شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
فرج فودة، إليك رسالتي

فرج فودة، إليك رسالتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 24 يناير 202302:55 م

إلى فرج فودة، لتَنعم بأفكارك.

"من المُؤلم أن نحدِّق بعُمقٍ في أنفسنا، لكنَّها الطريقة الوحيدة لتغيير المستقبل".

نَعم التأمل في الذات، قصد التغيير، مؤلم، مؤلم عِندما تتخلى عن المسلمات، والموروثات، لكن الألم يتحول إلى راحة روحية، لأنها تشُدك نحو اليقين.

نَحو اليقين، لا بد مِن يَد تُمهد لك الطريق، وتُزيح عنك المُعيقات، تلك يدُك فرج.

أكتب لك اليَوم صديقي، وقد تغير فيَّ الكثيرُ. أكتب إليك عزيزي كي لا تُنسى في ذَاكرتي. أكتب لك في نعيمك الأزلي، طَالباً من رب العباد أن يُوصل الرسالة.

عزيزي فودة

كيفَ حالُك في نعِيمك؟ لعلك تُطل علينا الآن فَرحاً، وأنت ترى أفكارك سافرت بقاعَ الأرض، ووجدت لها من الرؤوس ما يحتويها، ووجدت لها من الآذان من يُصغي لها.

لعلك تُطل الآن فرحاً، وأنت ترى مصر مدنية لا دينية. حاربُوك فقالوا فيك ما لم يقُله مالك في الخمر، ولكنَّهُم المُطاردين اليَومَ مع أفكَارهم، فسلفيتهم تَراجعتْ، والمدنية قد عَلت.

لماذا أنت؟ لماذا أطلقوا الرصاصة؟ ما بِهم يُلجمون الأصوات؟ ما بِهم لا يُقارعون؟ ما بهم والسلاحُ حاملون؟ أتدري لو كُنت حياً بيننا لسافرتُ إلى مِصرَ مُقبلاً يديك؛ تينك اليدان اللتان أخرجتاني من ظَلماءِ الفِكر إلى عَوالم الشَّك واليقين.

وأنا أقرأ كِتابك أوقفتني عبارة "وأننا بِقدر ما أفزعنا بقدر ما دفعنا المجتمع للأمام، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما استقر المجتمع في أيامهم، وبقدر ما واجهنا بقدر ما توجهوا هم إلى المستقبل".

"إننا بِقدر ما أفزعنا بقدر ما دفعنا المجتمع للأمام، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما استقر المجتمع في أيامهم، وبقدر ما واجهنا بقدر ما توجهوا هم إلى المستقبل"... فرج فودة

أرَاكَ هُنا تنظُرُ للمستقبل، تلامسُ لحظة، هي لحظةُ وفاتك، فلمَ العجلة؟ ألسنَا نحن متشبتين بالحياة؟

أتعلمُ أني أعاتبُ لحظة موتك كُل يوم، بل وأعاتبُ الموت، يأخُذُ منا العُظماء، ويتركُ لنا سُفهاء النّاس.

عزيزي فرج، أتَسمحُ لي أن أروِي لكَ بداياتي معك؟

أحنُّ إلى فاس، المَكانُ الذي التقيت فيه بكِتابك في رِحلة عابرة. حينها كُنت طالباً مَشدوهاً نحْو كُلّ أرض مفروشة بالكُتب. قدماي تشدّاني إلى هُناك، وإن كانت جُيوبي فارغة، لكن، لا بد أن أشتم رائحة الكُتب، أن تلامس يداي الورق، أن تُنظف عيناي بالكلمات.

فقرُ اللحظة لم يمنعني من التصفح. سقطت عيناي على "الحقيقة الغائبة"، كتابُك المُلهم. كُنت قد سمعتُ عنهُ القليلَ فقط. أخذتهُ لا للشراء، فأول ما شدني إليه كان إهداؤك الذي أعده اليوم أفضلَ إهداء لامس مشاعري: "إلى زملاء ولدي الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده، تصديقاً لمقولة آبائهم عني... إليهم حين يكبرون، ويقرؤون، ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم وأن ما فعلوه كان أقسى علي من رصاص جيل آبائهم".

تَلَقَّيْتَ الرصاص عزيزي، وألقيت الرصاص كذلك. رصاصةُ أن أرى هذا الإهداء المملوء بالأسى والحُزن، دون قُدرة على أن أحملهُ معي إلى البيت، إهداءٌ يوحي أن ما بعدُ عجيب.

"من المُؤلم أن نحدِّق بعُمقٍ في أنفسنا، لكنَّها الطريقة الوحيدة لتغيير المستقبل"

عزيزي فوذة، أحكي لك قصة ارتباطي بك، أعتذر إن أسهبت. خطتي في اختيارِ الكتُب بسيطة، أتصفحُّ الفِهْرس، فإذا شدني ما فِيه، علمتُ أن الكتاب يحتاجُ القراءة، فماذا لو وجدت في الفهرس قراءة في أوراق الراشيدين، قراءة في أوراق الأمويين، قراءة في أوراق العباسيين. عندما رأيتُ لائحة فهرس كتابك، أحسستُ بالقشعريرة تسري في جسدي، من ذا الذي يتطاول على هؤلاء؟ من ذا الذي يكْتب عن هؤلاء إلا مَدحاً؟

وضعتُ الكتاب مكانهُ وأنا أشعُر بحسرة، بل لعنتُ وزارة التعليم التي لم تمنحني منحة الدراسة. أعدته مطأطئ الرأس. فُضولاً قلتُ في نفسي أن أسأل عن ثمنه. كُنت مُنتظراً ثمناً غالياً (150 درهماً أو شيئاً من هذا القبيل)، فإذا بالبائع يصعقُني فَرحاً؛ ثمنُ الكتاب 15 دِرهماً. رقصتُ سروراً، بل وقبلت مُرافقي في الرحلة. أخذته وقلت في نفسي: لأخذنك يا فرج غَصباً. ولكن في لحظة الفرح، شَدَّني الأسى هُناك؛ هذا كِتابٌ غَير أنظمَة، وأحدثَ ضجة، وزعزع أركان "البُعبع الإسلامي" الذي كَان في أوج قُوته، فما بالهُ يُباع بأبخس الأثمان، بيْنما نجدُ (كُتباً) لا يسحر فيها شيءٌ، لا لغة، ولا فكر، ولا مضمون، ولا جمال، يُطلب فيها الثمنُ الغالي.

لا بأس، أضحى سعرُ الكِتاب بجمال غلافه.

أنتقلُ بك الآن، لأحدثك عما أحدثتهُ فِيَّ.

عزيزي فودة،

أنا مدينٌ لك بالكثير، وحتى إن أوفيتُ الدين يوماً في الحياة الأخرى، فلا أظن ذاك كافياً. كُنت ساذجاً في القراءة. السذاجة عندي قلة الخِبرة في اختيار الكُتب. ألتهمُ الروايات فقط لعلة واحدة: أنها تنتهي بسرعة، وعندما أنتهي من كتاب أحس بالعظمة، وإن لم أستوعب منها شيئاً، يُسحرني فقط جمالية الأسلوب، وتسارعُ الأحداث، لَكن، أين هي وسائل النقاش؟ بأي منطق ستناقش؟ بمنطق الروايات؟ لُقياي مع الفِكر كانت معك. لا أخفيك رفيقي أن أولى الكلمات التي قرأتها في كتابك، كانت صعبة، إنسان لم يفكر يوماً بعقله، بل كانت يُفكر بعواطفه، تلك خطايا الرواية.

عِندما بدأت القراءة لك، أحسستُ حينها بسذاجتي التي وصفتها سَلفاً، وأني والزمان على مسافة. كُنتَ البّوابة نحْو التعمّق والتثقف؛ كنت النافذة نحو دقة الاختيار والانتقاء.

اليَوم أصنف نفسي "باحثاً في التّراث". تطورت المعارف، وآليات المُقاربة، وتسلحت بالشك القائم على التخلي عن المسلمات، ومعالجة الظواهر كما هي. هكذا أضحى منهجي، ذاك لم يكُن إلا بشرارة "الحقيقة الغائبة".

دعني أطرحُ عليك سؤالاً: من أين اكتسابُك الجُرأة؟ ما أنت إلا كتابٌ مُغلق، حين يُفتح، وتُفك شِفراته، لا يُؤخذ منه العِلم فقط، بل بناءُ شخصية في الحَياة، وقوة الشكيمة، تجسيدٌ أنت لمقولة: "لا أخش في قول الحق لومة لائم".

عزيزي فودة، كيفَ حالُك في نعِيمك؟ لعلك تُطل علينا الآن فَرحاً، وأنت ترى أفكارك سافرت بقاعَ الأرض، ووجدت لها من الرؤوس ما يحتويها، ووجدت لها من الآذان من يُصغي لها

عزيزي فرج،

أدعُ الآن كلَّ العواطِف جانباً، ففي حَضرة جلالتك، تتلاشى تعابير الحُب والمودة.

أغوص بِك في عوالم الفِكر، لأدُلّك على مَكامن التأثير فِيَّ.

ألست القائل "وهو في النهاية حديث قد يخطئ عن غير قصد، وقد يصيب عن عمد، وقد يورق عن تعمد، وقد يفتحُ باباً أغلقناه كثيراً وهو حقائق التاريخ، وقد يحيي عُضواً أهملناه كثيراً وهو حقائق التاريخ، وقد يستعملُ أداة تجاهلناها كثيراً وهي المنطق".

وهل نحنُ نعودُ للتاريخ حتى نَفتحَ بابه، وأي منطق إلا منْطقُ الوراثة.

ألسنا نخشى أن نُوظف العقل للتفكيك، نتراجع حتى لا نُصدم، التاريخُ الذي أخذناهُ عن آبائنا، وفي المَدرسة، وضمن أسوار المسجد، لا يُحدثونك عن التاريخ الإسلامي إلا بالمدح والثناء، ويصورون رجالات الدين بالقداسة، كأنهم رُسل منزهة.

هُناك صدمةُ الحداثة، وهُناك صدمة التَّاريخُ. حين قرأتُ كتابك كاملاً، كُنت أقفُ أحياناً، أغلِقُ الكِتاب مذهولاً، يخفقُ القلبُ لهذه الحقائق. كُنت أخاف الحقيقة، أكملُ القراءة فُضولاً. أخذ مني وقتاً طويلاً لإنهائه. صدق فيَّ قولُك: "وأسوأ ما يحدُث لقارئ هذا الحديث أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء، أو متوقعة للتجني، وأسوأ منه موقفُ الرفض مع سبق الإصرار للتفكير واستخدام العقل".

لم تكُن نفسي مسبقة بالعداء، إلا بعد القراءة الأولى للكتاب. أعتذرُ مِنك عن تلك الأوصاف، الأفَّاك، والدجَّالُ، وهادمُ القيم.

لم أعتبر سطُورك حينها سوى تلفيق، تجني على المُقدسين، ذوي الجلالة.

القراءةُ الثانية، كانَتْ أكثر تأملاً، ما راعني فيها، تلك المصادرُ التي اعتمدت عليها؛ مصادرُ ممن يوصفون بالدقة في الرواية ونقل الخبر، وتدقيق التاريخ. كتابُك كان مَطية لمزيد مِن البحث والتوسع، وكأن جَبل أحُد هشَّم ذاكرتي المُضللة، ليُعاد بناؤها، باليقين الذي لا يأتيه الباطلُ.

اليومَ سفينتي حولت دِفتها صوب التَنوير، بَعدما سحبها وشدها التيارُ نحو الرجعية والظلامية. تسلحتُ معك بمطرقة النقد؛ تلك المطرقة التي لا تُفرق بين المُقدس والمدنس، لكن، حاولتُ اتباع خُطاك، أن أفتحَ عن العقُول أقفالها، أن أكمِل بناء مشروعك التنويري، وأين البدايةُ إلا مِن المُحيط، البئية، الأصدقاءُ، والأسرة، بيد، أن التفكير في المُحاولة، ظل حَبيس الرأس.

لماذا؟ ليست لي جُرأتك، ولا شجاعَتُك، أخشى النِّسيان، أخشى أن تُطلق سِهامُ الأحكامُ، مثلما أطلقوها عليك، فكُنت صابراً، حاملاً المِجَنَّ يقيك رماح وسيوفَ الأفواه، واجهت وأنت مُدرك للنهاية، إلا أنني أخافُ النهاية.

توقيعي للرسالةُ قولُ غسان كنفاني: "إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، إنها قضية الباقين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image