شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حظره الخليفة وذكره الشعراء برموز إيروتيكية... الشّطرنج في التراث العربي

حظره الخليفة وذكره الشعراء برموز إيروتيكية... الشّطرنج في التراث العربي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 9 ديسمبر 202206:39 م

يقول أينشتاين: "أنا على يقين تام بأنّ الله لا يلعب النرد". وما يقصده أينشتاين أنّ الكون منظم بدقة وإن لم نكن نفهم هذا التنظيم. وإنْ كان لنا أن نزيد على قول أينشتاين: لربما كان الله يلعب الشطرنج. الفرق بين لعبتي الشطرنج والنرد هو أنّ الأولى تقوم على إعمال العقل وتدبّر الخطط والتأمّل والتفكير قبل الإقدام على أي حركة، في حين تقوم الثانية على رمي حجر النرد، خبط عشواء، وانتظار ما تستقرّ عليه أوجه النرد من أرقام، فلا تدبر فيها ولا تفكير، بل خضوع كامل لمشيئة النرد.

قيل الكثير في أصل الشطرنج وفي أي بلد اخترع، فالإغريق قالوا إن أحد قادة اليونانيين قد اخترعه في حصار طروادة لتسلية جنوده. بينما قال بهاء الدين العاملي في كتابه "الكشكول" إن الحكماء قد وضعوه لملوك الفرس والروم، لأنّهم لم يكونوا يطيلون الجلوس مع العلماء وذلك بسبب جهلهم، وإن اجتمعوا فقد كانوا ينظرون بعضهم إلى بعض شزراً، فاخترعوا لهم الشطرنج حتى ينشغلوا به.

مهما يكن من نسب الشطرنج لهذا البلد أو ذاك الشعب، فالأرجح أنه ذو منشأ هندي. يورد الشاعر الفارسي الفردوسي في "الشاهنامه" قصة جميلة عن سبب اختراع الشطرنج؛ زعموا أن في بلاد الهند كان هناك ملك اسمه جمهور، أنجب ولداً سمّاه كو، لكنه مات فتزوجت أرملته أخاه وأنجبت ولداً سمّته طلخند ولم يعمّر الزوج الجديد، فلحق بأخيه الملك جَمهور إلى القبور. وهنا أصبحت الملكة وريثة للعرش ووصية على الولدين اللذين شبّا سريعاً وما لبثا أن طالب كلٌّ منهما بالعرش. وكان كو عاقلاً متزناً، أمّا طلخند، فقد كان على عكس من ذلك.

ولم تلبث أن تحزّبت البلاد بين الأخوين، ودارت المعارك بينهما، بعدما يئس كو من أن يركن أخوه للعقل والتدبّر، أوصى قادته وجنوده ألا يتعرضوا لأخيه بالسوء، على عكس ما أمر به طلخند قادته وجنوده. وعندما انكشف غبار المعارك ألف طلخند نفسه وحيداً فمات كمداً وغضباً. أصاب موت طلخند الملكة بالحزن والغضب، ولكي يشرح لها الأمير كو بأنّه لم يقتل أخاه، بل إنّ الملوك تموت حتف أنفها عندما تفقد مواطن قوتها من عسكر ومال، مثّل لها ذلك بأن اخترع لعبة الشطرنج.

الحاضر يعلم الغائب: اللعب بالشطرنج ممنوع

كان مروان بن محمد الملقّب بالحمار آخر خلفاء بني أمية، ولا يعتبر هذا اللقب ذماً له، بل دلالة على صبره على الشدائد. لقد حكم إمبراطورية تمتدّ من مشرق الشمس إلى مغربها في العالم القديم، حيث ورث التركة الأموية بغرمها وغنمها أي بإيجابياتها وسلبياتها، فلم يكن زمنه عهد استقرار، بل زمن فتن وثورات وخروج على الحكم. لم يكن مروان بن محمد خليفة ضعيفاً، فقد اشتهر بالدهاء والبطش والشجاعة والإقدام، لكن الرياح كانت تجري على عكس ما تشتهي سفنه.

يقول أينشتاين: "أنا على يقين تام بأنّ الله لا يلعب النرد". وما يقصده إينشتاين أنّ الكون منظم بدقة وإن لم نكن نفهم هذا التنظيم. وإنْ كان لنا أن نزيد على قول أينشتاين: لربما كان الله يلعب الشطرنج

وقد أوجز المسعودي في وصف حال هذا الخليفة بالقول إنه كان "يلقى أموره وهي مدبرة، ويريد أن يجعلها مقبلة"، ومن تدبر عنه الدنيا فلا نجاة له. وأمام هذا الواقع فتّش الخليفة في الأسباب التي رأى أنها منذرة بعواقب وخيمة، فأمر كاتبه عبد الحميد الكاتب أن يوجه كتاباً إلى أحد حكّام الأقاليم يأمره بأن ينهي الناس عن اللعب بالشطرنج، لأن الشيطان كان قد زين لهم اللعب فيه كما جاء في كتاب "رسائل البلغاء": "فكان مما قدم إليهم فيه نهيه وأعلمهم سوء عاقبته... وأوعز إليهم ناهياً وواعظاً وزاجراً الاعتكاف على هذه التماثيل من الشطرنج والمواصلة عليها لما في ذلك من عظيم الإثم... وقد بلغ أمير المؤمنين أن ناساً ممن قبلك من أهل الإسلام قد ألهجهم الشيطان بها وجمعهم عليها وألف بينهم فيها معتكفون عليها من لدن صباحهم حتى ممساهم".

تكشف لنا رسالة عبد الحميد في الشطرنج كيف أنّ الشطرنج قد شغل المسلمين عن صلواتهم وأعمالهم، لذلك كان لا بدّ من إطلاق يد الشرطة فيهم: "وتقدّم إلى عامل شرطتك في إنهاك العقوبة لمن رفع إليه من أهل الاعتكاف عليها والإظهار للعب بها وإطالة حبسه في ضيق وضنك... ولا يجدنّ أحد عندك هوادة في التقصير في حق الله عز وجل".

لا نستطيع القول إن الخليفة مروان بن محمد قد شرعن قرارَه بمنع الشطرنج على تحريم فقهي، ولكن كان للفقيه مالك بن أنس رأي يدل على كراهته: "لا خير فيه، وليس بشيء، وهو من الباطل، واللعب كله باطل".

كان للفقيه مالك بن أنس رأي يدل على كراهة الشطرنج: "لا خير فيه، وليس بشيء، وهو من الباطل، واللعب كله باطل"

ولربما يضاف إلى أسباب هذه الكراهة بأن أحجار الشطرنج كانت على هيئة تماثيل مجسمة. وليس غريباً هذا التوجه الديني فقد جاء في مجلة "الهلال" بأن هناك وثيقة في الفاتيكان تعود إلى عام 1061 ورد فيها بأن الشطرنج ينافي الحكمةَ والقيام بالواجب إذ يستولي الغرور على راهب، فيضيع أوقاته في لعب الشطرنج، وينتهك المقدسات بلعبة تلوث اليد واللسان اللذين يجب أن يستعملهما في خدمة الرب.

مهما يكن من أمر كراهة الشطرنج أو تحريمه فقد رأى الدكتور إحسان عباس الذي حقق رسائل عبد الحميد الكاتب الذي عمل تحت يد الخليفة مروان بن محمد ومن ضمنها رسالته التي تتضمن حظر الشطرنج، بأن هذا القرار يعود إلى أن أغلب الفئات التي كانت تلعب الشطرنج كانت على عداوة مع الأمويين، فهل كان الخليفة مروان بن محمد يرى فيها نوادي للاجتماع وعقد الاتفاقات للثورة على حكمه وعلى السلالة الأموية واستبدالها بالعباسية؟

صار ماء وردك بولاً

كان أبو بكر الصولي من الأدباء الكبار، لكنه كان لاعب شطرنج لا يشقّ له غبار حتى أصبح مضرباً للمثل، فيقال: فلان يلعب كالصولي. وقد أخبر المسعودي بأن الخليفة العباسي المكتفي كان من المتحزّبين للماوردي في الشطرنج، وهو صاحب التصانيف الكثيرة في الفقه الشافعي، وقد جاءه لقب الماوردي لأن أسرته كانت تشتغل بصناعة وبيع ماء الورد.

وحدث أن سمع الخليفة عن مهارة الصولي في الشطرنج، فدبّر لقاء بين الصولي والماوردي وقد دهش الصولي للانحياز السافر للخليفة نحو الماوردي في اللعب، لكنّ الماوردي لم يثبت أمام حنكة ومهارة الصولي في لعب الشطرنج، فلقد غلبه غلباً لا يرد عليه شيئاً. وهنا تبيّن للخليفة حُسن لعب الصولي، فعدل بهواه عن الماوردي وقال له: "صار ماء وردك بولاً".

حدث أن سمع الخليفة عن مهارة الصولي في الشطرنج، فدبّر لقاء بين الماوردي والصولي، وقد غلب الأخير الماورديَ. وهنا تبيّن للخليفة حُسن لعب الصولي، فعدل بهواه عن الماوردي وقال له: "صار ماء وردك بولاً"

ويحكي المسعودي أنّ الخليفة الراضي كان يتنزّه في روضة من رياض بغداد، فقال لمن معه من الندماء: هل رأيتم أحسن من هذا؟ فتبارى الأصدقاء في الثناء على زهر هذا الروض، فرد عليهم الخليفة الراضي: "لعب الصولي بالشطرنج، والله، أحسن من الزهر الذي تصفون".

حبّ شطرنجي

هو الحبّ كرّ وفرّ، ومنع ووصل، وهجوم ودفاع، واشتباك لا فكاك منه إلا بالخسارة والربح سواء بسواء على رقعة الشطرنج. هو الشطرنج خطوات محسوبة وغير محسوبة على رقعة القلب. فإذا كانت الحبيبة لا تلين بالغزل والمداعبات، إلّا أنها شغوفة بالنزال، فلماذا لا يلاعبها أمرؤ القيس بالشطرنج: ولاعَبتُها الشِّطرَنج خَيلي تَرَادَفَت/ورُخّي عَليها دارَ بِالشاهِ بالعَجَل.

 اللعب بالنرد خير من اللعب بالشطرنج، لأن صاحبه يعترف بالقضاء والقدر... ابن تيمية

هذه الأبيات من قصيدة: تَعَلَّقَ قَلبي طَفلَةً عَرَبِيَّةً، فبعد شدّ وجذب بين أمرئ القيس وتلك الفاتنة، فرشا بينهما رقعة الشطرنج وتراهنا، فإن نال امرؤ القيس من ملكها فاز بقبلة. وعلى ما يبدو أن تلك الفاتنة تجيد اللعب والمكر، فتقول لأمرئ القيس: فَقَالَت ومَا هَذا شَطَارَة لَاعِبٍ/ولكِن قَتلَ الشَّاهِ بالفِيلِ هُو الأَجَل. فيستجيب امرؤ القيس للمنتصرة المتقنِّعة بالخسارة: فَنَاصَبتُها مَنصُوبَ بِالفِيلِ عَاجِل/ مِنَ اثنَينِ في تِسعٍ بِسُرعٍ فَلَم أَمَل... وقَد كانَ لَعبي كُلَّ دَستٍ بِقُبلَةٍ/أُقَبِّلُ ثَغراً كَالهِلَالِ إِذَا أَفَل.

وكعادة أمرئ القيس في افتضاض مفازات الشعر للشعراء من بعده، فقد حذوا حذوه، فأصبح الشطرنج نديم جلسات العشاق، لا هو بالعذول ولا بالشخص الثالث، بل كان بينهما كالضمير منفصلاً متصلاً. هذا النديم الجديد انتشر في العصر العباسي، فأصبح مطلباً في كل صديق أو جارية. وفي "الإمتاع والمؤانسة" يبين لنا التوحيدي بعضاً من صفات النديم بأنه يجب أن يكون قوي الدست (حسن اللعب) في الشطرنج. يذكر أن كلمة "دست"، والتي تعني بالفارسية "اليد"، تستخدم في الألعاب اليدوية كالنرد والشطرنج وتعني في ذلك "الشوط".

أدخل أمرؤ القيس الشطرنج كاستعارة شعرية وإيروسية، حيث نجد قصيدة الزعفراني في زمن عضد الدولة البويهي تمور بالتشبيهات والرموز الإيروتيكية، ظاهرها أحجار شطرنج وباطنها للبيب فيها إشارة: غصبتني عليه خودٌ وقالتْ/أنا من قد عرفتَ واسمي ظلوم وانثنت بي إلى مجال فسيح تدمن الركض فيه زنج وروم فأحاطا بشاهنا في مضيق ضاق ذرعا بمثله المكظوم فتخفّت من الحياء وغطّتْ ورد خدِّ كأنه ملطوم ثم قالت خذ الفؤاد سليمًا إن حبس المرهون عار ولوم.

ذُكر في كتاب "أنموذج القتال في نقل العوال" للتلمساني أنّه وجد في أمتعة أبي نواس بعد وفاته شطرنج، وهو القائل: تلاعبتُ بالشطرنج مع من أحبّه/فنادمني حتى سكرتُ من الوجد

وذُكر في كتاب "أنموذج القتال في نقل العوال" للتلمساني أنّه وجد في أمتعة أبي نواس بعد وفاته شطرنج، وهو القائل: تلاعبتُ بالشطرنجِ مع من أحبّه فنادمَني حتى سكرتُ من الوجدِ... وأنشدَني مالي أراكَ مفكراً/تدور على الشاماتِ وهي على خدي.

وفي البيت الأخير تورية شعرية لطيفة، فالشامات قد قصد بها أبو نواس الكلمة المشهورة التي يعلن بها موت ملك الخصم: شاه مات، فما بين الشاه مات والشامات على الخدّ حار الفكر وأناب.

ولأن الشطرنج لعبة حرب وحب ومنادمة، فلا بد أن يحضر في "ألف ليلة وليلة"، ولا بد أن تمثّل لنفسها شهرزاد بالجارية "تودد"، فتقص لشهريار حكاية الجارية تودد التي هزمت الشعراء ورجال الدين وأصحاب المنطق، فقال لها الرشيد: يا تودد بقي عليك شيء مما وعدتِ به وهو الشطرنج. وأمر الرشيد أن يحضر أسياد اللعبة، فهزمتهم تودد شرَّ هزيمة، وكأنّ شهرزاد بعد هذه القصة تقول لشهريار، سيكون حالك حال من لاعبتهم الجارية تودد وهزمتهم!

أصحاب النرد وأصحاب الشطرنج 

عرف العرب النرد والشطرنج، ونسبوا النرد إلى الملك الفارسي أَردشير بأنه مخترع لعبة النرد، كذلك أرجعوا الشطرنج إلى الهنود. وقد فتنوا بهما ومثّلوا بالنرد والشطرنج مذاهبهم الفكرية، فيقول المسعودي في "مروج الذهب ومعادن الجوهر" بأن بعض أهل النظر من المسلمين رأوا أنّ واضع الشطرنج كان عدليّاً مستطيعاً في ما يفعل، أي أنّ الإنسان هو سيد أفعاله، وليست مقدّرة عليه. في حين صاحب النرد قدري مجبر، لأنّه في لعب النرد ليس له من خيار إلّا ما يوجبه النرد عليه من حظوظ الأقدار أو مساوئها.

ونرى هذا التفريق بين الشطرنج والنرد، أي بين القدريين وأصحاب الإرادة الحرّة، في ما ذكره ابن تيمية، كما جاء في كتاب "الغيث المسجم": "اللعب بالنرد خير من اللعب بالشطرنج، لأن صاحبه يعترف بالقضاء والقدر".

وجاء في كتاب "محاضرات الأدباء" ما يؤكّد هذا التوجّه: "إنّ صاحب الشطرنج معتزلي، وصاحب النرد قدري على مذهب الأشاعرة". ومع ذلك فهناك حديث عن الرسول الكريم في موطأ مالك، مفاده أنّ من لعب بالنرد، كأنّه صبغ يده بدم الخنزير ولحمه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard