لم يكن قد مرّ على وصولي إلى عُمان ساعات قليلة وكل من يراني يخبرني أن أزور مدينة "بهلا"، ونظراً لتعدد الطلب، وكثرة سماع الاسم الذي لم أعد بحاجة لتدوينه لأنه قد حفظ في ذاكرتي، سألت عن أهمية هذه المدينة التي يطالبني الجميع بزيارتها؟
فجاءت الإجابات بشكل غير متوقع: "إنها مدينة يسكنها الجن".
"مدينة يسكنها الجن!".
"لماذا تريدوني أن أذهب إليها؟".
"لتكتبي عنها".
"أنا كاتبة ورحالة ولست مشعوذة".
"الذهاب لزيارة المدينة هو رحلة".
لا أعرف ما الذي يدور في خيال الناس حول كتاب أدب الرحلات، وتصورهم عن قدراتهم في الذهاب لأماكن قد تكون خارجة عن حدود قدراتهم.
"أطلنطس الرمال"
يبدو أن مدينة بهلاء ليست هي المدينة الوحيدة التي تكثر حولها الأقاويل، فالسّحر والجن في سلطنة عُمان هما موضوع شائع منذ القدم في الحياة العمانية، ودائماً ما يُنظر إلى كل ما هو خارق للطبيعة على أنه طريقة لشرح الأحداث التي لا يمكن للعلم تفسيرها.
ومن منا لا يتذكر حكاية "السندباد البحري" ورحلاته المتعددة، التي ينسبها العُمانيون إليهم متفاخرين، على الرغم من الخلافات حول أصل شخصية السندباد البحري.
ومدينة "أوبار" التاريخية، التي تعيد إلى الذاكرة قصة مدينة "أوبار"، أو أطلنطس الرمال" كما أطلق عليها لورنس العرب الذي ذكرها أكثر من مرة في مخطوطاته، والذي سعى فاشلاً إلى العثور عليها.
يتناقل الناس هناك منذ قرون قصصاً عن "أوبار"، ويشددون على كل زائر أنها هي نفسها مدينة "إرم ذات العماد"، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الفجر: "ألم تر كيف فعل ربك بعاد"، ما جعلها محل اهتمام للعديد من المؤرخين والمستكشفين للبحث عن حقيقتها التاريخية.
وقد خرجت عدة حملات موثقة بحثاً عن المدينة الضائعة في محافظة "ظفار" بسلطنة عُمان.
"يجب أن تزوري بهلا". "لماذا تريدوني أن أذهب إليها؟". "إنها مدينة يسكنها الجن!". "أنا كاتبة ورحالة ولست مشعوذة". "الذهاب لزيارة المدينة هو رحلة"
كثيرة هي القصص الأسطورية عن مدن خرافية في عمان، من "أوبار" إلى "بروج كيبيكب"، التي يقال إنها تعود إلى العصر البرونزي، مروراً بكهف مجلس الجن، الذي يؤكد الأهالي أن نفر من الجان يسكنه، وغيرها من المواقع.
كل تلك الحكايات قرأت عنها قبل أن أسافر إلى عُمان، ولكن ما فاجأني، هو ما فعله ناشري بالسلطنة معي، فقد رتب لي لقاء مع ساحر، ساحر حقيقي.
اللقاء
يقول ناشري عن شخصية الساحر، متفاخراً ربما: "إنه متعمق في العلوم الروحانية، ويتردد عليه الناس من مختلف الأصقاع ليساعدهم في حل مشاكلهم، وأمراضهم المستعصية عبر العلاجات الروحانية وتحضير الجان، وأنه سيجيب على جميع تساؤلاتي".
في الطريق، سألني مدير إحدى المكتبات، الذي اصطحبني، سؤالاً مباشراً عن شعوري وأنا متجهة للقاء ساحر؟
في الحقيقة لم أفكر في هذه الخطوة قبل الإقدام عليها، أجبته: "ليس لدي شعور محدد، فهو بالنسبة لي مجرد شخص سيروي لي قصصاً كباقي الأشخاص الذين التقيتهم".
بعد حوالى خمسة وأربعين دقيقة من مسقط وصلنا إلى المقهى، المكان المحدد للقاء، الذي يقع على أطراف المدينة التي يقطنها الساحر، وكان الساحر هو من اختار التوقيت والمكان مقهى صغير مكون من ثلاث طاولات مستديرة، وبار صغير، فارغ من الناس حتى من العمال.
من قلعة بهلا الصامد عبر العصور... وبين جنبات مدينة بهلا القديمة... الأطماع، الحقد، الحسد
بعد مرور عشر دقائق تقريباً، دخل علينا رجل قصير القامة، ذو بشرة سمراء، يرتدي الدشداشة العُمانية ذات العنق المستدير، والتي تحتوي على شريط لونه مختلف عن لون الدشداشة، وله "فريخة" متدلية على الصدر، تفوح منها رائحة عطر الزي العماني المميز في الأنوف الأجنبية، ويغطي رأسه بعمامة مطرزة بزخارف جذابة.
بدا الساحر في منتصف الخمسين من العمر، رحب بنا في ريبة شديدة، وهو يلتفت يميناً ويسارًا قبل أن أجلس.
وبعد أن اطمأن أن كل شيء في المكان على ما يرام جلس وقال كيف أستطيع أن أخدمكم؟
وجدتني أبادره بالسؤال: منذ أن أتيت إلى هنا والجميع لا يتحدث معي سوى عن المدن والقلاع والكهوف المسكونة، وقوة السحرة، فما السر؟
"اسمحوا لي أن اصطحبكم إلى منزلي، فهذه الأحاديث لا تدار في المقاهي".
بدا أن كلامه منطقياً فالحديث في مثل هذه الأمور لا يدار في المقاهي، لذا وافقنا على الذهاب معه إلى منزله.
قال لي الساحر، كأنه يصف عمان كما يراه، مستنداً على تجاربه المرتبطة بالخوارق: "هناك مبان عديدة مبنية على مقابر قديمة أو سكن الجن، وأيضاً طبيعة عُمان الجبلية، التي تحوي أقوى أنواع الجن، ما جعل السحر في عُمان واحداً من أخطر الأسحار، فدائماً ما تفرض علينا شروط للقيام بأعمال السحر مع الشياطين".
يزعم صاحبنا الساحر أنه لا ينام أكثر من ثلاث ساعات يومياً، ويوقظونه دائماً بشكل عنيف، يقول: "يريدون مني أن أسخر نفسي لهذا المجال، وأنسى الحياة العادية".
أستطيع أن أقول إن شخصية الساحر العماني مميزة من بين الروحانيين الذين قابلتهم في مصر أو الهند، فهو أكثر بساطة، مفرط في بساطته، ولا يتظاهر أو يستعرض، وهذا هو المبهر في الشخصية العمانية: تدهشك بعاديتها
ويبدو أن الساحر أحس بأني لم أصدقه، بعد أن تركته بسبب تأخر الوقت لمنتصف الليل، شدد على أن آخذ معي جميع متعلقاتي، ولا أنسى شيئاً، استغربت تأكيداته، ولكن بعد أن وصلت إلى حجرتي بالفندق، اكتشفت أن الهاتف ومتعلقات أخرى غير موجودة.
في التاسعة صباحاً اتصل بي موظف الاستقبال يخبرني أن ناشري ينتظرني، وفوجئت بأنه يحمل دفتري وأقلامي، كمعجزة دالة على صحة كلام الساحر، الذي أخبره بوجود معاكسات أمس من الجن، هكذا إذاً.
العودة
زرنا، أنا والناشر، الساحر مرة أخرى، كانت الحجرة المعتادة بروائح البخور المتصاعدة، وكان الساحر مرتبكاً بعض الشيء، ويشير بيده يميناً ويساراً إلى أشياء ليست ظاهرة، لم أهتم بالأمر، ولم أحاول سؤاله عما يفعل، ثم بدأ هو بالحديث قائلاً: "أعتذر لكما فقد كنت أقوم بعض الكشوفات قبل مجيئك، ولم أنته من "إصرافهم".
لم يأخذني الفضول أيضاً لسؤاله "إصراف من؟".
"كنت أكشف لسيدة عليها أم الصبيان، من عفاريت الجان، شعرها كالحديد رآها النبي سليمان عليه السلام، وخاف منها، وقال لها من أنتِ يا ملعونة؟ قالت أنا التي أفرق بين المرء وزوجه، وأنا التي أقتل الجنين في بطن أمه، وأنا التي أوقف الزواج، وأنا التي أرسل الجن العاشق".
بدأ فجأة مدير المكتبة يشعر بسخونة في جسده ورعشة، توقعت أنها نوبة برد، فطلبنا الانصراف، على أمل أن نحضر غداً.
بعد عدة أيام عاد الناشر لطبيعته، وعدت أنا إلى مصر ليظل ما شاهدته في هذا البلد، وما زرته من مواقع سحرني سحراً من نوع فريد، سحراً أبيض كبياض قلوب أهله الطيبين المضيافين، حتى ولو لم يكن لديك ميل لقراءة مثل هذا النوع من القصص الخارقة للطبيعة أو لما وراء الطبيعة، لكنها ستجعلك تحمل انطباعاً خاصاً حتماً، لتعود فيما بعد إلى بلدك ولديك الكثير والكثير من الحكايات الغربية التي ستذكرها لأصدقائك ومعارفك، وستجعلك دوما حين تذكرها تتلفت حولك، وتتفقد ما تحت سريرك، وحين تفتح خزانة ملابسك ظناً أن شيئاً ما من هذه الأشياء، ربما يكون متربصاً لك.
أستطيع أن أقول إن شخصية الساحر العماني مميزة من بين الروحانيين الذين قابلتهم في مصر أو الهند، فهو أكثر بساطة، مفرط في بساطته، ولا يتظاهر أو يستعرض فيما يفعله، وكأنه يجسد ما لمسته في أصدقاء العمانيين من بساطة وتواضع، وهذا هو المبهر في الشخصية العمانية: تدهشك بعاديتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.