شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
رسالة إلى أبي: لم تتمكن من تدميري مثلما دمّرت أمّي

رسالة إلى أبي: لم تتمكن من تدميري مثلما دمّرت أمّي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 2 ديسمبر 202010:05 ص

قالت وهي تغوص في ماضٍ بعيد كي تقص عليّ حكاية فتاة جزائرية مع أب ليس كسائر الآباء: من أين أبدأ؟ لا أدري! هناك الكثير من الأمور والتفاصيل التي يصعب علي أن أضعها في كلمات… وهذا النص، كأنه يجري على لسانها.

نشأتُ في أسرة جزائرية تقليدية، الكلمة الأولى والأخيرة للأب وإن غاب طوال اليوم، تظل أمي تقول إن أبي سيفعل فيكم كذا وكذا حين يعود مساءً ويعلم بما فعلتم. لست أدري إلى اليوم إذا كانت أمي تخيفنا به أم تنقل خوفها منه إلينا! فقد كان يثور فجأة لأسباب كنت أجهلها ثم يبدأ بالصراخ في وجهها وإهانتها وشتمها بألفاظ لم أستوعب معناها وأنا طفلة، سمعته كثيراً يكرر الاتهام نفسه: "خائنة! لو كانت أمك امرأة صالحة لربتك تربية صالحة، لكنك تشبهينها، يكفي ما فعلته أنت وأمك بوالدك". 

لم أكن أدرك وقتها ما الذي اقترفته أمي كي يدخل في حالة الهيجان تلك ويسمعها العبارات القاسية طوال الوقت. حين كبرت، كانت صدمتي أكبر، فقد اكتشفت أن أمي لم تفعل شيئاً وأيضاً جدتي. لكنه كان يحاول إقناعها بأنها امرأة سيئة ولا تستحق الاحترام. 

أذكر أن أبي كان في لحظات هدوئه يقص علينا ضاحكاً حكايات عن أخوالي وعن جوعهم وفقرهم قبل أن يشبعوا ويدخلوا عالم البرجوازية والنعيم، كان يحلو له ترداد عبارة "التاريخ لا يرحم وأنا أعرف ماضيهم". لم تكن أمي تناقشه حين يروي تلك القصص خوفاً من سخطه، غير أنها في غيابه تنفي كل ما حكاه وتصفه بالكذاب الغيور من أسياده.

ليس لأبي إخوة، ترعرع "ملكاً" وسط عمّاتي، كان قرة عين جدتي. تقول أمي إن جدي لم يكن يطيق سلوكه ودلع أمه له، ولا يكلمه تقريباً، إلا أن تلك التفاصيل ظلت سراً عائلياً مخفياً عن الجيران والأصدقاء الذين طالما احترموا أبي كونه تفوّق في دراسته وأصبح مختصاً في علم النفس وأستاذاً جامعياً. تردد أمي دوماً حكاية إحدى طالباته التي كانت أيضاً صديقة لعمتي، فزارتها يوماً في بيت العائلة وانتبهت حينها لسلوك والدي فصُعقت وقالت: "آه هذا هو الأستاذ؟ يا إلهي! إنه شخص آخر تماماً!" 

لم أكن أدرك وقتها ما الذي اقترفته أمي كي يدخل في حالة الهيجان تلك ويسمعها العبارات القاسية طوال الوقت. حين كبرت، كانت صدمتي أكبر، فقد اكتشفت أن أمي لم تفعل شيئاً وأيضاً جدتي. لكنه كان يحاول إقناعها بأنها امرأة سيئة ولا تستحق الاحترام

خرجتُ من عالم الطفولة البريء ودخلتُ مرحلة الشباب، فصرت أتساءل أكثر فأكثر عن علاقة أبي بأمي، كنت أحاول أن أفهم سبب زواجه وإنجابه أبناءً منها ما دام لم يحبّها ولم يحترمها: "ما الذي يدفع جامعياً ومختصاً في علم النفس الزواج بامرأة لا تملك أية خبرة في الحياة؟ أمي شخص بسيط وتعليمها محدود مقارنة بمستوى تعليم والدي، فهي من عائلة برجوازية تقليدية في حين كان يبدو على أبي الانفتاح والوعي السياسي. كيف يرضى بزواج كهذا جعل من حياتنا كلنا جحيماً على الأرض؟ لمَ لم يطلّقها ما دام ينبذها إلى هذا الحد؟ وما سبب استكانة أمي وخضوعها الذي دمّرها ودمّرنا معها؟".

اعتقدت في بادئ الأمر أن أبي يشبه باقي الآباء الجزائريين الذين تعودوا وقتها أن يفرضوا سيطرتهم في ظل نظام أبوي صارم تسوده سلطة الرجل المطلقة على كل من في البيت، وأنه كذلك، مثل أقرانه، شحيح في التعبير عن مشاعره وإظهارها، إذ يُلقّن الرجل الجزائري منذ نعومة أظفاره أن يحتفظ بما يختلج في صدره لنفسه، وأن لا يظهر ضعفه أو رهافة أحاسيسه، خوفاً من أن يصبح محل سخرية الجميع، لهذا تجده كتوماً، غائباً، بعيداً، حتى لو كان حاضراً، يعود لبيته بعد يوم شاق في العمل ليأكل ويرتاح ثم ينام. يجب عدم إزعاجه أو إحداث الضجيج في حضرته، كل شيء بحسبان في وجوده.

 كنا إذا ما أردنا شيئاً نتمثل بالموظفين الذين يطلبون موعداً مع رئيسهم في العمل، فنخبر أمي أو"سكرتيرة أبي" التي تحدد لنا ما يمكن مناقشته ومتى، ولم نكن في ذلك نختلف عن الكثيرين من أبناء جيلنا. لا أذكر أني سمعته يقول كلمة غزل لأمي أو يثني على جمالها وأناقتها، لم أكتشف كلام الحب بين الرجل وزوجته أو حبيبته إلا في القنوات الفرنسية والأفلام المصرية، وقد كان المعتقد ولا يزال أن تلك المجتمعات لا تشبهنا.

 أذكر أن الجزائريين كانوا يصرحون بأن الرجال المصريين كغيرهم من المشارقة ضعاف الشخصية وأقل رجولة منهم، فقط لأنهم يصرحون بمشاعرهم ولا يخجلون منها، لم أقتنع لا أنا ولا بنات جيلي بتلك الترهات وكانت الكثيرات منا يحلمن بأن يحصلن على رجل غربي أو شرقي، المهم أن لا يكون جزائرياً! هكذا استسلمت في البداية لفكرة أن والدي مجرد أب جزائري ليس إلا.

لا أدري متى وكيف تمكن رأسي الصغير من جمع المعطيات اللازمة كي أعيد التفكير في النتيجة التي وصلت إليها سابقاً، ربما لأن الأمور زادت عن حدّها أو لأنني بدأت أزور صديقاتي في بيوتهن أو أركز على تعامل أزواج عماتي مع نسائهم وبناتهم، فقد كنت أمضي الكثير من وقتي في منزل جدتي وكنا نلتقي أنا وبنات عمّتي في تلك الفيلا الكبيرة أو"دار ماني" (بيت جدتي) كما كنا نسميها. وبين وقت وآخر يأتي الآباء لزيارتنا، غير أن زيارة أبي كانت دوماً كئيبة وغريبة مثل حكاياته عن أمي وسوء أخلاقها ومعاناته معها التي يظل يرويها لجدتي كلما جاء، فتتسمّر العجوز المسكينة مذهولة لما تسمعه منه ثم تتعاطف مع ابنها الوحيد وتحقد على زوجته أكثر فأكثر.

 أمّا أنا وأختي فلا يكلمنا إلا ليُحرجنا ويطلب منا أن نتعلّم الأدب من سلوك بنات عمتي المهذبّات لأن التي ربتهنّ هي أخته المنحدرة من أصل طيب نبيل والتي تولّى هو تربيتها كونه يكبرها بسنوات، فكان لها بمثابة الأخ والأب. 

لا أذكر أني سمعته يقول كلمة غزل لأمي أو يثني على جمالها وأناقتها، لم أكتشف كلام الحب بين الرجل وزوجته أو حبيبته إلا في القنوات الفرنسية والأفلام المصرية، وقد كان المعتقد ولا يزال أن تلك المجتمعات لا تشبهنا

اليوم أدرك أن أبي كان دوماً شديد النقد تجاه الآخرين لا لشيء إلا ليزيد من تعظيم نفسه، لم ينل أحد رضاه لا أمي ولا أنا وإخوتي ولا أخوالي ولا أزواج عماتي، كلنا في نظره جماعة من الفاشلين والحمقى والمستهترين، حتى أخواته لم يحظين بذلك التقدير إلا لأنهن تعوّدن الاعتراف أمام الجميع بأن أبي هو من ساندهن في دراستهن وعملهن. لم يمدح أبي شخصاً أمامنا إلا ليقنعنا بأننا أسوأ الناس. منذ صغري وهو يصرّح لنا:" أفنيت عمري من أجلكم، ليتكم تستحقون! ما أشد ندمي!".

وقد أخبرني قبل وقت قريب: "لو كنت أقدر لسحبت منك شهادتك، فأنت لا تستحقينها". ضحكت بصوت عالٍ وأجبته بهدوء: "لا تنس يا سيدي أنك تكلم دكتورة! " 

لم يعد سلوكه يستفزني ولا كلماته البغيضة تؤثر بي، لم يتمكن من تدميري مثلما دمّر أمي. قد أكون أكثر حظاً منها لأنني أنتمي إلى جيل أكثر تمرداً وأقل تمسكاً بالأعراف والتقاليد وأشد رفضاً للنظام الأبوي المستبد. لا يعرف أبي أن كتب علم النفس الموضوعة في رفوف مكتبته، والتي كانت تمضي تلك الفتاة الصغيرة وقتها في قراءتها كي تهرب من وحدتها وعالمها التعيس، هي أول من ساعدها في إسقاط قناعه واكتشاف تناقضاته، تلتها كتب أخرى وخبرات حياتية أنقذتها من التيه في متاهة كذبه وأساطيره. لم يكن الأمر سهلاً، مرّت سنون كثيرة قبل أن أتصالح مع فكرة أنك أولى ضحايا نرجسيتك.

 يحلو للبنات أن يجتمعن ويطرحن ذلك السؤال التقليدي عن الحبيب المرتقب: "كيف تريدنه؟"، لا أذكر بما كنت أجيب كلما جاء دوري، لكنني متأكدة من الفكرة التي كانت ولا تزال تراودني كلما سمعت هذا السؤال: "لا أدري بالتحديد، هناك صفات عدة، أولاها أن لا يكون مثل والدي". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image