شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"السنوات السوبر"... حين كان العالم مادة خصبة للأحلام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

السبت 3 ديسمبر 202205:24 م

 بين الأعوام 1972 و1981، خاضت الكاتبة الفرنسية آني آرنو ، الحائزة نوبل للأدب 2022، عدة رحلات ، بصحبة زوجها وولديها ووالدتها، بمناسبة بلوغها سن الثلاثين. امتدت هذه الرحلات خلال السنوات الثمانية لأكثر من دولة، بعضها يعيش سياقات سياسية مضادة كلياً لبعضها للآخر. من تشيلي إلى ألبانيا، ومن الاتحاد السوفياتي، إلى البرتغال وكندا، بينما فرنسا مسقط الرأس تحضر من آن لآخر. هكذا تتنقل الكاميرا في رحلة أمكن لرواد عروض مهرجان القاهرة السنمائي الدولي متابعتها في فيلم "السنوات الـ8 الفائقة The super 8 years" المعروض ضمن عروض المهرجان من الأفلام الوثائقية.

حكاية فيلم

كان زوج آرنو آنذاك مشغولاً بتوثيق رحلات العائلة بكاميرا فيديو، يُسجّل بها زمناً سيزول قريباً، وقت كانت العائلة مفعمة بدفء جماعي، مُبطّن بتبادل الاحتماء الناتج عن تدفق العلاقة بين الآباء والأبناء، حتى تباطأت التسجيلات تدريجياً إلى أن توقفت في مطلع الثمانينيات، إذ انفجرت العائلة وقتها وفشل الزواج.

بعدما ظلّت تسجيلات الفيديو مع ديفيد آرنو الإبن، لسنوات طويلة، رحل خلالها فيليب الأب. تشجّع ديفيد، بمساعدة والدته الروائية آني آرنو الحائزة على نوبل للأداب هذا العام، أن يُنتجا معاً مادة فنّية لقراءة سنوات العائلة، والصعود الحالم للتيارات اليسارية الذي شهدته العائلة خلال الرحلات.

وعلى مستوى أكثر ذاتية، تشجّع ديفيد الإبن لإنهاء الفيلم، لأنه أراد أن يرى أبناؤه سنوات طفولته، وأن يتعرّفوا على الجد والجدّة وزمن المجد الجماعي لهذه العائلة معاً.

ظلّت تسجيلات الفيديو حبيسة أدراج ديفيد آرنو الإبن لسنوات طويلة، رحل خلالها فيليب الأب. بعدها، تشجّع ديفيد، بمساعدة والدته الروائية آني آرنو الحائزة على نوبل للأداب هذا العام، أن يُنتجا معاً مادة فنّية لقراءة سنوات العائلة، والصعود الحالم للتيارات اليسارية الذي شهدته العائلة خلال رحلاتها نهاية السبعينيات

عمل ديفيد على تحرير تسجيلات الفيديو وتقسيمها، وبشكل موازٍ كتبت آني آرنو المادة الروائية للفيلم، ليتم تضفير التتابع المرئي للفيديوهات، مُجمّعة وموحّدة من خلال حكي آرنو على امتداد الفيلم، لمدة ساعة واحدة.

تداخُل ومشاهدة

خلال تفقد الأفلام المُعلنة ضمن الدورة 44 من مهرجان القاهرة السينمائي التي اختتمت قبل أيام، لاحظتُ وجود فيلم the super 8 years للكاتبة الفرنسية آني آرنو، كنت قد قرأت لآرنو روايتين بعد إعلان فوزها بجائزة نوبل، وفوجئت بالتورط معها كقارىء في مساحة شديدة الشفافية من القدرة على التعامل مع الذاكرة بشجاعة وحِدّة، كأنها تقتحم الجروح السابقة  للذاكرة بمشرط. لكنها تبدو محاولة تستحق، إذ تنبت من الجروح مساحات واسعة من القدرة على قراءة الذات والعالم، والاقتراب من الزمن كندّ حميم.

تشجعتُ -وأنا واثق من حفاظ آرنو على ثيمة التساؤل والانطلاق من الذاتية كمادة لقراءة الجماعي- لوضع الفيلم ضمن قائمة مُشاهدات المهرجان، وتبيّن بعد المشاهدة أن آرنو لم تُحافظ على بُعد الجودة الأدبية فقط، بل خلقت من خلال كاميرا زوجها الراحل وحضور ديفيد الإبن –كمونتير ومخرج- حالة سينمائية متدفقة وجميلة، وكاشفة لوضع العالم في حقبة السبعينيات.

يقوم فيلم السنوات الثماني الفائقة بزيارة للعالم في هذه الحقبة، من خلال عدّة أبعاد حكائية، أكثرها أهمية هو العائلة، وكيف يُمكن النظر إلى علاقاتها الحميمة من خلال المُستقبل، أي مستقبل انتفاء واختفاء ذلك الواقع البعيد الحاضر على الشريط السينمائي.

حافظت آرنو على حضورها ككاتبة، ليس فقط بالمعايير الحكائية سينمائية، بل وضعت حدوداً فاصلة بين ما هو سينمائي وما هو أدبي خلال صناعة الفيلم، إذ كتبت النص السينمائي (شريط الصوت في الفيلم) على أنّه مادة أدبية، حكاية مدتها ساعة عند رويها، وفي ذلك الحيّز لم يتدخل ديفيد على أي مستوى، وحينما انتهت آرنو من كتابتها وتسجيل الصوت، بدأ ديفيد العمل على توليف تقطيعات الصور وتتابعها مع الصوت، بشكل مستقل تماماً، من دون أي تدخّل من الأم. 

يقوم فيلم السنوات الثماني الفائقة بزيارة للعالم في هذه الحقبة، من خلال عدّة أبعاد حكائية، أكثرها أهمية هو العائلة، وكيف يُمكن النظر إلى علاقاتها الحميمة من خلال المُستقبل، أي مستقبل انتفاء واختفاء ذلك الواقع البعيد الحاضر على الشريط السينمائي

خلقَ التبادل الحاصل في صناعة الفيلم ثنائية الانفصال/ التضفير بين أداتي السينما والأدب. حينما تسمعُ آني وهي تروي حدثاً ما متعلّقاً بالعائلة، أو بالمكان قيد الزيارة السياحية؛ وقتها تسمع حكياً أدبياً مكتفياً بذاته، يمكن أن يكون قصة مسموعة لها حضورها الخاص والمتكامل، وبنفس الدرجة، ثمّة نشاط مستقل  للصورة، يمكن لفيلم السنوات الثمانية أن يُنزع عنه شريط الصوت ويكون فيلماً صامتاً بأدوات حداثية، وتظل مساحة الاشتباك والتفاعل، والتلقّي الإيجابي من قِبَل المشاهد حاضرة.

 دفعت طبقات التبادل المتعددة على مستوى عمل الفيلم والأفكار الداخلة فيه آني وديفيد أن يتساءلا بشكل منفصل عن دوافعهما الذاتية حول المُنتج ذاته. أرادت آرنو أن تُكمل ثيمتها الأدبية المُفضّلة، أن ترى العالم في حالة حلم، وتخوض تطوراً كبيراً، خاصة بعد الدفعة الكُبرى التي أصابت المجتمع الثقافي الفرنسي بالحيوية من خلال حركة طلّاب مايو 68.

 على مستوى خصوصي، اندفعت آني تجاه نفسها بحدّة خاضعة لسلطة الذكريات أيضاً، كي ترى نفسها كأم وزوجة في علاقة خدعت الكاميرا وأجبرتها على تصوير حكاية ظاهرة تختبئ خلفية حكاية أخرى أكثر قتامة لم تتمكن الكاميرا من التقاط أبعادها، إذ كان الغرض من تصوير العائلة في رحلاتها الاحتفاظ بذلك الدفء والحضور الجماعي، لكن ما حدث أن الكاميرا وثّقت أواخر مجد العائلة في طورها الجماعي.

العودة إلى "السنوات"

بسبب عمل آرنو المستقل عن الصورة خلال الفيلم، تم توظيف الصورة كمادة دعم للحكاية على المستوى الرمزي والعاطفي للنص المكتوب. هناك تداخل ملحوظ بين شكل الكتابة عند آني عموماً، وبين طبيعة فيلمها المذكور، خاصة في روايتها (the years) التي تُعتبر من أفضل كتاباتها، ومع ذلك لم تُترجم إلى العربية بعد. 

يمكننا تتبّع التقاطع بين الفيلم والرواية من خلال تشارك الرغبة في "توحيد" الحالة المشرذمة كأفكار في ذاكرة عشوائية، أرادت آرنو في الفيلم والرواية أن توحّد ذلك التدفق من خلال القص، وأن تخلق لنفسها بالكتابة وجوداً مُركباً، الأول شخصي تماماً، والثاني متقاطعٌ مع حركة جيل. كلاهما قائم على استدعاء الماضي، مع تقدير هذه المسافة الزمنية التي تضيف/ تنفي عن الأشياء الكثير. أن ترى نفسك في حيّز لم تعد جزءاً منه في اللحظة الراهنة، ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن ذلك الماضي البعيد هو من شكّل الاختلاف والاستقلال الشخصي الحالي.

 مثلما أرادت آرنو أن تعيش (عملية صعود العالم) في الفيلم خلال السبعينيات، ورأت وهي تحكي حالياً أن العالم الصاعد نفسه، كان ينحدر – ربما من دون دراية- نحو الهاوية. عملت صاحبة الخزائن الفارغة في رواية "السنوات" على التعايش مع عملية صعود الذاكرة، دفعة واحدة، كأنها أرادت أن تستحضرها مرة أخرى.

في رواية "السنوات" تستعيد آني آرنو حياتها حتى زمن كتابة الرواية، لكنها تهرب من الذاتية كفخ، ولذلك تسرد الأحداث بضمير "نحن" وأحياناً أخرى بضمير المؤنث الغائب "هي"، من دون التورط في مكاشفة "الأنا" من خلال اللغة. تمتد الرواية خلال إطار زمني أكثر رحابة من محدودية الفيلم، منذ عام 1940 حتى عام 2006، من نشأة آرنو وانتقالها من خلال الكتابة من الطبقة العاملة غير المتعلّمة إلى الأخرى المُنتجة والمشتبكة مع الوضع السياسي والثقافي الراهن بصورة أقرب، ثم المحطات الفارقة في ذاكرتها، الأمومة والطلاق وسؤال الكتابة. تتدفق هذه المحطات مثل مسار مائي تقف آرنو في مساحة قريبة منه، لكنها على كل حال لا تتورط فيه.

يسير البعدان الشخصي والعام في فيلم سنوات السوبر بتوازٍ مدهش، على نفس مسار رواية "السنوات"، هناك تشابك خلّاق بين الذكرى العابرة، التي تقتحم الرأس فجأة، وبين الحدث التاريخي، على مستوى مؤسسي أو من جانب ثقافي شعبي، هناك دائماً ملاحظات دقيقة حول التحولات الثقافية الفارقة.

تتقاطع المسارات الشخصية والعامة عند آرنو، عادة، كي تتجه في مسار العلاقة مع الزمن، الفاعل الأكثر مركزية في مآلات الأفكار والأحداث الفارقة. في رواية "السنوات"، تنطلق آرنو من ذاتها لترى وتوثّق وتتأمّل بعين ناقدة، تلك الأحداث التي شكلتها كامرأة وكاتبة. بداية من الصعود المُدهش للمطربة الفرنسية إديث بياف، والإلتزام السياسي عند سارتر، والتنظير النسوي عند سيمون دو بوفوار، وحركة مايو 68، والتهديدات النووية في أواخر القرن العشرين، وشمولية المجتمعات اليسارية وتفحّش اليمين والهيمنة الاقتصادية. تتلوّن هذه الأحداث من خلال الكتابة عبر أشكال عدّة، تبدأ من فكرة في رأس آرنو، وتنتهي بداخلها كشخص لديه موقف واضح وحاد من الأشياء وعلاقتها بالزمن.

من خلال نفس السياق يتكوّن فيلم "سنوات السوبر"، لكن في إطار تاريخي أضيق، وكذلك تُطلق آني الحكي من خلال العائلة التي تقرأ تطورات العالم، وفي نفس الوقت تقرأ ذاتها كمجموعة، خلال حكي سلس يقوم على التوّرط المفاجىء، المؤلف بصيغة تتابعية لا تنقطع، وهو مطلق ويوهم بالأبدية، كأن الحاضر يُلتهم بفعل الانتاج المراوغ لفواصل الزمن، الماضي والحاضر والمستقبل.

 آباؤنا المخرجون

بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم في السينما، تدفق أساس المساءلة عند آرنو إليّ، وجدتُ أن ساعة من الحكي المشتبك مع فيديوهات مُجمّعة، لا يمكن أن يُؤخذ عنه انطباع إلا بنفس أدوات صناعة الفيلم، إذ يظل الأخير رغم تركيبياته السينمائية- الأدبية، قائماً على مواد شديدة الأولية، مونولوغ حواري مطوّل، وفيديوهات مصوّرة بكاميرا يدوية بسيطة (8 ملم)، ربما عاصرها جيل الثمانينيات والتسعينيات في منازلهم خلال أيام الطفولة.

تدفعنا حالة الخلق الجميلة التي كوّنتها آرنو إلى السؤال حول تواريخنا الشخصية، وحضور كاميرا الفيديو بها.

خلال تتبّعه لتاريخ فن الفيديو عربياً، يذكر كتاب (متحف الفيديو) انتشار كاميرا الفيديو الصغيرة خلال حقبتي التسعينيات والثمانينيات، والتي انتشرت في مصر، كمثال، بسبب ارتفاع معدلات الهجرة إلى الخليج وظهور مزيد من التقنيّات المعاصرة في منازل الطبقة المتوسطة.

مثلما يذكر الكتاب، تُمثّل تسجيلات هذه الكاميرات حالة خلّاقة لتأريخ حياة العائلة، إذ تتحول الكاميرا في يد الأب/ المصوّر إلى مجموعة من الدلالات، أولاها محاولة القبض على اللحظة الراهنة، والقرب الشديد بين الكاميرا وصاحبها، لأنها تبدو في هذه الحالة امتداداً له، لجسده، ولسلطته الأبوية على الاشتباك كندّ مع الزمن، كأنه يقبض على سعادة الأبناء ويهبها لهم موثّقة إلى الأبد.

بشكل ما، لسنا بعيدين عن حالة آرنو، لأننا نمتلك معاً بشكل جماعي، الأساس الأولي لخلق حالة مُقاربة للفيلم، لها أصالتها المُستقلة من خلال فعلي التوثيق والتجربة.

تُشاهد سنوات آرنو السوبر الثماني، وتُفكر مباشرةً في سنواتك، وربما تتساءل حول وجود فيديوهات قديمة للعائلة، وللطفولة، وللزمن الفائت. تعمل الكتابة الذاتية هنا في أقصى حالاتها المؤثرة، حينما ينتقل التساؤل من المادة الفيلمية إليك، ليس للتفاعل مع التركيبات الشعورية الناتجة من المشاهدة، بل للتفاعل مع فكرة خلق الفيلم ذاته، وكيف يمكن لنفس الأدوات أن تدفعنا لمُساءلة أنفسنا على نحو مماثل في العمق.

هناك اعتراف جميل للمترجمة هُدى حسين، ضمن مقدمتها لترجمة "الحدث" لآني آرنو، تقول فيه عن كتابات صاحبة السنوات "تُكمل عندي جُملاً لم أقلها، وتنهي مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة". ربما يكون ذلك، تحديداً، ما حاول الفيلم فعله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image