمولية لشعوبها ذكوراً وإناثاً، وأن البدء في إعادة الأمور إلى مسارها الصحيح يكمن في التمرد على الرجعية الدينية العربية والإيمان التام بأن لا أوطان حرة بدون نساء حرّات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image