التعامل مع سمنة الأطفال مؤلم للأهل، ولعله أكثر إيلاماً لهم مما هو لأطفالهم، كل الآباء والأمهات الذين يعانون من هذه المشكلة يعلمون ذلك، ويرزحون تحت العبء النفسي الذي يضطرهم إلى حرمان صغارهم مما يحصل عليه الأطفال بشكل بديهي، حلويات وتسالي وسكاكر.
إذا كان لديكم طفل في العائلة يعاني من هذه المشكلة، أو على وشك أن يصاب بها، فأول ما يجب أن تعرفوه كأهل أنكم لستم وحدكم، وأنكم لستم السبب بالضرورة، فالجينات متهمة، والمقصف المدرسي، وشركات الصناعات الغذائية، وأحياناً الثقافة العامة التي حولت الحب إلى سكر، فالأرقام حول سمنة الأطفال مخيفة ولا تجامل أحداً ولا تراعي مشاعر العائلة، والأهم أن الأبحاث الغذائية والتوصيات الصحية كلها تقف إلى جانبكم، وتقدم لكم ثقافة جديدة لمساعدتكم، كما سيتبين في هذا التقرير.
في الأردن مثلاً، وهي ليست الأسوأ من حيث معدلات سمنة الأطفال إذ تسبقها السعودية والكويت ومصر والإمارات عربياً، يشير إحصاء صحة الطلاب في المدارس إلى أن 3.6% من الأطفال من عمر 13 إلى 15 سنة يعانون من السمنة، وأن حوالي 13% منهم يواجهون خطر زيادة الوزن.
وبحسب ما ورد في تقرير اليونيسيف فانتشار الأمراض غير المعدية المتعلقة بأنماط الحياة تشكل اليوم عبئاً متزايداً وتخوفاً مهماً، من أسوأ هذه الأنماط استمرار استهلاك الملح والصوديوم والسكر والدهون غير الصحية.
ويشير التقرير إلى أن عدداً متزايداً من الأطفال والمراهقين يعانون من زيادة في الوزن قد تؤدي في تطور لاحق إلى مرض السكري من النوع الثاني، أو متلازمة التمثيل الغذائي المبكرة، أو أمراض الشرايين التاجية، الأمر الذي قد يشكل عبئاً مالياً على العائلات والحكومات في المستقبل نتيجة مصاريف العلاج، والأهم أن هذه التحذيرات يجب أن تمدنا بالقوة التي نحتاجها لقول "لا" للطفل وهو يطلب السكاكر، في لحظة ليست سارّة.
من السمن الحيواني إلى الزيوت المصنّعة
تشكلت عادات الطعام في المنطقة من التقاء الثقافتين الريفية والبدوية، فهي من ضرورات التجمع التي لا يُستغني عنها في المجتمع، وفي الأحزان كما في الأفراح يُقدم الطعام لمن حضر من الضيوف، ففكرة تقديم الطعام من الأفكار الراسخة كشكل الترحيب الوحيد اللائق.
لكن الصناعات الجديدة تركت أثرها السيء في إعداد الوصفات التقليدية للطعام؛ فانتشرت الزيوت المصنعة بديلاً عن السمن الحيواني الذي كانت تصعنه الجدات في البيوت، وانتشر الطعام السريع غير الصحي الذي قدّم كحل للأمهات العاملات، وتحول لوسيلة ترفيه أو مكافأة للأطفال، هذا بالإضافة إلى العادات القديمة التي تعتبر مهلكة للصحة، كاعتبار الخبز المصنوع من الدقيق الأبيض والأرز من أساسيات المائدة.
لا بد من التطرق إلى الثقافة التي تعتبر أن تقديم السكاكر والشيبس والتسالي المصنعة للأطفال يعتبر من الواجبات، وإلا فسوف يشعرون بالحرمان
لا بد من التساؤل هنا، متى نبدأ بزرع فكرة الحياة الصحية في عقول أطفالنا؟ ومراجعة الثقافة التي تعتبر أن تقديم السكاكر والشيبس والتسالي المصنعة للأطفال يعتبر من الواجبات، وإلا فسوف يشعرون بالحرمان. وهل نفكّر جيداً قبل إعطاء الطفل غذاءً غير مفيد، عما إذا كان هذا الطعام سيقدم لجسده ونموه شيئاً يذكر، وإن كان الجواب هو "لا"، فما الذي يدفعنا لذلك؟
هذا هو تأثير التعود دون مراجعة جدواه، وبالأخص التعود على خيارات غذائية معينة؛ لذا ينصح خبراء التغذية بالانتباه لما يتعود عليه الأطفال منذ نعومة أظافرهم، لبناء تأثيرات ثقافية أكثر وعياً وإدراكاً لاختياراتهم وتفضيلاتهم في الطعام.
تتحدث إيمان محمود (36 عاماً) لرصيف22 عن تجربتها مع إبنها (13عاماً) الذي بلغ وزنه 87 كغم، تقول: "وليد يحب الطعام مثله مثل أغلب الصبيان في عمره، في البداية كنت أفرح عندما أراه يأكل، وكان عندما يحزن من أحد أفراد العائلة أو من أصحابه آخذه إلى المطعم كي أراضيه، وعندما يحصل على علامات جيدة آخذه إلى الدكان ليشتري ما يتمناه، يوماً بعد يوم بدأت أشعر بوجود مشكلة مشاعرية لدى طفلي، فإما يشعر بكآبة مفرطة أو يهل عليه الفرح بجنون، وفي الحالتين يلجأ إلى الطعام بنهم و شراهة".
توجهت إيمان إلى أخصائية تغذية حين بدأ ابنها يميل إلى الوحدة في المدرسة بسبب صعوبة حركته وعدم قدرته على مجاراة الأطفال في اللعب. وهو الآن في بداية رحلة العلاج، تضيف: "حين أخبرتني أخصائية التغذية أن اللجوء إلى الطعام بهذا الشكل يعتبر نوعاً من أنواع الإدمان لم أصدق، ولكن آمنت بهذا الكلام حينما قطعت السكر عن المنزل ووجدت رد فعل أجسادنا و تعبنا".
أما قصي خالد (18 عاماً) فيتحدث لرصيف22، ويقول:" مررت بتجربة السمنة وأنا طفل، ومنذ سنة بدأت بتغيير طريقة تفكيري وممارسة الرياضة، وتوقفت عن كل الأطعمة غير الصحية ما عدا الشيبس، لا أستطيع التوقف عنه لأنني أتناوله يومياً في المدرسة منذ 12 عاماً".
تأثير مجتمع الطفل على سلوكه تجاه الطعام
تشير أختصاصية التغذية والرعاية التلطيفية أسماء جبري لرصيف22 بأن سمنة الأطفال أصبحت شائعة، وتشدّد على أهمية دور الأم و الأب في هذا السياق، فتقول:"حين تطبخ الأم الأصناف المتنوعة الصحيّة وتحبب أطفالها بها وتشرح لهم قيمتها، وتتحدث عن ألوانها ورائحتها فهي تبني في دواخلهم الحب تجاه الغذاء الصحي، ولو درسنا الموضوع أكثر سنجد أن غذاء الأم الحامل سبب في السمنة لدى طفلها، وغذاء المرضع قد يكون سبباً في سمنة طفلها، وحبها للطعام غير الصحي والوجبات السريعة قد يخلق شهية عاطفية لدى أفراد الأسرة نحو نفس الأصناف وبنفس الطريقة، كذلك الأب في تعامله مع السكاكر كمكافآت لدى عودته إلى المنزل".
مع الصناعات الجديدة انتشرت الزيوت المصنعة بديلاً عن السمن الحيواني، والطعام السريع كحل للأمهات العاملات، إضافة إلى العادات القديمة السيئة، كاعتبار خبز الدقيق الأبيض والأرز من أساسيات المائدة
وتضيف: "يستطيع البشر تغيير تأثير جيناتهم في حال غيروا أنماط حياتهم وغذائهم، إذ تؤكد دراسة أجريت على توائم متطابقة من حملة نفس الجينات، عاشا في مكانين منفصلين وفي أنماط حياة مختلفة، أن الأخ التوأم الذي عاش نمط حياة أفضل وأخذ الغذاء الصحي صار جسده مقاوماً للأمراض، بينما الأخ الذي عاش في نمط حياة سيء يعتمد على الغذاء غير الصحي أصيب بالأمراض أكثر من أخيه، والدراسة للاستدلال على أن الأمراض ليست بأمر جيني بحت".
دور المؤسسة التعليمية
تؤكّد رئيسة قسم التغذية والمطبخ في مستشفى الكندي مريم المقيّد لرصيف22 أن دور وزارة التربية والتعليم في الأردن ومعظم البلاد العربية غير مفعّل أو متحقق في السيطرة على مشكلة السمنة لدى الأطفال. كما لا تخفي استياءها من وجود المقاصف التجارية في المدارس، والتي تَعتبر الربح هدفها الرئيسي دون الاكتراث بالتغذية الصحية.
ترى المقيّد بأن على وزارة التربية تطبيق تعليمات المقصف المدرسي وتعديلاتها رقم 5 لسنة 2001 المادة رقم 4 التي وردت فيها 7 غايات لإنشاء المقصف إحداها؛ توفير الحاجات الأساسية اللازمة للطلبة بأسعار معتدلة ونوعيات جيدة ونظيفة، وذلك عن طريق "إجبار المقاصف على توفير مواد غذائية صحية فقط، والامتناع عن بيع الشيبس والسكاكر الضارة"، على حد تعبيرها.
لمساعدة أطفالنا يجب إجبار المقاصف المدرسية أن توفّر مواداً غذائية صحية فقط، والامتناع عن بيع الشيبس والسكاكر الضارة
وتقترح "توظيف أخصائية تغذية كخطة أولية لكل مدرسة للإشراف على نمو الأطفال وتوفير النصيحة لهم، حيث يُظهر استعراض حديث للأدبيات المتعلقة بمعرفة التغذية والأنظمة الغذائية أن الأفراد الذين لديهم فهم أفضل للمعلومات الغذائية، عادة ما يكون لديهم أنظمة غذائية صحية أكثر من غيرهم".
أحمر برتقالي أخضر
يقول المقرر الخاص المعني بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية الصادر عن مجلس حقوق الإنسان بفقرة الإعلام والتوعية؛ "ينبغي للدول، كخطوة أولى نحو الإعمال التدريجي للحق في الصحة، صياغة مبادئ توجيهية خاصة بالغذاء والتغذية وتحديثها بانتظام من أجل وضع نظام غذائي صحي لمختلف الفئات، لا سيما الفئات الضعيفة مثل الأطفال والنساء والفئات المنخفضة الدخل".
وقد قدم المقرر بعض الحلول كتوسيم المنتجات الغذائية بعلامات تلائم المستهلك، ومن أمثلة ذلك ما أصدرته بعض الدول من إرشادات للمتاجر الكبرى وشركات الأغذية والمشروبات لاستخدام علامات توسيم تشبه إشارات المرور على مقدمة العبوات، مما ينشئ وعياً بخيارات الأغذية الأفضل للصحة ويؤثر في قرارات المستهلكين بالشراء تأثيراً إيجابياً.
حيث يوظف توسيم الأغذية بألوان الأحمر والبرتقالي والأخضر ليبين القيمة الغذائية للمنتج، منخفضة متوسطة أم مرتفعة، وبحسب المقرر فالأطفال معرَّضون بشكل خاص لمخاطر متزايدة للإصابة بأمراض غير معدية بعد بلوغهم مرحلة الكهولة نتيجة لاستهلاك أغذية غير صحية، فينبغي للدول أن تشرك المدارس في تعليم الأطفال بفوائد الأغذية الصحية بأسلوب يروق لهم.
كما وتشير دراسات صادرة عن المكتبة الوطنية للطب في الولايات المتحدة عن وجود علاقة سببية قوية بين تقليل التعرض للإعلانات الغذائية وخيارات الطعام لدى الأطفال.
إشارة مرور للأغذية
أعلنت الجمعية الملكية للتوعية الصحية في 7 تموز/يوليو 2022 عن طرح حملة "السمنة لدى الأطفال" تهدف إلى إلقاء الضوء على السمنة كعامل خطر رئيسي لجميع الأمراض غير المعدية، ودعم السلوكيات الصحية الرئيسية التي يجب على الأسرة الأردنية تبنيها لإدارة الوزن الصحي. وتؤكد على دور وزارة الصحة في الوقاية من الأمراض غير المعدية مثل السكري، من خلال زيادة الوعي وتعزيز الأكل الصحي والنشاط البدني.
بعض الدول تجبر شركات الأغذية والمشروبات أن تستخدم علامات توسيم تشبه إشارات المرور على مقدمة العبوات، بألوان الأحمر والبرتقالي والأخضر ليبين الوسم القيمة الغذائية للمنتج، منخفضة متوسطة أم مرتفعة
مشاريع كهذه من الممكن أن تصنع فارقاً ولكن ما إذا استمرت لسنوات بما يكفي لتترك أثرها عاماً بعد عام على الأطفال بشكل خاص
يقول الحارث بن كلدة الملقب بطبيب العرب "المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء"، ويبقى السؤال متى ستأخذ وزارة التربية والتعليم مرض السمنة لدى الأطفال وانتشاره الواسع على محمل الجد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...