شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
سقطتُ مرتين منذ وصولي إلى كندا

سقطتُ مرتين منذ وصولي إلى كندا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 1 ديسمبر 202212:09 م

المرة الأولى سقطتُ عن الدراجة الهوائية، بسبب بعض الطين المترتب عن "شتوة" اليوم السابق. كانت المرة الأولى التي أقع فيها عن الدراجة، وسيلة النقل التي لم أستعملها منذ كنت طفلة كبِرَت في بلدٍ لم نخرج كثيراً أطفالاً إلى شوارعه ولا مكان للدراجات في ملاجئه.

المرة الثانية سقطتُ عن الدرج الخشبي. كُسر ضلعي الثاني عشر، وهي المرة الأولى التي أكسر فيها أي عظمةٍ في جسمي. كنت أرى الأصدقاء يجبّرون أيديهم وأرجلهم ويرتدون أحزمة وكنّا نكتب على الجبر ونحتفي بكلّ مكسورٍ بأن نمنحه وابلاً من الحبّ والتواقيع على جبره. كان الواحد منّا يتمنى ألا يلقي بجبره في الزباله حين يفكّه. كانت ذكرى يطيب للمرء الاحتفاظ بها. هذا ما بدا لي على الأقلّ، أنا التي لم أكسر عظمةً في حياتي.

في المرة الأولى، تسبّبتُ لنفسي بجروحٍ في اليدين والركبتين، كما جُرح اندفاعي في البلد الجديد، وخسرتُ سباقي مع الشتاء الذي سيحلّ لا محالة، الشتاء الذي أخاف منه والذي لطالما سمعت أنه لا يليق بي، ذلك أنني لست باردة ككندا، على ما يقول البعض. واقعياً، لم أكن في سباقٍ مع الشتاء لكنني كنت أركض كالضائعة في البلاد الجديدة، أدور على عجلاتٍ كبيرةٍ كالحلم. كنت أعبّ كل لحظة دفءٍ قبل الشتاء الموعود، بل أتحدّاها بأن أطلب إلى الهواء أن يلفح وجهي وفتحتي أنفي وصدري ويرفع شعري عن كتفيّ، إلى الخلف، إلى ما وراء الواقع والحلم.

عشت شهراً كاملاً من هرمونات السعادة، تخلّلته تلك السقطة، وتبعاتها النفسية والجسدية. ذلك أنني أوقفت ثلاث سيارات عندما سقطت. سألتُ المرأة في السيارة الأولى عمّا إذا كان في حوزتها بعض الماء. لم يتوفّر الماء للأسف لكن توفّرت نظرات شفقةٍ وانعدام حيلة. سألت الرجل في السيارة الثانية عمّا إذا كان فمي ينزف. قال لي إن شفتي السفلى تأثّرت. سألته عن ماء. لا يشرب الكنديّون في سياراتهم على ما يبدو. المرأة في السيارة الثالثة دلّتني على مكان يمكن منه الحصول على الماء يبعد 200 مترٍ أو أكثر. كيف تصوّرَت أنني سأمشي 200 مترٍ مع الإسفلت الملتصق براحتَيّ وركبتيّ ووجهي الذي لم أفهم ما أصابه بعد؟ تراها اعتقدت أن الرجفة التي انتابتني ستؤدّي دور محرّكٍ ينقلني على عجل! لعلّ تلك المرأة جزء من أجواء الحلم التي كانت مسيطرة في حيّز ما قبل السقطة. اللعنة، لِمَ أصبح الماء شحيحاً إلى هذا الحدّ في تلك اللحظة في كندا؟ لم يكن يهمّني شيءٌ سوى غسل يدي لاكتشاف مصدر الدماء السائلة منهما ومدى خطورة الوضع، لكنني لم أجد سبيلاً سوى الصبر.

في الصيدلية، اكتفوا بدلّي إلى الحمّام كي أغتسل. ثم جلست على كرسيّ أنتظر. زبونةٌ دخلت ونظرت إليّ وهي تهمّ بالتحدّث إليّ فنهرها الصيدليّ. أضاع في تلك اللحظة فرصتي للتأكّد مما إذا كنت قد غادرت أجواء الحلم. طلبتُ منه بعض الماء المؤكسد، وضمّاداتٍ لروحي التي سقطت عن العجلة الهوائية وارتطمت بالأرض فأعطاني. ضمّدت نفسي بهدوء، وصمتٍ، شعرت بأنني غير مرئية خلالهما. وبعد مرور حوالي شهر، ما زالت ركبتاي شاهدتين على ذاك الحلم.

أما المرة الثانية، فكانت أشبه بالفيلم. طلبنا خلالها رقم الطوارئ المحبّب إلى قلوبنا: ناين وان وان.

ـ هللو، لديّ سؤال.

ـ نعم تفضّلي.

ـ إذا وقعت، ولم أعد قادرة على الحركة، ماذا أفعل؟

ـ ثوانٍ سيدتي سأحوّلك.

ـ هللو، معك قسم الإسعاف. كيف أستطيع مساعدتك الآن؟

ـ نعم. وقعت عن الدرج ولا أستطيع التحرّك أبداً.

ـ هل ضربت رأسك؟ هل تذكرين كيف وقعت؟ هل كنت دائخة؟ هل دفعك أحد؟

لا. نعم. لا. لا. عنوانك؟ إليك عنواني. حسنا ستأتيك المساعدة حالاً.

كالفيلم الأمريكي.

"سقطتُ عن الدراجة الهوائية... كانت المرة الأولى التي أقع فيها عن الدراجة، وسيلة النقل التي لم أستعملها منذ كنت طفلة كبِرَت في بلدٍ لم نخرج كثيراً أطفالاً إلى شوارعه ولا مكان للدراجات في ملاجئه"

ثم جاءتا. صبية بعينين خضراوين وشعر بنيّ فاتح جميل. قمرٌ أربعة عشر. وصبية أخرى لم تلفت انتباهي كثيراً. فهكذا أنا، أركّز مع بطلٍ واحد، وذات العينين الخضراوين كانت بطلتي. سألتني كل الأسئلة: هل اتصلتُ أنا بالناين وان وان أم مَن الذي اتصل؟ تأكدَت من مدى وعيي، فحصت أي آثار على جسمي، عاينت مواقع الألم. طلبت من زوجي أن يحضر كوب ماء. أبعدته عن المشهد كي تتيح لي حرية الكلام، وجرى كل شيء على ما يرام لأن زوجي لم يكن له دخلٌ أساساً في وقوعي.

وحين حاولتا جرّي إلى الحاملة لنقلي إلى المستشفى، صرختُ من الألم. كنت أرتجف، فالبرد كان قارصاً، وصاحبة العينين الخضراوين غطّتني بأغطية كثيرة، وشَرَحت لي لماذا انخفض مستوى الأكسجين في دمي إلى هذه الدرجة. جلسَت إلى جانبي، وبيدها حاسوبٌ لم أعرف ما دوّنته عليه. كانت تطبع بسرعة على الحاسوب، وأنا أحاول إغلاق عينيّ اللتين تسمّرتا على الشاشة الصغيرة أمامي، حيث مؤشرات التنفس والقلب وضغط الدم. فجأة قالت لي ممازحة: أتعرفين أنك وقعت في المكان المناسب تماماً؟ أمام باب المنزل مباشرة، ما سهّل علينا نقلك. وابتسمَت.

رددتُ الابتسامة، ثم أغلقت عينيّ. في الفيلم لا أركّز كثيراً في الأحاديث المشابهة. أعتبرها سدّ هواء، ملء فراغ، ضعفاً في السيناريو.

في المستشفى، نقلتني الصبيتان إلى سريرٍ صغير في غرفة من تلك المخصصة لـ"إنزال" المرضى. أُنزِلتُ إذن وغادَرَت صاحبة العينين الخضراوين وزميلتها التي كانت تقود الإسعاف وكأنها طائرة. لم تحتج إلى إطلاق صفّارة الإسعاف في الطريق، ذلك أن الليل كان قد حلّ، والسيارات قليلة أساساً في الشوارع الباردة. فالكنديون ينسحبون إلى بيوتهم الدافئة قبل حلول الظلام، فتخرج سيارات الإسعاف لتحتلّ فضاء أونتاريو بصمتٍ مذهل. في هذه الآونة، يتهافت مسنّو كندا وأطفالها إلى المستشفيات بسبب فيروسٍ قديمٍ جدّد نفسه فتغلغل في المجاري التنفسية الكندية وجعل المشافي تفيض بزوّارها.

"هنا أبني تارةً حلماً هوائياً عن طفلةٍ أبدلت الملاجئ الضيّقة بشوارع واسعة. وطوراً أتفرّج على فيلمٍ كنديّ، بطلته طفلة نجحت أخيراً في كسر عظمةٍ لم تنجح حروبٌ ولا انفجاراتٌ ولا عنفٌ ولا شقاوة في كسرها من قبل"

وقت الانتظار في المستشفى هنا بالساعات، وإنْ كان الانتظار مصحوباً بالألم. وقتٌ كثيرٌ في متناولي، لكنني لا أستطيع الحراك، كما أنني نسيت أن أحضر حذائي معي. لا شيء في غرفة الإنزال يهدّئ من روعي. ثم في ثوانٍ يأتي زوجي، ننتظر معاً، أخاف على طفليّ اللذين راعتهما سقطة أمهما الثانية في شهرٍ واحد. تأتي الممرّضة بعد ساعتين من الانتظار الكالح. يتمّ تصوير عظامي. تأتي الطبيبة، عرجاء سريعة الحركة. لا كسور، تقول. أجيب: وما كل هذا الألم؟ هذه رضوض، ألا تعرفين ما هي الرضوض، ألم تقعي في حياتك؟ يرتفع صوتها، يفتح فمها واسعاً وتنطلق منه قذائف توجّه نحوي، أنا المحظوظة التي لم تكسر عظمة من قبل. أصرّ أن ثمة شيئاً غير سويّ هنا. ترسلني مرة أخرى إلى غرفة الأشعّة. تمتعض تقنية الأشعة. لمَ لَم تطلب تصوير الأضلع من المرة الأولى؟ تعدّت الساعة الثانية عشرة ليلاً وانتهى دوام تقنية الأشعة لكنها اضطرت إلى البقاء بسبب الطبيبة التي نسيت طلب تصوير الأضلع. هل من كسور؟ لا أستطيع الإجابة، ذلك أنني لا أجني كمّ الدولارات التي تجنيه الطبيبة. أصمت، وأتركها تنفخ شيئاً تحتي كبالون طائر ستستخدمه لتنقلني إلى الحاملة من جديد وسأسعد به كطفلةٍ تتزحلق في الهواء. في الطريق إلى الغرفة، أنظر من حولي هذه المرة. رجلٌ مسنٌّ للغاية يصرخ طالباً المساعدة، لكن يبدو أن الطبيبة إياها سرقت صوته فما عاد يطلع من حنجرته. مستر فلينت؟ تأتي ممرّضةٌ وتسأله. لا أسمع الجواب فالحاملة منطلقةٌ كمدفعٍ يثقب رواق المستشفى. ستعود الطبيبة هذه المرة مؤكدةً أنها كانت تتمنى ألا يكون هناك كسور، لكنها تمكّنت أخيراً من تحديد مصدر الألم: ضلعٌ مكسورٌ.

وأخيراً، كسَرتِ عظمةً يا عزّة. لكن أحداً لن يكتب على الجبر ذلك أن الأضلع لا تُجَبّر، ولا زحمة أصدقاء هنا يمطرونك بوابل من الحبّ والتواقيع.

لا مشكلة في كلّ هذا. ذلك أنني هنا أعيد إحياء طفولتي، بسقطاتي التي لم أحرزها من قبل. هنا أبني تارةً حلماً هوائياً عن طفلةٍ أبدلت الملاجئ الضيّقة بشوارع واسعة. وطوراً أتفرّج على فيلمٍ كنديّ، بطلته طفلة نجحت أخيراً في كسر عظمةٍ لم تنجح حروبٌ ولا انفجاراتٌ ولا عنفٌ ولا شقاوة في كسرها من قبل.

سقطتُّ مرّتين في شهرٍ واحد في كندا. لم يكن هذا حلماً ولا فيلماً. كانتا مجرّد سقطتين رفعتا من رصيد تجربتي الكندية وزادتا، حرفياً، ارتباطي بالأرض الباردة. كانتا سقطتين أكملتا طفولةً كان ينبغي أن تكتمل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image