شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل المغربُ بلدٌ علمانيّ؟ …بلد

هل المغربُ بلدٌ علمانيّ؟ …بلد "هجين" في كلّ شيء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 30 نوفمبر 202203:12 م

"إن المغاربة لا يتخوفون من العلمانية كمفهوم أو توجه. [...] والتعامل مع النص الذي لا يحتمل جميعه الخضوع لمنطق ما هو فقهيٌّ ظاهري، يستوجب التركيز فقط على النصوص الربانية والتعبدية بالطريقة التقليدية، وتالياً التفريق بين العام والخاص، أي ما هو فردي كالتعبّد وما هو جماعي كالسياسة. [...] نصوص العبادات مختلفة عن نصوص المعاملات، لذلك لا يحكمهما منطق واحد".

يصبح هذا القول ذا قيمة وجدوى حين نعرف أنه صدر عن أبرز المفكرين الحداثيين المغاربة، عبد الله العروي. قال هذا الكلام عام 2017، في حوار له ضمن برنامج "حديث العرب"، على قناة سكاي نيوز عربية.

لكن هل العروي محقٌّ واقعياً في ما قاله بخصوص أنّ "المغاربة لا يتخوفون من العلمانية كمفهوم"؟ ولماذا ما زالت العلمانية تلقى رفضاً مجتمعيّاً في المغرب؟ وما حدود ضلوع "التزييف والمغالطات" وفق قوله، التي طوّقت مفهوم العلمانية في أذهان المغاربة بشكل عام، في هذا الرفض والاستهجان؟ وأساساً كيف يمكن تصويب الفهم المغربيّ تجاه العلمانية؟

مغربٌ... بعلمانيّة منقوصة؟

في تقدير الحقوقي عبد الواحد رشيدي، مسألة العلمانيّة في المغرب تتعلق بالتعثر الذي تعرفه عملية التحديث في البلاد. فمن الناحية السياسية، النموذج السياسي المغربي الذي نسمّيه "المخزن"، موروث عن القرون السالفة، ويجد صعوبةً في التخلص من تقاليده العتيقة وعلى رأسها نظام البيعة، لكي ينخرط في نظام دولة المؤسسات الحديثة المبنية على الليبرالية بما هي نظام علماني مبني على المصلحة، وليس على النصوص الدينية.

أمّا من الناحية الاجتماعية، فيبدو بالنسبة إلى رشيدي، أنّ المجتمع المغربي بدوره، ما زال غارقاً في تقاليد عتيقة، وثقافة لا تسمح بتمثل مفهوم العلمانية في معناه العادي؛ أي مساواة كل العقائد الدينية أمام الدولة. والبرجوازية المغربية، التي من المفترض أن تتبنى النظام العلماني، تجد نفسها عاجزةً أيضاً عن علمنة المجتمع، بسبب بنيتها الاجتماعية العشائرية من جهة، وبسبب عدم استقلاليتها عن الإدارة وارتكازها على الريع من جهة أخرى.

وهذا لا يعني، وفق ما يوضحه رشيدي لرصيف22، أنه ليست هناك علمانية تماماً في المجتمع. هناك نوع من العلمنة، بالرغم من تعثر عملية التحديث، سيما على المستوى الثقافي. "العلمانية عندنا مرهونة بمدى عملية تحديث الدولة والمجتمع. وبما أن الحداثة مفروضة علينا بسبب التزامات الدولة تجاه المنتظم الأممي، فإن العلمانية المرتبطة بها عضوياً، ستفرض نفسها عاجلاً أم آجلاً، بحسب وتيرة التحديث"، يقول.

مسألة العلمانيّة في المغرب تتعلق بالتعثر الذي تعرفه عملية التحديث في البلاد. فمن الناحية السياسية، النموذج السياسي المغربي الذي نسمّيه "المخزن"، موروث عن القرون السالفة، ويجد صعوبةً في التخلص من تقاليده

لكن، من وجهة نظره، يرى الحقوقي والباحث الجامعي خالد البكاري، أنّه يصعب القول إن المغرب بلدٌ علماني، كما يصعب القول إن المرجعية الدينية هي المتحكّمة في التشريع، فمن جهة نجد أن من بين أقوى الشّرعيات التي يستند إليها النظام الملكي، هي الشرعية الدينية، كون الملك أمير المؤمنين، وكونه حائزاً على بيعة لا تختلف من الناحية الشرعية عن بيعة الحاكم من طرف أهل الحل والعقد، كما هو مؤصل لها في الفقة والآداب السلطانيّين، كما أن بعض القوانين المنظّمة للأسرة أو العلاقات الخاصة بين الأفراد تنطلق من الأحكام الشرعية الفقهية.

البكاري، ضمن حديثه إلى رصيف22، لا ينكر وجود قوانين تحدّ من حرية المعتقد، كتجريم الإفطار العلني في رمضان، ومنع حقوق العبادة للمغاربة المسيحيين أو الشيعة، وهذا يكفي في حدّ ذاته للقول إن الدولة المغربية "غير علمانية"، لكن وفق رأيه، فإن الجزء الأكبر، في المقابل، من القوانين، باستثناء قانون "مدونة الأسرة"، هي قوانين وضعية ولا علاقة لها بالتشريع الديني، بل تتصادم معه. لذلك، يمكن القول "إن نظام الحكم في المغرب يتّسم بالهجانة، فلا هو علماني ولا ديني. هذا الوضع يسمح للمغرب بالتمتّع بنوع من المرونة التي تفيده بدورها في توظيف ورقتَي الحداثة والدين معاً، كلما احتاج إلى أحدهما"، يقول.

هكذا، فالملك الذي يقود "المشروع الحداثي الديموقراطي"، كما جاء في خطبه، هو نفسه الملك المؤتمن على تنزيل النصوص الشرعية عبر قولته: لن أحل ما حرّم الله ولن أحرم ما أحلّ الله.

لكن، للموضوعية، يجمل البكاري، بأن "انتقالاً سريعاً ومفاجئاً وقسرياً سيواجه مقاومات مجتمعيةً، خصوصاً في عصر نهوض خطابات الهوية والخصوصيات. وتالياً، فإن المطلوب هو التّفكير في صيغة للانتقال نحو الحداثة عبر مداخل منها تشييد تأويلات تنويرية للمتن الديني. لكن هنا، يبقى السؤال: هل تستطيع المؤسسة الملكية المغامرة بمثل هذا الرهان التنويري، وهي المستفيدة في بناء شرعيتها على تأويل تقليدي لمفاهيم البيعة، وأهل الحل والعقد، والطاعة واشتراط جنس "الذكر" دون الأنثى لوراثة العرش؟".

أيّ أفق للعَلمانيّة؟

لكي يصبح المغرب علمانياً، فإنّ ذلك يقتضي بشكل مفصليّ، "أن تصبح الدولة محايدةً تجاه مواطنيها. والدولة المحايدة، وفق ما فسّرها أستاذ القانون الدستوري في جامعة القاضي عياض بمراكش، عبد الرحيم العلام في مقال له، "لا تسعى إلى فرض دين معيّن أو مذهب محدّد على مواطنيها، وفي المقابل هي لا تسمح بأن يَفرض بعض المجتمع ديناً أو مذهباً على البعض الآخر بالإكراه أو المنع".

بمعنى أنها، حسب العلام، "ليست مفصولةً عن الدين، ولا هي ملتصقة به، وإنما هي في علاقة حُريّة به، لا هو يتدخّل في شؤونها من منطلق أنه دين، ولا هي تَحُول دون تحرّكه على مستوى الأشخاص وداخل المجتمع. فهذه الدولة لا يمكن أن تفرض لباساً أو طريقةً في الحياة على المواطنين أو تمنعهم من اختيار نمط حياتهم ما لم يساهم في الإخلال بالأمن العام والخاص. لكنها لا تسمح لجزء من المجتمع، بأن يفرض نوعاً من الحياة على المواطنين، أو يستغلّ مقدّرات الدّولة بما هي ملك مشترك بين سائر المواطنين، من أجل تسييد رؤيته للحياة أو فرض رقابته على المجتمع".

المطلوب هو التّفكير في صيغة للانتقال نحو الحداثة عبر مداخل منها تشييد تأويلات تنويرية للمتن الديني. لكن هنا، يبقى السؤال: هل تستطيع المؤسسة الملكية المغامرة بمثل هذا الرهان التنويري؟

ترى نعيمة الزياني، الباحثة في علم الاجتماع في جامعة ابن طفيل، أنّ "تسيُّد الإسلاميين للشأن العام شكّل نكسةً حقيقيةً للتفكير في علمنة المجتمع، وذلك لأنّ أفق العلمانية في المغرب يتطلّب أن يتصالح الفهم المغربيّ العام، ابتداءً، مع هذا المفهوم؛ ففي وقت لا زالت أفهام الناس فيه تعتقد بأنّ العلمانية تهمة أو سبّة، أو أنها تعني إلحاد الدولة، أو أن اللّائكية (Laïcité) الفرنسيّة، هي التنزيل الوحيد لمفهوم العلمانية، فإنّ المغاربة، خصوصاً التيارات المحافظة، سيعارضون علمنة الدولة بشدّة. لكن، في ظلّ هيمنة الخرافة والتفكير اليومي المحدود في علاقته بالحريات، فالعلمانية ليست ضرورةً فحسب، بل أيضاً مسألة حتمية في زمننا الراهن".

لا تتردد الزياني في حديثها إلى رصيف22، في القول إنه "على المغاربة أن يعرفوا أن العلمانيّة هي ما سيحمي خياراتهم في التديّن ويضمن حقوقهم في ممارسة عقائدهم، لكن كمواطنين عليهم أن يكفلوا، أيضاً، حقّ المختلفين معهم سياسياً وعقدياً في ممارسة حقوقهم الأخرى، بقوة القانون: حريّة الإرادة، وحرية الضمير، وحرية التصرف... إلخ. وحتى نصحّح، فمن الضروري الإشارة إلى أنّ معركة تصويب الفهم حول العلمانية تبرز كيف صار الدين في بعض الدول غير مفصول كلياً عن الحكم، كما هو الحال في إسبانيا وهولندا وبريطانيا... إلخ. لكن الدّولة في هذه البلدان تعدّ العلاقة مع المواطنين قائمةً على المصلحة المشتركة وعلى الحقوق والواجبات المدنية، وليس على الوصاية على خياراتهم الدينية أو أي شيء آخر".

لذلك، ترى الباحثة أنّ الواقع العمليّ للعلمانية في العالم، يوضح أنه ليس ثمّة نموذج واحد أو حصريّ للعلمانية يمكن أن يستلهمه المغرب، فكلّ بلد يستلهم الروح: فصل الديني عن الدنيوي، من دون المساس بحق الناس في التديّن كونهم مواطنين حصراً ولهم الحقّ الكامل في ممارسة حريتهم الشخصية ما دامت لا تتعارض مع الدولة. وهذا يجعل المغرب بلداً يمكن أن تنبت فيه علمانية تخصّ شروطه المجتمعية، شرط أن تحافظ على الأصل النظري للمفهوم: حماية الحريات وإبعاد المشترك الديني عن المجال السياسي".

يس ثمّة نموذج واحد أو حصريّ للعلمانية يمكن أن يستلهمه المغرب، فكلّ بلد يستلهم الروح: فصل الديني عن الدنيوي، من دون المساس بحق الناس في التديّن

من جهة أخرى، يرى لفيفٌ من الباحثين والعلمانيين المغاربة أنه "من الممكن علمنة الحياة العامة، مع الاحتفاظ بالدين كمرجعية تقوم عليها مشروعية السلطة المركزية التي يحتكرها الملك، كونه أميناً للمؤمنين. فالملك محمد السادس قال مرّةً 'إنه أمير للمؤمنين في كلّ الأديان'. غير أن هذا التّصريح يحتاج، فقط، إلى تنزيله عبر إعادة النظر في الإعلان على أنّ الإسلام دين الدولة في الدستور المغربي، وكذلك حذف مادة التربية الإسلامية وتعويضها بمادة التربية الدينية للكشف عن تعدد الروافد الدينية الموجودة في المغرب ".

وأخيراً، تبدو العلمانية شرطاً أساسياً ضمن الحمض النوويّ لمفهوم الديمقراطيّة؛ حتى أنّ المفكر المغربي الرّاحل محمد عابد الجابري، دعا إلى تسمية العلمانية بالديمقراطية في سياق تلقّينا للمفهوم محليّاً. لكن. هل يمكننا الحديث عن "عَلَمَانِيَّة مغربية" في ظلّ "انتقال ديمقراطي" منشود منذ أكثر من عقدين... ولم يكتمل أصلاً؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image