شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
نحن أصحاب التفكير البطيء كثيرو الصمت

نحن أصحاب التفكير البطيء كثيرو الصمت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 2 ديسمبر 202212:58 م

ببساطة، أنا أفكر في الأشياء ببطء. هكذا خُلقتُ فوُلدت. لم أختر أسلوبي في التفكير كما لم أختر أسلوبي في الضحك وأسلوبي في البكاء. لكنّ المفارقة هي أنني لم أدرك ذلك في نفسي إلّا منذ سنوات قليلة ماضية (ربّما تأخّرت بإدراك ذلك لأنني أفكر ببطء أيضاً!).

يمكنكم تخيُّل صدمتي عندما اكتشفت صُدفةً أنني أعاني من (أو ربّما أتمتَّع بـ) بطء التفكير. كان اكتشافاً صادماً. ولا أقصد بالصدمة هنا أنني غضبت أو حزنت. صدمني تأخُّر فهمي لنفسي، تأخّرت عن فهمي لعقلي عشرين سنة فقط! لم يزعجني بطئي ولم يزعجني اكتشافي له. ما أزعجني حقيقةً هو أنني صرت واعياً بالموضوع، وبدأتُ أنتبه لتبعاتِ التفكير البطيء في سياقات مختلفة، أكثرها سوءاً هو السياق الاجتماعي.

التفاعل مع الناس يحتاج للسرعة ويحتاج لردّات فعل بديهيّة أحياناً، في حين يجد البطيؤون أنفسهم عقباتٍ أمام أيّ تفاعل اجتماعي، تعرفونهم أعزائي القراء من صمتهم أمام أيّ سؤال سريع. الصمت أقدس ما لدينا، نحن البطيئين، لأنّه يحمينا من إجابات سريعة ستبدو مثل تمتمات الأطفال قبل نموّ أسنانهم. لماذا تستطيعون انتظار أسنان الطفل سنيناً لتنمو ولينطق بكلماته الأولى، ولا تستطيعون انتظار أصحاب التفكير البطيء دقيقةً لتكوين أفكارهم قبل البدء بالكلام؟

إذا كان لا بدّ من استعمال مفردة الغباء في توصيف شخوص هؤلاء البطيئين -وأنا منهم- فمن الممكن الحديث عن الغباء التفاعلي-الاجتماعي. قد يكون بطيؤو التفكير عبئاً اجتماعيّاً لكنهم أناس عاديون فكريّاً، منهم الغبي، ومنهم العادي، ومنهم العبقري. نحن لنا بديهة، لكن بديهتنا تُعطَّل في أي سياق اجتماعي. أدمغتنا تقف عن العمل عند أي اتصال اجتماعي، تصبح الدقيقة بالنسبة لمخاطِبنا ألف سنة بالنسبة لنا. نفرك أيدينا، نغني في رؤوسنا لتسريع الوقت، وأحياناً لا يفيد الغناء، فنبكي في رؤوسنا أيضاً. هذا يتوقف على شخص المخاطَب وحالتنا الشعورية. الأغاني تتعدَّد أيضاً وأسبابنا إلى البكاء كذلك؛ قد نُدندن أغنية لصباح فخري أو لجورج وسوف. لا أعلم كيف يفكّر الناس العاديون، كيف يستطيع اثنان من الناس التواصل في نسق فكري واضح.

ببساطة، أنا أفكر في الأشياء ببطء. هكذا خُلقتُ فوُلدت، لم أختر أسلوبي في التفكير، كما لم أختر أسلوبي في الضحك وأسلوبي في البكاء

البطء بالتفكير جميل إذا كنتم تفكرون مع أنفسكم فقط، أما أن تفكروا مع آخرين أمامكم في سياق تواصلي اجتماعي يومي، فسوف ترون المشاكل والأزمات تنزل عليكم مثل المطر. أوّل ما أدركت أنني أفكر ببطء، كان في سياق قراءتي لنصّ أدبي؛ كان رواية لتوفيق الحكيم، "عصفور من الشرق"، وكانت الأستاذة المسؤولة عن تدريس المادة متمرِّسة في شرحها للرواية وتصويرها لأحداثها، وكانت قراءتي لـ"عصفور من الشرق" أُولى خطواتي في الانتقال من مشاهدة الدراما المصوَّرة على شاشات التلفاز إلى قراءتها على الورق.

القراءة (علاج) للتفكير البطيء إن كان التفكير البطيء مرضاً أو شللاً أو عيباً أو عاهة فكرية. والكتابة تتجاوز العلاج إلى الوقاية، عندما يكتب بطيؤو التفكير يؤجِّلون الساعات إلى زمن لا نهائي وجدران غير موجودة. معظم من يكتبون يقولون بأنّ الكتابة انتصار على الموت وتحقيق للخلود. أما الكتابة بالنسبة لنا فهي انتصار على الحاضر، لأنّ الموت بالنسبة لنا مؤجّل منذ البداية، وفكرته لن تصل إلينا إلّا بعد موتنا، لبطئنا نحن البطيئين. أما بخصوص حلم الخلود، فنحن نخلد في اللحظة الواحدة وفي الفكرة الواحدة كما تخلد فراشة في مكانها لسنة.

أن تفكّروا ببطء، لا يعني أنّكم لن تفهموا حديثاً اجتماعيّاً أو حواراً؛ أنتم ستفهمون كلّ كلمة، ولكن بعد الخروج من الحديث. قد تفهمون مقاصد المتكلّم بعد أسبوع أو شهر أو سنة. أنا أفهم أحياناً بعض الأحاديث والحوارات الاجتماعية بعد سنة، أستعيدها لا شعوريّاً، وتبدأ المعاني تتبدّل بخلاف فهمي الأول لها (أو بخلاف عدم فهمي ذاك)، وقد يتبدّل المعنى من النقيض إلى النقيض. اكتشفتُ مؤخّراً أنّي أنطلق في فهمي لكلام الآخر، أيّاً كان، من حالتي الشعورية لحظة الكلام، دون اعتبار فعليّ لمضامين الكلام الحقيقية، إلّا إذا كان الكلام شديد المباشرة والتصريح، كما هو الكلام في كتب علوم الأحياء في المناهج المدرسية.

أن تفكّر ببطء، لا يعني أنّك لن تفهم حديثًا اجتماعيًّا أو حوارًا، أنت ستفهم كلّ كلمة ولكن بعد الخروج من الحديث. قد تفهم مقاصد المتكلّم بعد أسبوع أو شهر أو سنة>

نحن البطيئين كثيرو الصمت، ودائمًاً ما نلاحظ على الآخرين دهشتهم من صمتنا وجمودنا. من يعرفني يعرف بطئي في التفكير، لكن أحدهم لم يصرِّح لي مرّة بهذا الشيء. ربـما لأنهم يعتقدون بأنّ البطء درجة من درجات الغباء، ولا فائدة من إبلاغي بفكرة غباوتي. يمكنهم أن يُهدوني قُبَّعة في يوم مشمس، لكنّهم لا يستطيعون إهدائي كيلو ذكاء وكيلو بديهة مثلاً.

لكن إذا لم يكن البطء في التفكير غباءً، فما هو الغباء إذًا؟ بصدق، أنا غير مهتم بالموضوع تماماً. إنْ كان البطء هو الغباء نفسه، فالغباء سمة إنسانية أيضاً، لا يُخرج الغباء صاحبه عن طبيعته الإنسانية، وهذا يكفيني ويفرحني.

لكن يبقى البطء مزعجاً في السياق الاجتماعي. هو مزعج جدّاً. لا يزعجني بطئي لحظة التواصل الاجتماعي، لأنني درَّبت نفسي على السرعة وعلى التسرُّع في ابتكار الفكرة (وإن كانت لا تمتّ للحديث بصلة) دون إعطاء نفسي فرصةً للتفكير. أراني في أي سياق حواري، أفكّر في ما أقوله أنا فقط، لأنني لا أستطيع أن أفكر في ما يُقال أمامي وفي ما سأقوله في الوقت نفسه. الموضوع يحتاج إلى وقت، وإنْ كان بإمكاني إبطاء عقارب ساعتي الشخصية، فلا يمكنني إبطاء ساعات الآخرين.

لم أكتب هذا النصّ إلّا بعد التفكير بفكرته، ومن ثمّ التفكير بالنصّ نفسه، ومن ثمّ التفكير بقراءتي له، ومن ثمّ التفكير المديد بعدم نشره وبنشره، لكن الأهمّ أنني فعلت كلَّ ذلك بسجيَّة سلحفاة وفرح أرنب وعين عصفور، وهذه حكمة الله في الأكوان

قد يبدو الموضوع سخيفاً للبعض، وقد يبدو سطحيّاً وساذجاً للكتابة، لكنّي أعرف أنّ "بطيئي التفكير" كُثُر في هذا العالم الرحب، وأعرف أنّهم سيقرؤون، وأعرف أنّهم سيفهمون معناي وأسبابي إلى الكتابة. باختصار، وأنادي هنا أصحاب البديهة والتفكير السريع: نحن البطيئين، أناس عاديّون، نفهم أيّ شيء، ونفهم كلّ شيء. سوى أنّ فهمنا للأشياء يكون مؤجَّلًا لكنّه حتميّ الحدوث، وإنْ بعد حين. مهما كان التفكير بطيئاً فبطء البطيء لا يُلغي حركيّته نحو الفكرة، بل يؤجِّل وصوله إليها، أملاً في أن يكون وصوله مكتملاً وناضجاً.

والله خلق الكون بستة أيام، والنبي محمد عليه السلام لم يُدرك أُولى كلمات الوحي إلّا بعد تكرارها لمرّات، وموسى كذلك لم يفهم عن الخضر إلّا بعد الموقف الثالث. وأنا أيضاً لم أكتب هذا النصّ إلّا بعد التفكير بفكرته، ومن ثمّ التفكير بالنصّ نفسه، ومن ثمّ التفكير بكتابته، ومن ثمّ التفكير بقراءتي له، ومن ثمّ التفكير المديد بعدم نشره وبنشرِه. لكن الأهمّ أنني فعلت كلَّ ذلك بسجيَّة سلحفاة وفرح أرنب وعين عصفور، وهذه حكمة الله في الأكوان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard