خلال السنوات العشر الماضية، وبينما كانت قطر تعدّ بنيتها لاستضافة أكبر حدث رياضيّ عالميّ، بطولة كأس العالم، كانت المنطقة تشهد أكبر تغييرات في تاريخها الحديث؛ ثورات وحروب وتبدّلات على مستوى العلاقات بين الدول المجاورة أو الدول الكبرى.
رافقت هذه التغييرات، تحوّلات على مستوى الاهتمام بقضايا عالميّة كانت عند البعض سبباً لمقاطعة البطولة، سواء قضايا إنسانيّة أو بيئيّة، أو قضايا سياسيّة، إذ يتمّ التشكيك في معاملة أجهزة الدولة والمسؤولين الرسميين في قطر للمواطنين والمقيمين والعمّال الأجانب وعدم مراعاة حقوق الأقليّات كحقوق مجتمع الميم-عين، وعلى إثر ذلك أُطلِقت مجموعة من حملات المقاطعة في أوروبا ووصل الحال إلى أن تطرح منظّمات وشركات فكرة امتناع المنتخبات نفسها عن المشاركة.
على الرّغم من أنّ الأسباب في أغلب الأحيان محقّة، إلّا أنّ مشجعي كرة القدم يترقّبون البطولة بكامل طقوسها. تحتفل البلدان، سواء كانت مشاركةً أم غائبةً عن المونديال، بتزيين الشوارع بالأعلام وبتشغيل الأغاني في المحال التجارية، ويصبح الحديث عن المنتخبات المُشجَّعة هو الحديث السائد. في حال مشاركة منتخب البلد فتشجيعه أشبه بواجب وطني، وتظهر في كأس العالم حالة تشجيع واحتفال بالمنتخبات العربيّة على الرغم من مواجهتها منتخبات أقوى منها لعباً وتنظيماً.
شاركت إيران في البطولة في ظل الاحتجاجات والمظاهرات التي تشهدها بعد مقتل الفتاة مهسا أميني
شاركت إيران في البطولة في ظل الاحتجاجات والمظاهرات التي تشهدها خلال هذه الفترة، بعد وفاة الفتاة الإيرانية مهسا أميني، على يد شرطة الأخلاق، إثر اعتقالها في أيلول/ سبتمبر الماضي. تفاجأ الجمهور والمتابعون من موقف أعضاء المنتخب الإيراني، بلاعبيه وإدارييه وطاقمه الفنّي، في مباراتهم الأولى إذ امتنعوا عن أداء النشيد الوطني تضامناً مع المتظاهرين في إيران، وانتشرت من الملعب صور مشجّعين يحملون شعارات تتردّد في الشارع الإيراني، أبرزها "المرأة، الحياة، الحريّة"، من دون الأخذ بالحسبان ردّ فعل منظّمي البطولة أو حتّى ما سيتعرض له أهالي أعضاء المنتخب المقيمون في البلاد، الأمر الذي دعا معارضين سوريين إلى الدعوة لمساندة إيران في البطولة، وللسؤال بحسرة: ماذا لو اتّخذ المنتخب السوري الموقف نفسه خلال مشاركته في تصفيات كأس العالم 2018، بدلاً من أن يعبّر عن ولائه الكامل للرئيس؟ هل كان ترك لنا مجالاً لتشجيعه وللفخر به؟
بعد فوز إيران على ويلز بهدفين من دون مقابل، أُعيدَ تداول صورة تعود إلى كأس العالم 1998، الذي أقيم في فرنسا، لمشجعين إيرانيين من قلب الضاحية الجنوبية في بيروت، وهم يحتفلون بفوز المنتخب الإيراني على منتخب الولايات المتّحدة حينها، فهل يتكرّر المشهد في سوريا اليوم؟
في سوريا، وفي غياب المنتخب عن البطولة، وبينما تتوجّه الأنظار إلى قطر للاحتفال والتّهنئة بكونها أوّل بلد عربيّ يستضيف حدثاً بهذه الضخامة، تستقبل قناة العالم-سوريا صحافيّاً للحديث عن صدى حفل الافتتاح لدى السوريين، ليستنكر الاحتفالات والإشادات بما فعلته قطر؛ فكيف لسوريٍّ أن يحتفل بإنجازات دولة لا ينتمي إليها؟ ويذهب في الاستنكار إلى تخوين وانتزاع الوطنية ممّن عبّروا عن فرحهم، ووصفهم بالـ"سوقطريين"، لكنّه قام بتطمين مضيف البرنامج قائلاً: "السوقطريون ليسوا كثراً، فالشعب السوري شعب وفيّ بطبعه".
يظهر صحافي سوري على تلفزيون العالم لينتقد من يحتفل بإنجازات قطر، ويتهمهم بالخيانة، ومن ثم ينظر إلى مضيف البرنامج ويطمئنه: "السوقطريون ليسوا كثراً، فالشعب السوري شعب وفيّ بطبعه"
ترصد كاميرا القناة نفسها، المموّلة من النظام الإيراني، الشارع السوري في تقرير مصوّر يُسأل فيه الناس بشكل عشوائي عن متابعتهم للبطولة وعن المنتخبات التي يشجعونها. يشتكي بعض المواطنين من غياب الأجواء التي اعتادوا عليها، نتيجة الظروف المعيشية الصعبة والانقطاع المستمرّ للكهرباء، لكنّ هذه الظروف لم تمنع آخرين من متابعة أخبار البطولة وانتظار المباريات، وعبّرت الأكثرية عن تشجيعها لمنتخبات عالميّة اعتادت التنافس على اللقب، مثل ألمانيا والأرجنتين والبرازيل، وهي منتخبات تصنع تاريخ كرة القدم ويتم التنافس على لاعبيها في الفرق العالمية ممّا يجعل تشجيعها أمراً عاديّاً.
من الشارع، تتوجّه الكاميرا إلى مكان وُصف بأنّه مكان مخصّص للجالية الإيرانيّة في دمشق؛ لا علم سوى العلم الإيرانيّ في المكان، ولكن من دون جالية إيرانية تظهر في الفيديو على الأقل. يعبّر مشجعو المنتخب الإيراني عن حزنهم بسبب خسارة إيران أمام إنكلترا، واللافت للنظر هي طريقة حديث المشجعين عن المنتخب: "فريقنا نازل"، و"متل هادا الفريق كنّا مراهنين عليه قدّام العالم كلّه".
استخدام (نا) الدالة على الجماعة في الحديث عن إيران تحديداً، أمرٌ يُثير العديد من التساؤلات. دفعني الموضوع إلى التقليب في صفحة القناة على فيسبوك لأجد أنّ الترويج لإيران يتجاوز كرة القدم بأشواط؛ صورٌ لمدن إيرانيّة ومنشورات تعرض إنجازات إيران بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، ومؤخّراً مُساندة للمنتخب من باب مواكبة الحَدَث. إذاً، كان من الممكن أن تكون الصورة من الضاحية الجنوبيّة مُصوّرةً في إحدى المناطق السوريّة!
تلقى أهالي لاعبي منتخب إيران تهديدات بعد رفض أبنائهم ترديد النشيد الوطني، ومنعت قطر الجمهور من رفع شعارات التضامن
في هذه الأثناء، كان أهالي لاعبي المنتخب الإيرانيّ يتلقون تهديدات بالاعتقال والتّعذيب ما لم يُحسن أبناؤهم التصرّف في المرّات القادمة، ووصفهم الإعلام الإيراني بـ"عديمي الشرف والغيرة الوطنيّة"، وبدورها، اتّخذت قطر موقفاً مشابهاً وبدأت تمنع مشجّعي إيران الوافدين إليها من رفع شعاراتهم، وتمّ تداول بعض الصور التي تؤكّد ذلك.
إذاً، من غير المنطقيّ، من وجهة نظر قناة العالم-سوريا على الأقل، أن يكون المُسانِد لإيران وطنيّاً والمُرحّبُ باستضافة قطر لكأس العالم خائناً. يدفعنا هذا للقول إن الموضوع برمّته ليس موضوع إنجازات بلد غير بلدنا، ولو كان بلداً عربيّاً، ولا موضوع إتاحة مكان يُشجّع فيه أبناء جالية مقيمة مُنتخب بلادهم. إن الموضوع موضوع دولة حليفة ودولة عدوة، ولو كان المنتخب السوري فعل ما نتمنّاه أن يفعل لكان تلقى التهديدات نفسها من الجهات نفسها.
في آخر مبارياتها ضمن دوري المجموعات، سجّلت الولايات المتّحدة هدفاً في شباك إيران من دون مقابل. هنّأ الرئيس جو بايدن لاعبي المنتخب الأمريكيّ، بينما أثارت المباراة بما تحمله من رمزيّات وأبعاد ضجّةً على مواقع التواصل الاجتماعيّ، ولكن عدداً كبيراً من الشعب الإيراني ومتابعي شؤونه، مؤيديين ومعارضين، فرح لخسارة المنتخب أمام أمريكا لاختلاف الأسباب؛ المعارضون لأن قسماً منهم ينتظر دعماً أمريكيّاً، والمؤيّدون فرحوا لأن المنتخب أبدى معارضته للنظام.
في مكان مخصص للجالية الإيرانية في سوريا، يعبّر مشجعو المنتخب الإيراني عن حزنهم بسبب خسارة منتخبهم أمام إنكلترا، "فريقنا نازل"، و"متل هادا الفريق كنّا مراهنين عليه قدّام العالم كلّه"، فما دلالات "نا" الجماعة؟
منذ أن تحالفت كل من روسيا وإيران مع النظام السوريّ، والأخير يعمل على أجندة واضحة لإقحام تلك العلاقات في ما هو أبعد من السياسة والدعم العسكري، حيث أصبح تعلّم اللغة الروسية خياراً مُتاحاً في المدارس والجامعات بالرغم من ضعف الكادر التدريسيّ، في حين أن تعليم اللغة الكردية علناً، وفي المدارس، ما زال حلماً لأبناء القوميّة الكرديّة من السوريين. أمّا بالنسبة لإيران، فيبحث الطرفان مؤخّراً عن سبل توسيع علاقات التعاون والتنسيق في ما يخصّ سهولة تنقّل الزوّار بين البلدين.
في المحصلة، فإن الهيمنة الثقافية والدينية التي يفرضها الحليفان على الشعب السوري، ليست سوى سلوك استعماريّ يسعيان من خلاله إلى إعادة صياغة هويّة الشعب وذلك بتعاونٍ وتسهيلٍ من وسائل الإعلام التي أصبحت تدمج ثقافتها مع ثقافة البلد. وليست هذه العمليّة بالصعبة على النظام السوري.
من السهل على سبيل المثال، إضافة صورة فلاديمير بوتين إلى صورة بشار الأسد عند الحواجز داخل المدن على الأقل، وحتّى إن لم يكن ذلك بأمرٍ مباشر من أجهزة الدولة. قد يرى عنصر الحاجز أن وضع صورة الزعيم المُفضّل قد تُعلي من مرتبته عند النظام. ومن المُنطلق نفسه، قد يستخدم الشباب تشجيعهم للمنتخب الوطني الإيراني كضمان لهم أو كغلاف يُزيح عنهم الشكوك في دولة الأخ الأكبر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...