شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
التفكير في الرحيل… أو ما الذي نبقى من أجله في مصر فعلاً؟

التفكير في الرحيل… أو ما الذي نبقى من أجله في مصر فعلاً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مضى أكثر من عام وأنا أشعر برغبة قوية في الرحيل من بلدي مصر، كأقراني الذين سافروا، وغيرهم الذين يستعدون الآن للمغادرة. كل شيء هنا أصبح مظلم للغاية، فنقاط النور ظلت تتلاشى واحدة تلو الأخرى، حتى حلت العتمة، وسيطرت على كل ما تبقى من عقلي. وكلما يحدث شيء جديد يؤلمني، أتذكر خاتمة رواية "وحدها شجرة الرمان" للكاتب العراقي سنان أنطون التي تقول: "لا أحد يعرف. لا أحد. وحدها شجرة الرمان... تعرف". لذا سيطرت عليَّ الرغبة في الرحيل.

منذ ثلاث سنوات، أتذكر أني كنت ضد فكرة السفر نهائياً، رغم أن الأوضاع المادية لم تكن الأفضل هي الأخرى، لكن هذا لم يكن يؤثر فيَّ بأي شكل من الأشكال ربما لأني كنت أصغر سناً، وكنت في بداية طريقي، وممتلئة بالشغف والطاقة، وأحلامي تتراقص أمامي، وتنتظرني أن أمسك بها فنصنع شيئاً سوياً، بل أتذكر أن من المشكلات التي كانت بيني وبين إنسان أحبه في ذاك الوقت أنه كان يريد السفر. وبالنسبة إليَّ، كان السفر فكرة مرفوضة تماماً، فكيف أترك بلدي؟ وكنت أتساءل: كيف يعيش الإنسان في بلد غريب دون أحبائه وأهله وأصدقائه؟

منذ ثلاث سنوات، أتذكر أني كنت ضد فكرة السفر نهائياً، رغم أن الأوضاع المادية لم تكن الأفضل.

لماذا أرغب في الرحيل؟

منذ عام، تغير كل شيء. شعرتُ وأن كل شيء يُهدم فوق رأسي، فمنذ شهر آب/ أغسطس من عام 2021، وأنا أعمل صحافية فريلانسر إلى جانب عملي في مشروعي الصغير لبيع الكتب، والعمل في الإثنين ليس مستقراً، يوماً هناك إنجاز ومال، ويوماً آخر لا. وأدعي أني من هؤلاء الذين يفضلون سير الحياة بناءً على خطط مسبقة تنبئ بنتائج مُرضية على المدى القريب والبعيد، لذا لا يسرني الأمر كثيراً هكذا.
والأهم من الأحوال المادية المتدنية، والعمل غير المستقر، لأول مرة أشعر أن هناك شيئاً له تأثير أقوى عليَّ سواء بالسلب أو بالإيجاب أكثر من العمل ألا وهو كل الأزمات النفسية التي مررت بها منذ الصغر إلى هذه اللحظة. كنت أعتقد أن بابتعادي عن محافظتي الإسكندرية والانتقال للعيش في القاهرة سأتجاوز كل ما عانيته هناك، لكن هذا ليس صحيحاً ربما تناسيت ما كنت أشعر به لبعض الوقت أثناء انشغالي بالعمل أو أثناء شعوري بلحظات أفضل من التي عايشتها في الإسكندرية، لكن ما نسيته حقاً أن ذاتي تلازمني هنا وفي أي مكان، ذاتي التي ما زالت تتجرع مرارة كل لحظة سيئة مرت بها من غدر وخذلان.
كل هذا جعلني أفكر بجدية: لمَ لا أسافر؟ وجلست أخطط وأبحث عن الطرق التي تجلب لي فرصة سفر في أسرع وقت، ووجدت أنها لا بد أن تكون في دولة عربية بها فرص عمل تشبه عملي في مصر، وبدأت أسأل أصدقائي عن أفضل الدول التي يمكن أن أسافر إليها بحيث تكون دولة تسمح بجمع بعض الأموال وفي الوقت نفسه يمكنني الاندماج مع أهلها، وكذلك أشعر فيها باستقرار نفسي بعيداً عما أعانيه في مصر كفتاة مصرية.
في مصر، تلاحقني العديد من التساؤلات: لماذا تعيشين بعيداً عن أسرتك؟ لمَ لم تتزوجي بعد؟ كيف تكتبين في هذه المواضيع؟ فضلاً عما نعانيه كفتيات وسيدات في الشوارع. ورغم علمي أن الوضع في بعض الدول العربية لا يختلف كثيراً عن هنا لكن أعتقد أننا جميعاً نحتاج إلى تجربة ما هو أفضل، حتى لو كان أفضل بنسبة صغيرة.

عندما أمعنت النظر في حياتي، لم أستطع أن أغض الطرف عن عدة أسباب تجعلني أفكر في السفر. طيلة الأشهر الماضية التي كنت أفكر في السفر فيها، كانت صورة أمي لا تفارقني

ثم ماذا حدث؟

عندما أمعنت النظر في حياتي، لم أستطع أن أغض الطرف عن عدة أسباب تجعلني أفكر في السفر. طيلة الأشهر الماضية التي كنت أفكر في السفر فيها، كانت صورة أمي لا تفارقني، أخشى أن أتركها تواجه كل الأحداث الصعبة التي تمر بها وحدها، دائماً أشعر بالمسؤولية تجاهها، وتجاه أخوتي. يقولون لي أصدقائي إني أحمل نفسي مسؤولية ليست لي، وأنا أشعر أنها لي وليست لغيري.
كما لدي شعور آخر تجاه صديقتي زينب يشبه شعوري تجاه أسرتي، فدائماً أحس أن مصيرنا نحن الاثنتين مترابط. في أوقاتٍ كثيرة عندما تأتي لزينب فرص عمل، تأتيني أنا أيضاً في الوقت نفسه فرص أخرى فننشغل معاً، وعندما تحل بي أوقات صعبة، تتألم هي الأخرى، وعندما أحس بالحب أو الإعجاب تجاه شخص، تنغمس هي كذلك في قصة حب، والطريف أنه عندما تنتهي قصة حب إحدانا تلحقها الأخرى، وكأنه لا يهون على إحدانا أن تفرح أو تتألم دون الأخرى. وأكثر ما يصف صداقتي مع زينب الآية القرآنية "سنشد عضدك بأخيك" من سورة القصص. وبسبب كل ما سبق، أفكر كثيراً في خطوة السفر، فكيف سأسافر وأتركها وحدها؟

هل هناك "شعور" يستحق المجازفة؟

يقول الشاعر محمود درويش "الحب هو أن تجد ألف سبب للرحيل... فتبقى". ربما هذا من أقوى الأسباب التي جعلتني أحسم موقفي في تنحي فكرة السفر جانباً لبعض الوقت، فكيف أترك هذا الشعور القوي الذي تسلل خلسة إلى قلبي يتبخر وكأنه لم يكن، بعد أن جاءني بعد فترة طويلة كنت أتخيل فيها أني لن أستطيع أن أشعر بمثل هذه المشاعر مرة أخرى؟ ولأني أؤمن أن مشاعر الإعجاب الحقيقية لا تأتينا كل يوم، قررت الانتظار.

بالنسبة إليَّ، كان السفر فكرة مرفوضة تماماً، فكيف أترك بلدي؟ وكنت أتساءل: كيف يعيش الإنسان في بلد غريب دون أحبائه وأهله وأصدقائه؟

أصعب كتابة ذاتية يمكن أن تكتب هي تلك التي تكون عن تجربة ما زالت قائمة لم تنتهِ بعد لأنك لن تستطيع وقتها أن تجزم بشيء، فليست هناك حقيقة واحدة، بل كل الأشياء ما زالت مجرد احتمالات، لكنك تكتب لأن هناك رغبة مُلحة في الكتابة، وهذه التجربة لست متأكدة من أي شيء فيها، فالصورة ما زالت ضبابية حتى الآن، لا أعرف حتى ما هي نسبة نجاحها، لا أعرف أي شيء سوى أنه يشاركني فيها إنسان مختلف، وشيء جميل يستحق المغامرة، يستحق بذل بعض الوقت والجهد، لذا قررت خوض التجربة.
ورغم وجود أسباب للرحيل واضحة أمامي، وكذلك أسباب للبقاء، أتساءل كل يوم: ترى ما الذي يستحق البقاء من أجله فعلاً؟ وما أكثر الأسباب التي تعزز فكرة الرحيل؟ فلا أندم بعد أي من الخيارين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image