بعد مرور تسعة عشر شهراً على معركة ميسلون الشهيرة عام 1920، في سوريا، عادت الحياة السياسية إلى البلاد، وذلك عندما أوشكت التهدئة على الاكتمال بحلول خريف العام 1921، حين شعر الانتداب الفرنسي بما يكفي من الطمأنينة ليمنح عفواً لعددٍ لا بأس به من القيادات السورية المنفية، أو المسجونة، وعلى رأسها شخص عبد الرحمن الشهبندر الذي عاد إلى دمشق بعد نفيٍ سابق.
يحظى الشهبندر، مؤسس حزب الشعب، أول حزب سوري في التاريخ بعد الانتداب، وخريج الجامعة الأمريكية في بيروت، المولود عام 1879 في دمشق، برصيد جيد من الإسهامات الوطنية، ولعلّه من الشخصيات السورية المؤثرة التي نجحت في تشكيل حاضنة شعبية كبيرة خلال مدّة قصيرة، كسبها إبان مشاركته في بناء المملكة السورية.
كان السوريون يطلقون عليه لقب "أبو الحرية"، أو "الزعيم"، في إشارةٍ إلى حجم التضحيات التي قام بها، وربما على رأسها أنّه مارس عملاً سياسياً بصفته وزير خارجية المملكة في الحكومة التي ترأسها هاشم الأتاسي في أيار/ مايو 1920، لمدة 82 يوماً، فضلاً عن مساهماته في أول دستور في تاريخ سوريا في العام نفسه، والذي يُعدّ ديمقراطياً إلى حدٍ بعيد في تلك الفترة، كما يعُرف بأنّه من الشخصيات المهمة والتي تحمل فكراً تنويرياً بعيداً عن المناطقية والعشائرية والطائفية.
كان السوريون يطلقون عل الشهبندر لقب "أبو الحرية"، أو "الزعيم"، في إشارةٍ إلى حجم التضحيات التي قام بها
جمعيات سرّية ما قبل الحزب
أدت عودة القيادات الوطنية إلى سوريا بعد النفي الفرنسي، إلى إعادة تموضعهم من جديد ضمن خريطة الانتداب الفرنسي، فلجأوا إلى العمل السري استكمالاً للنضال، نظراً إلى منعهم من تنظيم الجمعيات السياسية، بناءً على الأحكام العرفية، فأسسوا "جمعية القبضة الحديدة"، وكان الشهبندر أبرز ملهميها وروّادها.
لعبت القبضة دوراً مهماً في مقارعة الفرنسيين، فالتزمت ببناء الثقة مع الحوامل الاجتماعية عبر تأسيس شبكة من العلاقات باتصالات مع التجار والأعيان والطلبة، وبعد نجاحٍ نسبي واستجابة شعبية، دخلت في سجال مباشر مع الانتداب، فبدأت الشرارة من الزيارة الثانية التي قام بها الدبلوماسي الأمريكي تشارلز كرين، في 5 نيسان/ أبريل 1922، حينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدعم "حق تقرير المصير"، فلفتت الزيارة أنظار الانتداب.
استغلت القبضة وجود الدبلوماسي الأمريكي، من الناحية الأمنية، لتحشد الناس في تظاهرة حاشدة، فكانت أول إفشاء عن نفسها وأول تحدٍ لها لتُبرز قدرتها على التعبئة الجماهيرية، وذلك بعد زيارات قام بها للمثقفين السوريين، كما لفت الشهبندر أنظار الحشود بجملته الشهيرة والملهمة: "يحيا الشعب الذي ما دخله القنوط وما خامره الريب"، مما تسبب في اعتقاله بعد نهاية الزيارة مع عددٍ من أعضاء القبضة، الذين حُكم عليهم بالسجن عشرين عاماً في جزيرة أرواد السورية. ولم يكن شأن الجمعيات السرّية الأخرى أقلّ من القبضة، ففي حلب تأسست "جمعية الكف الأحمر"، بقيادة سعد الله الجابري، والتي بدورها مارست دوراً مكمّلاً للقبضة.
نجاح تجربة الجمعيات السرية، أدى إلى وضعها في احتكاكٍ مباشر مع الانتداب ومن ثم اعتقال قياداتها والمنتسبين إليها، وعلى رأسهم الشهبندر، ما دفع الناس إلى تنظيم إضراب شاملٍ عاشته دمشق، ومظاهرات عارمة جابت شوارعها في 10 نيسان/ أبريل 1922. وكان من اللافت، قيادة زوجة الشهبندر سارة العبد، تظاهرةً نسائيةً كبيرةً ضمن حراكٍ نسائي واسع أطلقه "اتحاد المعلمات السوريات".
أدى توسع التظاهرات وانتقالها إلى المدن السورية الأخرى في حمص وحماه وحلب، بين 22 و30 نيسان/ أبريل من العام نفسه، وتبدّل السياسات الفرنسية عند نجاح القوى اليسارية التي جلبت "الجنرال سراي"، على حساب اليمينية، إلى رضوخ الفرنسيين للمطالب الشعبية، بالرغم من أن الاعتقالات أدت من حيث النتيجة إلى القضاء على تجربة الجمعيات السرية بعد تفكيكها بحملات أمنية شرسة.
مع ذلك، خلقت تلك التجربة حقبةً جديدةً في التاريخ السوري، وفتحت الأبواب نحو حياة حزبية-وطنية تتسم بالنضال أكثر من ممارسة العمل السياسي السرّي، ولفتت النظر إلى أدوات جديدة في مقارعة الانتداب مثل تأسيس الحركات السياسية السرّية قبل نضوجها لتصل بعد 3 أعوام إلى مرحلة تشكيل أول حزب في تاريخ الجمهورية.
الإعلان والإشهار
بعد انقطاعٍ عن الحياة السياسية-الاجتماعية دام 5 سنوات، منذ سقوط المؤتمر السوري "البرلمان"، عاد السوريون للاجتماع في دار الأوبرا في دمشق، للإعلان عن تشكيل أول حزب سياسي سوري في التاريخ بعد الانتداب: "حزب الشعب"، حيث احتشد ما يزيد عن ألف شخص، من خلفيات دينية وأيديولوجية ومناطقية وعشائرية مختلفة للاحتفاء بالحزب، الذي كان نتاج نضالٍ على مدار 5 سنوات، ويمكن عدّ تلك اللحظة إعلاناً صريحاً عن عودة السوريين إلى الحياة السياسية المنظمة بعد ولادة حزب سياسي يمثل إرادة الشعب السوري.
نجاح تجربة الجمعيات السرية، أدى إلى وضعها في احتكاكٍ مباشر مع الانتداب ومن ثم اعتقال قياداتها والمنتسبين إليها، وعلى رأسهم الشهبندر، ما دفع الناس إلى تنظيم إضراب شاملٍ عاشته دمشق، فكيف كانت نتائجه؟
بدأ فارس الخوري، نائب الرئيس، كلمته بالتأكيد على وحدة سوريا وحريتها وتنوعها، والدعوة إلى حكومة وطنية دستورية، وربما هذه الدعوة كانت شرارة انطلاق الثورة السورية الكبرى عام 1925، ولاحقاً أول بذرة لكتابة السوريين لدستورهم الأول (1928-1930) في الجمهورية.
بعد كلمة الخوري، ألقى رئيس الحزب عبد الرحمن الشهبندر، كلمته ووصف الحزب بأنّه عملٌ تحريري من الاحتلال والاستبداد، وعدّه أول جناح وطني انتظم لخدمة سوريا وختم بجملته الشهيرة: "إن الليالي حبالى والمستقبل حافل بأنواع الاحتمالات، فعلى الشعوب المظلومة التي تطلب الهواء الطلق والنور المشرق، أن تجعل لكيانها قيمةً في الميزان الدولي".
انضمت إلى الحزب معظم فئات المجتمع، ما عدا الطلبة السوريين، بعد حرمانهم من مزاولة أي عملٍ سياسي، وذلك بسبب التظاهرات الكبيرة التي قاموا بها خلال زيارة بلفور إلى دمشق عام 1925، مما أدى إلى إصدار مرسوم فرنسي يقضي بحرمانهم من النشاط السياسي، ما اضطرهم إلى الانضمام بشكل سرّي إلى الحزب، فشمل قيادات وطنيةً سوريةً من خلفيات دينية مختلفة، مثل لطفي الحفار، وفوزي الغزي، وسعيد حيدر، وجميل مردم وتوفيق شامية.
كما تكونت اللجنة المركزية للحزب من 12 شخصاً، منهم 5 أشخاص تلقّوا تعليمهم الجامعي في الجامعات الأوروبية، و3 في الجامعات التركية، وكانت له فروع في حمص وحماه وحلب واللاذقية، كما اعتمد على التبرعات أو تعويضات اشتراك الأعضاء ويُعدّ كل الأعضاء متطوعين برغبة وطنية ولا يتقاضون أي أجر.
لم يأتِ في خطاب الحزب أي توجهٍ ديني فيه تمييز لهوية معينة على حساب الأخرى، بل أكّد على نحو شديد على إصرار جميع الجماعات الدينية في سوريا على النضال لأجل الوحدة والاستقلال. كما جاء في التوجه التوكيد على أن الحريات الدينية ستكون مُصانةً، مع ذلك حظي الحزب بتأييدٍ من الجماعات الدينية في سوريا، من دون أن يعني ذلك الانسجام بين الجماعات الوطنية التي تدعو إلى دولة وطنية والدينية التي تدعو إلى دولة دينية.
في ذلك الوقت، دفع شعور تلك الجماعات بالحرمان إلى تأجيل خلافاتها الأيديولوجية، فكان الحزب أول تجمع منظم للبرجوازية السورية بعد الانتداب الفرنسي، ويمكن التمعن أكثر في توجهات الحزب من خلال الكتاب الذي أصدره الشهبندر، بعد 10 أعوام: "القضايا الاجتماعية الكبرى في الوطن العربي".
انضمت إلى حزب الشعب معظم فئات المجتمع، ما عدا الطلبة السوريين، بعد حرمانهم من مزاولة أي عملٍ سياسي
النضال والثورة
عند التأسيس، اعتمد الحزب على الوسائل القانونية لمواجهة الانتداب وفق ما نصّت عليه المادتان الأولى والثانية، فلم تكن الثورة المسلحة مدرجةً ضمن أدبياته، لكن مع الوقت أخذت النقمة الشعبية على الانتداب الفرنسي بعد تأسيس الحزب تنذر بالانفجار، فاجتمع كبار شخصياته تحضيراً للثورة في دمشق، وأخذ الشهبندر، بعد فقدان الأمل من إمكانية قيام الفرنسيين بإصلاح الحياة السياسية، يبحث عن اختلاق الأسباب لاندلاع الثورة، وعندما سمع بالاحتقان الشعبي في السويداء، نظّم محادثات سرّيةً مع وفدٍ من الجبل في بيته، ووعد بجمع القوى الوطنية في دمشق لتأييد الثورة ودعمها.
حقيقةً، عُرف الشهبندر بأنه يحمل توجهات سياسيةً متطرفةً ضد الاحتلال الخارجي، وذلك يمكن تتبعه منذ إبعاده المستمر خلال فترة المملكة السورية عن مزاولة أي عملٍ سياسي رسمي إبان المفاوضات الدولية خلال عهد الملك فيصل، وربطته علاقات مميزة مع الدروز في السويداء منذ الثورة العربية.
لذا، كان الشهبندر يجسد الوجه السياسي المتطرف، فأوقف بعد معركة "المزرعة" في السويداء التي انتصر فيها الثوار على حملة "الجنرال ميشو"، عقد الصلح أو التهدئة، بعد وعودٍ قدّمها باسم حزب الشعب بأن تنتقل الثورة إلى كل سوريا، وعلى إثره حدث اتفاق بين سلطان باشا الأطرش والشهبندر بتبنّي الثورة لمبادئ الحزب، مما سهّل ذوبان التناقضات الطبقية والدينية أمام الشعور الوطني.
وفي مطلع أيلول/ سبتمبر 1925، عُقد مؤتمر الثورة الأول في قرية ريمة حازم في السويداء، بحضور معظم القيادات الوطنية العسكرية والسياسية، فعُيّن السلطان قائداً عاماً للثورة السورية، والشهبندر رئيساً للحكومة الوطنية السورية، مما أدى إلى سحب الرخصة من الحزب، وحلّه بشكل رسمي، لينتقل إلى مستويات جديدة في العمل الوطني مسانداً للثورة، وتمت محاكمة رئيسه غيابياً في 27 آذار/ مارس 1926، وحُكم عليه بالإعدام شنقاً في ساحة المرجة في دمشق.
نهاية حقبة وبداية أخرى
بعد نجاح الفرنسيين في القضاء على الثورة عسكرياً، غادر الشهبندر البلاد واستقر في مصر منذ العام 1927، وبهذا انتقل مقر الحزب إلى مصر. ومع ذلك، يمكن القول إنَّ تجربة حزب الشعب انتهت بعد انصهار حزبي الشعب والاستقلال ضمن الكتلة الوطنية عام 1928.
بالرغم من ذلك، تابع الشهبندر العمل السياسي-الوطني من بعدٍ، ففي العام 1929، وجه بياناً من القاهرة إلى السوريين للتوحد ضد المطامع الاستعمارية، ودفع قيادات عدة من حزب الشعب للانشقاق عن الكتلة، وتأسيس "الجبهة الوطنية الموحدة"، ومعظمها من الشخصيات التي عارضت "الكتلة الوطنية" وسياساتها.
لاحقاً، في 17 نيسان/ أبريل 1937، أصدرت السلطات الفرنسية عفواً عن شخصيات عدة، كان من بينها الشهبندر، ليعود إلى سوريا ويلقى استقبالاً حافلاً عنونته الصحف بأنّه تاريخي، ووصفته صحيفة الأيام بالقول: "ما أعظم دمشق، في يومين ما سجل لها التاريخ في عمرها الطويل غيرهما؛ أولهما يوم استقبال الملك فيصل وثانيهما يوم استقبال الشهبندر الزعيم"، لتنتهي تجربة حزب الشعب رسمياً وتبدأ حقبة سياسية جديدة في تاريخ العمل السياسي السوري بقيادة الشهبندر.
لا يزال اغتيال الشهبندر محل تساؤلات حتى اليوم، فبالرغم من اعتراف منفذّ الجريمة بأنه قام بها لأسباب دينية، هناك من يُشير بأصابع الاتهام إلى "الكتلة الوطنية" أو الفرنسيين، فما حقيقة ما حصل؟
اتسمت الفترة الأخيرة من حياة الشهبندر السياسية، بمعارضة الكتلة الوطنية وما جاءت به، خاصةً "معاهدة الاستقلال"، وشكلت "الهيئة الشهبندرية" التي لعبت دوراً كبيراً في تعطيل أي توافقٍ سياسي مع الفرنسيين، منعطفاً مهماً في الحياة السياسية السورية عامةً، وفي حياة الشهبندر خاصةً، في ما يمكن عدّه من الأسباب غير المباشرة لتعرضه للاغتيال.
في 7 تموز/ يوليو 1940، قام أحمد عصاصة، باغتيال الشهبندر، وقد شيّعت جثمانه جموع غفيرة من السوريين، ورثته مجموعة من الأدباء والشعراء على رأسهم عمر أبو ريشة، وقد وُجّهت أصابع الاتهام إلى مجموعة من الشخصيات والهيئات السياسية، منها الكتلة الوطنية، ألدّ أعداء الشهبندر في السياسة، وخاصةً جميل مردم، وسعد الله الجابري، ولطفي الحفار، الذين غادروا سوريا قبل يومين من صدور الحكم.
أدت الجريمة إلى انقسام كبير في الأوساط الشعبية بين الشهبندريين والكتلويين، قبل أن يعترف عصاصة في المحكمة بقتله الشهبندر بدوافعٍ دينية، إذ اتهم الشهبندر بأنّه يحمل أفكاراً منحرفةً دينياً. وفي كانون الأول/ديسمبر، من العام نفسه، قرأ النائب العام المرافعة الثانية، مؤكداً أنّ دوافع الجريمة كانت نتيجة نظرة دينية متزمتة، وتمت تبرئة شخصيات الكتلة الوطنية.
مع ذلك، بقيت المشاحنات والتساؤلات مستمرةً في الشارع السوري إلى اليوم، وقد تناول أحد الكتّاب الأمريكيين القضية حسب ما نقل غالب العياشي، في كتابه "إيضاحات سياسية"، بقوله: "ثلاثة قتلهم الشرق: غاندي في الهند، الشهبندر في سوريا، وأنطوان سعادة في لبنان"، ليطوي التاريخ قصة أهم مناضلي سوريا، التي بدأها بتشكيل أول حزب في التاريخ بعد الانتداب، وانتهت بأكثر الاغتيالات إثارةً للجدل في تاريخ سوريا الحديث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع