منذ أن قرأت لرياض الصالح حسين، وهو يتحدث عن العدالة من مفهومه الخاص، إذ قال:
"العدالة هي أن أركض مع حبيبتي
في أزقة العالم
دون أن يسألني الحراس عن رقم هاتفي
أو هويتي الضائعة
العدالة هي أن ألقي بنفسي في البحر الشاسع
وأنا واثق بأن أحداً لن يمسكني من أذني
ويقودني - مرةً ثانيةً إلى القبر
بدعوى أن الانتحار لا تقرّه الشرائع والقوانين
العدالة هي أن آكل رغيفي بهدوء
أن أذهب إلى السينما بهدوء
أن أغنّي بهدوء
أن أقبّل حبيبتي بهدوء و أموت بلا ضجة".
لم أنسَ تلك الكلمات، بالرغم من مرور أكثر من سنة. لم أنسَ بالرغم من أنني قد قرأتها قراءةً عابرةً، ولكن ظلت تلك الكلمات عالقةً في ذهني، تراودني في منامي ويقظتي، في شرودي وانتباهي، لم تفارقني، ربما لأنها كانت كلمات ضائعةً وقد وجدت مستقرها في داخلي، أو ربما كنت أنا الضال ووجدت فيها هداي.
تلك الحقوق المشروعة ما هي سوى أمان، وتلك الأماني تكلّف الكثير لتتحقق، وفي النهاية لا تتحقق.
من أراد أن يسلم في مجتمعاتنا، أو بلفظة أخرى "يحيى"، عليه أن يبتعد عن السياسة ويغنّي لها. ولكن ليت الأمر اقتصر على هذا، فقد سُلبنا أيضاً حريتنا الاجتماعية والعاطفية، تماماً كما سُلب منا شبابنا وصوتنا وروحنا
لا يمكن إنكار كيف نُحرَم -نحن أبناء جيلي- في مجتمعاتنا العربية من حريتنا الفكرية وبالأخص السياسية، فنعاني من القمع والتقييد، وأحياناً كثيرةً من التهديد والترويع، ولهذا حُرّم علينا الكلام في السياسة، فمن أراد أن يسلم، أو بلفظة أخرى "يحيى"، عليه أن يبتعد عن السياسة ويغنّي لها. ولكن ليت الأمر اقتصر على هذا، فقد سُلبنا أيضاً حريتنا الاجتماعية والعاطفية، تماماً كما سُلب منا شبابنا وصوتنا وروحنا.
لم يرحمنا المجتمع ولم ترحمنا أعين الناس. كانت القاضي والجلاد، تحكم علينا بعدم الرضا، وتجلدنا بنظرات الاحتقار، وكانت جريمتنا الوحيدة هي أننا اخترنا حريتنا، اخترنا أن نحيا بالطريقة التي تلائمنا، وتلائم زمننا. كان جرمنا أننا خالفنا ما فرضه علينا المجتمع، من دون نظرة رحمة، وكل هذا لأن يدي عانقت يديها.
اختبأت يدها الصغيرة داخل يدي، تماماً كما كنا نختبئ حتى لا يرانا الناس. لحظات قصيرة مليئة بالدفء، لكنها محفوفة بالقلق والخوف.
اختبأت يدها الصغيرة داخل يدي، تماماً كما كنا نختبئ حتى لا يرانا الناس. لحظات قصيرة مليئة بالدفء، لكنها محفوفة بالقلق والخوف. لا ننفك ننظر حولنا، فيفسد علينا المجتمع تلك اللحظات سراً وعلانيةً. كم تخيلت وأنا أمسك يدها في الشارع من دون خوف أو قلق! ولأن أرض الخيال واسعة سمحت لنفسي بأن احضنها، فكل منّا يحتاج إلى هذا الحضن. العالم قاسٍ، ولم يحنُ علينا بشيء، فكنا نحن عزاء بعضنا في تلك الدنيا، لكنني أبقيت هذا الحضن حبيس خيالي، تماماً كما أبقيت أفكاري وآرائي، وتماماً كما أبقيت سخطي واعتراضي. كلهم "مساجين" يتشاركون عنبراً واحداً.
وإن كنت عزيزي القارئ تظن أنني أبالغ، فلنأخذ جولةً في ما قد يحدث إذا قررت أيادينا أن تتشابك عصر يوم مكتظ في شارع حيوي. ستكون البداية ببعض نظرات الاستهجان والاحتقار من بعض المارة، وقد يهمهم البعض بعبارات استغفار، فأنت تعلم يا عزيزي أننا "شعب متدين بطبعه"، ثم تنهمر عليك بعض عبارات التحرش من مختلف الشباب ولن تجرؤ على الاعتراض، لأنك لو فكرت في أن تتوقف مدافعاً عن حقك، فلن يقف في صفك أحد وستكون أنت المُلام.
وختاماً، لا تتعجب إذا استوقفك أحدهم يسألك عن طبيعة علاقتكما، ويحاول أن يربّيك ويوجهك مستنكراً عليك فعلتك الآثمة، ومحاولاً ردّك إلى طريق الصواب.
ولكن إذا أعدت قراءة المشهد، وحاول هذه المرة أن تنظر نظرةً أعم وأشمل إلى الشارع، فستسمع في المؤخرة بعضاً من السباب وسبّ الأديان، فقد سبق أن أخبرتك يا عزيزي أننا شعبٌ "متدين بطبعه"، وستجد من اللقطات المشتركة عملية التحرش نفسها تحدث لفتاة على الجهة المقابلة من الشارع في الأغلب، يمارسها أبناء الشعب "المتدين بطبعه"، فشوارعنا لا تخلو من التحرش. قد تخلو شوارعنا من إشارات المرور، وبلّاعات الصرف، وأعمدة الإنارة، ولكنها لا تخلو من التحرش. ثمة مشاهد أخرى مختلفة أيضاً تريك تصرفات شعبنا، المتدين بطبعه.
وستجد عيناً ترقبك وتنظر إليك، وهذا ليس غريباً، ولكن الغريب أنها ليست نظرات احتقار بل نظرات تطلّع وإعجاب، وربما شيء من الحسد.
وإن كنت عزيزي القارئ تظن أنني أبالغ، فلنأخذ جولةً في ما قد يحدث إذا قررت أيادينا أن تتشابك عصر يوم مكتظ في شارع حيوي
إنهما حبيبان تمنيا لو كانا بهذا القدر من الشجاعة ليلقدانا ويمسكا بأيدي بعضهم البعض، ولكنهما منهمكان بما فيه الكفاية، وخاضا حروباً كثيرةً، فقررا أن ينسحبا من تلك الحرب ويكتفيا بالمشي معاً، حتى يجدا مكاناً متوارياً عن الأنظار، فتعود يدها إلى مكانها الأصلي في يده، ولكن ما لا يعلمانه أنني منهك أكثر منهما، وأضعف من أن أخوض حرباً كتلك، وأن كل هذا يدور في مخيلتي ليس أكثر.
وختاماً عزيزي القارئ، أنا لا أدعو إلى الفسق أو الفجور، فأنا لست بفاحش، ولست بقوّاد، ولا أطلب سوى قليل من الحرية، والمساحة، وأطلب حق التنفس، وحق عدم الحكم، وأطلب منك وأنا أتوسم فيك أنك "متدين بطبعك"، أن تدع الخلق للخالق، وأعلم يا عزيزي أن خلف تلك الوجوه اليافعة، شيوخاً أنهكها التفكير، والتخطيط، والصراعات، وعقولاً تائهةً أَضلّها التوتر والقلق، فكن رحيماً بهم بعض الشيء، واتركهما يواسيان بعضهما بالطريقة التي اختاراها والتي تناسبهما، فإننا نحيا بلحظات الحب القليلة تلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...