شهدت فرنسا جدلاً واسعاً انخرطت فيه جهات إسلامية عدة على خلفية خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول "تأزم الإسلام"، وتعزّز الجدل مع تصريحه بأن "العلمانية لم تقتل أحداً"، وهو ما يستوجب نقاشاً معرفياً يُفرّق بين العلمانية (SECULARISM) والعلمانية في نموذجها الفرنسي (LAÏCITÉ) التي يصعب تجنيبها تاريخ الدماء الذي واكب تأسيسها.
هذا ما يؤكده طرح أحد مناصري العلمانية الفرنسية مارسيل غوشي (Marcel Gauchet) في كتابه "الدين في الديمقراطية: طريق العلمانية" (La religion dans la démocratie: Parcours de la laïcité)، وتاريخ الدماء الذي رافق تمددها الإمبريالي خاصة في الجزائر، وهو ما نلمسه كذلك في كتاب مثل "بالسيف والمحراث فرنسا وفتح الجزائر" (SWORD AND PLOW France and the Conquest of Algeria) لصاحبته جينيفر إي سيزينس (JENNIFER E. SESSIONS).
لكن الحديث هنا سيكتفي بالتطرق إلى الواقع المعاصر، وتحديداً إلى وتيرة إنتاج السلاح من طرف فرنسا وبيعه لبلدان في الشرق الأوسط توظفه في حروب وُصفت بمجافاتها للإنسانية.
إنتاج السلاح ووتيرة بيعه
إلى حدود عام 2019، كان أكبر مصدري الأسلحة في السنوات الخمس الماضية هم على التوالي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا والصين. هذا ما أظهره التقرير الذي نشره معهد "استوكهولم الدولي لأبحاث السلام" (SIPRI) للفترة بين عامي 2015 و2019، كاشفاً أن دول الشرق الأوسط هي الأكثر إنفاقاً على السلاح، وأن المملكة العربية السعودية هي أكبر مستورد لها في جميع أنحاء العالم.
بحسب التقرير نفسه، فإن الدول الأوروبية استحوذت على أكثر من ربع تجارة الأسلحة العالمية، حيث زادت تجارة الأسلحة الفرنسية بنسبة تُقدّر بـ72 في المئة بين عامي 2015 و 2019، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة، وهو ما يمثل 7.9 في المئة من تجارة الأسلحة العالمية.
وخلال هذه السنوات، سلّمت فرنسا أسلحة إلى 75 دولة، وزادت صادراتها إلى الشرق الأوسط بنسبة 363 في المائة.
حسب آخر تقرير قدمته وزارة القوات المسلحة الفرنسية إلى البرلمان الفرنسي، فإن فرنسا قامت بتصدير أسلحة بقيمة 8.33 مليار يورو (9.3 مليار دولار) عام 2019، وهو ما شهد انخفاضاً بنسبة 8.7 في المئة مقارنة بعام 2018 الذي بلغت قيمة مبيعات السلاح خلاله 9.1 مليار يورو.
وفي العام الحالي، تأثرت مبيعات السلاح بتداعيات انتشار فيروس كورونا، رغم أن وتيرة التصدير لا تزال عالية جداً. وكانت وزيرة القوات المسلحة فلورنس بارلي (Florence Parly) قد قالت حول التقرير الذي نُشر في 2 حزيران/ يونيو للبرلمان الفرنسي إن "الوباء الذي نمر به يفاقم التحديات القائمة وعلينا أن نضمن أن الصدمة الاقتصادية التي يمر بها العالم لا تضر بشدة بقدراتنا الصناعية والتكنولوجية الدفاعية".
صفقات السلاح الفرنسي في الشرق الأوسط
حسب التقرير المقدم للبرلمان الفرنسي، فإن الصفقتين الكبيرتين اللتين أبرمتهما فرنسا العام الماضي، هما طرادات "جويند" للإمارات العربية المتحدة من سعة 2700 طن، تم بناؤها في لوريان من قبل "مجموعة نافال".
وبحسب "Intelligence Online"، فإن الصفقة تم توقيعها في 25 آذار/ مارس 2020، وتقدر بنحو 750 مليون يورو، على أن تجهز هذه السفن بنظام إدارة القتال (Naval Group SETIS CMS)، وتسليحها بالصواريخ الأمريكية المضادة للطائرات الموجهة بالرادار (ESSM) من "Raytheon" وبصاروخ "Exocet" من "MBDA".
كما تسعى شركة بناء السفن الحربية الفرنسية "Naval Group" إلى بيع طرادين من طراز "جويند" إلى مصر أيضاً، لإضافتهما إلى الأسطول المكون من أربع قطع من السفن الحربية الفرنسية الخفيفة.
كما أن مبيعات الأسلحة الفرنسية للسعودية ارتفعت بنسبة 50 في المئة عام 2018، رغم دعوة الحكومة لإنهاء "حربها" في اليمن.
باعت فرنسا ما قيمته مليار يورو من الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، عام 2018، وأهم القطع التي تم بيعها هي زوارق الدورية.
وحسب وكالة "رويترز"، تم استعمال هذه القطع في الحصار البحري الجزئي على الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون، وهو أحد التكتيكات التي يستخدمها التحالف بقيادة السعودية في اليمن والتي يتم انتقادها بفعل ما سببته من أزمات إنسانية.
زادت تجارة الأسلحة الفرنسية بنسبة تُقدّر بـ72 في المئة بين عامي 2015 و 2019، وهو ما يمثل 7.9 في المئة من تجارة الأسلحة العالمية... خلال هذه السنوات، سلّمت فرنسا أسلحة إلى 75 دولة، وزادت صادراتها إلى الشرق الأوسط بنسبة 363 في المئة
سعت باريس إلى زيادة وزنها الدبلوماسي في الشرق الأوسط من خلال بيع سفن حربية ودبابات ومدفعية وذخائر للإمارات والسعودية ومصر.
زادت صادرات الأسلحة الفرنسية إلى الشرق الأوسط بنحو 4 مليارات يورو عام 2019، مقابل 3.9 مليار عام 2018. وجاء الجزء الأكبر من هذه المبيعات لقطر التي طلبت طائرات مقاتلة وطائرات هليكوبتر من طراز "رافال".
وتجدر الإشارة إلى أن قيمة المعدات التي تم تسليمها لدول عربية عام 2019 (وهي ما يختلف عن قيمة الصفقات لنفس السنة بحكم أن تسليم المعدات يأخذ وقتاً حسب طبيعة الاتفاق) تبلغ 3 مليارات و330 مليون يورو لقطر، أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية فالرقم وصل لما يقارب المليار و380 مليون يورو، وفي مصر قارب الرقم المليار وثلاثين مليون يورو، وبالنسبة للإمارات كان قرابة 300 مليون يورو.
وجاء التقرير ليؤكد صدارة عربية بين العملاء الرئيسيين لفرنسا، وذلك خلال الفترة الممتدة بين 2010 و2019، فأتت قطر في المرتبة الثانية، والسعودية في المرتبة الثالثة، ومصر في المرتبة الرابعة، والإمارات في المرتبة الخامسة، والكويت في المرتبة التاسعة، أما المغرب فجاء عكس المتوقع في المرتبة العشرين ليتذيل قائمة أكثر عشرين دولة تستورد السلاح من فرنسا خلال العقد الأخير.
ولكن السؤال المطروح هنا، أين يذهب هذا السلاح الذي يُبعث من فرنسا؟ وهل السلاح الفرنسي متورط في حروب الشرق الأوسط مثل حرب اليمن ونزاع ليبيا واشتباكات مصر؟
السلاح الفرنسي يغذي حروب الشرق
اليمن
قام موقع "Disclose" بتحقيق أكد من خلاله بالوثائق والصور ومقاطع الفيديو ثبوت تورط السلاح الفرنسي في حرب اليمن.
هذا التحقيق المثير للجدل دفع المدعي العام في باريس، في كانون الأول/ ديسمبر 2018، لفتح تحقيق ضد الصحافيين الذين اشتغلوا على التقرير، وذلك بعد دعوى من وزارة القوات المسلحة بتهمة إفشاء أسرار الدفاع الوطني.
من بين الوثائق المسربة التي كشف عنها التحقيق مذكرة "دفاع سري" تشي بأن السلطة التنفيذية الفرنسية كانت تعلم بأمر استخدام سلاحها من قبل قوات التحالف في حربها في اليمن.
هذه المذكرة المسربة تم إرسالها إلى ماكرون خلال اجتماع مجلس الدفاع في الإليزيه، بتاريخ 3 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2018، بحضور وزير القوات المسلحة فلورنس بارلي، ورئيس الوزراء إدوارد فيليب (Édouard Philippe)، ووزير الدولة لأوروبا والشؤون الخارجية جان إيف لودريان (Jean-Yves Le Drian).
وفق تصريح للسلطات الفرنسية، فإن مدافع قيصر التي باعتها فرنسا للسعودية تستخدم فقط في الدفاع، لكن الوثيقة المسربة تشير إلى عكس ذلك.
في الصفحة الرابعة من الوثيقة، كتبت مديرية المخابرات العسكرية أن المدافع الفرنسية "تدعم القوات الموالية التي تقودها القوات المسلحة السعودية داخل الأراضي اليمنية"، وذلك بدعم 48 مدفعاً فرنسياً من نوع "قيصر" موضوعة على الحدود بين اليمن والسعودية.
وتورد وثيقة الدفاع المسربة تفاصيل خطر وقوع إصابات في صفوف المدنيين بفعل القصف المدفعي، وهو ما يُهدد حياة أكثر من 400 ألف شخص.
حسب توثيق فريق "Disclose"، فإن عدداً كبيراً من القصف المدفعي في مناطق التي تتمركز فيها مدافع "قيصر"، منذ آذار/ مارس 2016 إلى كانون الأول/ ديسمبر 2018، أسفرت عن مقتل 35 مدنياً.
وفقاً للاستخبارات العسكرية، تمت تعبئة 70 دبابة "Leclerc" القتالية في الصراع، كما أن الجيش الإماراتي حشد حوالي 40 وحدة منها، في المخا والكواخة، وهما قاعدتين عسكريتين على الساحل الغربي لليمن.
كما التقط التحقيق صوراً للخطوط الأمامية، ثم تم التحقق منها عبر صور الأقمار الصناعية فأكدت مشاركة "Leclerc" في العديد من هجمات التحالف الرئيسية، ويمكن من خلالها ملاحظة مسارات الدبابات باتجاه الشمال، مروراً ببلدة الخوخة ومدينة زبيد القديمة، كانت تتقدم في اتجاه الحديدة. هذه المدينة الساحلية التي يسيطر عليها المتمردون منذ عام 2014 هي البوابة الرئيسية للضروريات الأساسية مثل القمح والأرز والسكر، وأحد الأهداف العسكرية ذات الأولوية للتحالف.
على عكس ما تدعي بارلي، فإن دبابات لوكليرك (leclerc) تشارك في حرب اليمن، ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2018، انطلقت الدبابات الفرنسية في اتجاه الحديدة، وهو ما تم التأكد منه من صور الأقمار الصناعية وفيديو التقطه أحد المدنيين.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، كانت الدبابات الفرنسية في قلب معركة الحديدة التي أودت بحياة 55 مدنياً، وهو ما أثبته مقطع فيديو صوره الجيش اليمني الداعم للتحالف.
قيمة المعدات الفرنسية التي تم تسليمها لدول عربية لعام 2019 تبلغ 3 مليارات و330 مليون يورو لقطر، أما بالنسبة للسعودية فالرقم وصل لما يقارب المليار و380 مليون يورو، وفي مصر قارب المليار وثلاثين مليون يورو، وبالنسبة للإمارات كان قرابة 300 مليون يورو
كما أن أعنف هجمات التحالف تأتي من الجو، وهو ما لم يخل من انخراط السلاح الفرنسي، فالمعدات الجوية الأخرى التي صدرتها فرنسا متورطة بشكل مباشر في الحرب، حيث أن مروحية من طراز كوغار (Cougar) وكذلك طائرة "إيرباص" (A330MRTT) المتواجدة في قاعدة جدة توظفان لنقل المحاربين لليمن.
منذ ربيع عام 2015، قامت سفن التحالف الحربية بمنع الوصول البحري إلى ميناء الحديدة. وتقوم السفن السعودية والإماراتية رسمياً بفرض حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على الحوثيين من خلال تفتيش الشحنات المشبوهة، لكنها في الواقع تمنع استيراد الغذاء والوقود والأدوية التي من المتوقع أن تزود أكثر من 20 مليون يمني باحتياجاتهم الأساسية.
هذا الواقع أشار إليه تقرير صادر عن "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" (UNHCR)، نُشر في آب/ أغسطس 2018 ويشير لتواجد سفينتين فرنسيتين "تشاركان في الحصار البحري" الذي يُجوّع مليون يمني.
وفي إطار تكثيف مساعي وقف تصدير الأسلحة للسعودية، نفت وزيرة القوات المسلحة في 30 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2018، على قناة "BFM" التلفزيونية، وجود أي تفاوض.
في المقابل، أكدت الوثيقة المسربة من "Disclose" عن القوات المسلحة وجود مفاوضات فرنسية مع المملكة العربية السعودية حول عقد يستمر حتى عام 2023.
في تقرير نشرته "هيومن رايتس ووتش" (Human Rights Watch) حول تداعيات تسليح فرنسا لدول منخرطة في حروب في منطقة الشرق الأوسط، أوضحت أن الأرقام في التقرير المقدم لبرلمان الفرنسي تظهر وجود تناقضات عميقة في الدبلوماسية الفرنسية، بين حماية حقوق الإنسان والمساهمة في جرائم حرب بفضل سلاحها.
مصر
في مصر، وثقت "هيومن رايتس ووتش" الانتهاكات الجسيمة وجرائم الحرب التي ارتكبها الجيش المصري أثناء العمليات في شمال سيناء.
علاوة على ذلك، أبلغت "منظمة العفو الدولية" عن استخدام معدات فرنسية في القمع الدموي للتظاهرات من قبل قوات الأمن المصرية في السنوات الأخيرة، والتي عانت فيها مصر من أسوأ حملة قمع ضد حقوق الإنسان منذ عقود.
حسب تقرير "العفو الدولية"، فإن وزارة الداخلية قامت بنشر عربات مدرعة فرنسية في الشوارع المصرية وذلك للإجهاز على المعارضة، وكانت شركة "Renault Trucks Defens" قد قامت بتصنيع هذه المركبات، وهي مركبات أمنية مصفحة من طراز "Sherpa LS"، ومجهزة برشاش يتم تشغيله عن بُعد.
وحسب التقرير نفسه، فإن هذه المعدات استُعملت في هجمات عديدة مثل أحداث سيدي جابر في الإسكندرية يوم 5 تموز/ يوليو عام 2013، كما ظهرت في أحداث 14 آب/ أغسطس عام 2013 التي شهدت استخدام السلطة للقوة المفرطة لتفريق اعتصامين لمؤيدي الرئيس المصري المعزول محمد مرسي في القاهرة والجيزة، والتي أسفرت عن قتل ما يقارب 1000 متظاهر في يوم واحد.
ليبيا
بموازاة ما سبق، تستنكر منظمة "هيومن رايتس ووتش" صمت إدارة ماكرون إزاء التدخل المتكرر لمصر والإمارات في ليبيا، كما تشير المنظمة لاكتشاف أربعة صواريخ "جافلين" الفرنسية المضادة للدبابات بحوزة القوات المتحالفة مع حفتر، في حزيران/ يونيو 2019، والتي اشترتها فرنسا في الأصل من الولايات المتحدة، وهو دليل على الدعم العسكري الذي سعت باريس لإبقائه سراً بسبب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الرامي لحظر الأسلحة لعام 2011.
وأكدت وزيرة الدفاع الفرنسي صحة المعلومات الواردة في تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، والذي يفيد بأن فرنسا كانت قد اشترت صواريخ "جافلين" أمريكية الصنع التي اكتُشفت في حزيران/ يونيو 2019 في معسكر، جنوبي طرابلس.
باختصار، فإن الحكومة الفرنسية كثيراً ما تستحضر دعمها ضد الإرهاب في الشرق الأوسط لتبرير مبيعاتها من الأسلحة إلى هذه البلدان. لكن هذه الحجج واهية ولا تبرر تواطؤ فرنسا في الفظائع ضد السكان المدنيين، ومنه فإذا كانت الحكومة الفرنسية تريد حقاً دعم الأمن والاستقرار في المنطقة، فعليها بدلاً من ذلك تعزيز احترام قيم حقوق الإنسان في المنطقة بدل إغراقها بالسلاح الفرنسي. ربما لم تقتل العلمانية أحداً ولكن السلاح الفرنسي بالتأكيد فعل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...