في ذكرى رحيل صباح قبل سنوات سبع (في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2014) يستدرك اليوم كثيرون ممّن نفروا منها صوتاً وأغانيَ وكلماتٍ وصورةً أو هالةً نجوميّة، ونبذوها من مراهقتهم، من صحراء مراهقتهم العاطفية والفنّية، في الستّينيات والسبعينيات اللبنانية، عندما كانوا بعدُ طلّابَ مدارس ثانوية أو في بدايات سنواتهم الجامعية. يستدركون اليوم ذينك النبذ والنفور المراهقين ويُحِلُّون محلّهما استمتاعَهم بصوتها المشمس أو الشمسيّ، النديّ بلهوه ودلعه الدنيويَّين، على خلاف الصوت القمريّ الفيروزيّ الناعس، وشبه الصوفي أو اللاهوتي الكنسي. واستمتاعهم اليوم بصوت صباح وشخصيّتها، يحدث بمفعول رجعيّ يمازجه شيءٌ من أسىً وندمٍ على ما كانوه في ماضيهم البعيد.
خلاص صوفيّ
لكن مَن هم مراهقو الستّينيات والسبعينيات، أولئك الذين استدركوا في شيخوختهم نفورَ مراهقتهم من صباح، أي ما هي منابتهم الاجتماعية؟
هم غالباً أبناء من غادروا قراهم إلى بيروت وضواحيها وأقاموا فيها، فعاشوا طفرة الإقبال المحموم على التعليم بوصفه بابَهم الوحيد إلى خلاص صوفيّ أو لاهوتيّ من هويّتهم وهويّة أهلهم الطبقية الدونية أو المثلومة في المدينة. وفي مسيرة محاولاتهم الخلاصَ من تلك الهويّة، ومن يُتْمهم الاجتماعي، راحوا يصنعون مثالاتهم المتعالية المتسامية من كلمات هواميّة غريبة وجديدة عليهم، زوّدهم بها التعليم والمدينة: كلمات الأغاني وأصوات المغنّين/ات، بعض الكتب ومجلّات نجوم الفن.
لكنّ الصبوحة والشحرورة، المغنّية اللاهية المغناج صوتاً وكلماتٍ وحضوراً، لم يكن شيء فيها يناسب مثالاتِ أولئك المراهقين الجديدة التي ولّدوا منها ذواتِهم وشخصيّاتِهم مكبوتةً، قلقةً، خائفةً، وجريحةً جرحاً وجوديّاً غامضاً. وذلك على عكس ما كان صوت صباح العلنيّ المشمس يغنّي لاهياً بكلمات الحياة، بأشيائها ولحظاتها العاديّة الدارجة، بلا تعالٍ ولا تسامٍ، بلا أحلام يقظة صوفيّة وجريحة، بلا حنين حزين شفّاف. فصوت صباح لم يكن ليبعث في جوارحهم تلك الرغبة التي تمكِّنهم من عناق ذواتهم المتعالية، المجاهدين لاجتراحها من كلمات مثالاتهم الطيفيّة.
حتى بدايات الحرب الأهلية في عام 1975، ظلّت رغباتهم العاطفيّة والجنسيّة العسيرة خائفةً مكتومةً كفضيحة شخصية يكابدونها منفردين في الخفاء، كأنّها همٌّ وعار قدريّان، غامضان وسُفليّان، ألمَّا بأجسامهم وأنفسهم، ولا سبيل إلى تداركهما وتصريفهما بغير إزاحتهما وترسيبهما أو خنقهما كطاقة مؤلمة، لا تلبث أن تتعفّن في الجسم والنفس.
بعضهم دفعته تلك الطاقة المؤلمة المتعفّنة إلى عراك يوميّ في الشوارع. آخرون دفعتهم إلى رياضة كمال الأجسام. وقلّة منهم حوّلوها طاقة روحيّة أو متروحنة متعالية، بواسطة الكلمات والصور والأغاني التي اتُّخذت وسيطاً "فنّياً" ينطوي على توقٍ إلى الخلاص من تلك الوصمة أو العار القدريّ.
جبران وفيروز
هكذا وُلِدَ شغفهم الولِهُ بالكلمات والصور والأغاني ونجومها: كلمات جبران خليل جبران، أغاني فيروز، وصور نساء الإعلانات في المجلّات الفنّية. هؤلاء وسواهم من أمثالهم، هم أبطال أو نجوم مراهقتهم العاطفية والفنّية المتمادية في الستّينيات اللبنانية في بيروت، وفي ضواحي بيروت.
صوت صباح صادحٌ فتّان ضاحك فرِح بصباه الحسّي الأبديّ، غير هيّاب من فتنته الشهيّة أو الشهوانيّة، ولا من مباشرته العلنيّة الطازجة، بلا إرجاء وانتظار... 8 سنوات على رحيل الصبّوحة
كان جبران خليل جبران النجم الأوّل الذي اهتدوا إليه في صحراء مراهقتهم، توقاً إلى اجتراح صورة فنّية، ذاتية وخاصة وشخصية، لذواتهم وللعالم. فيروز أيضاً، صوتاً وأغانيَ وشخصيّةً نجوميّة، كانت صوتاً جبرانيّاً يأتيهم من سراب مائيّ في تلك الصحراء. أمّا صباح الحاضرة بقوّة بأغانيها وصوتها وشخصيّتها في صحراء ستّينيّاتهم اللبنانية، فسرعان ما نفروا منها في مطالع مراهقتهم، نفوراً علنيّاً، كنفورهم العلنيّ من صور نساء الإعلانات الفاتنات في المجلّات الفنّية، فيما كانت هذه وصباح تشتعل سرّاً في ليلهم السرّيّ المعتم.
على قدر ما كانوا يعيشون منسيّين مغفَلين في عتمة اجتماعية وعاطفية وطبقية وتربوية وتعبيرية يتيمة، كانوا يتوقون إلى الخروج إلى الضوء. لكنّهم أبوا إلا أن ينتظروا انهمار ذاك الضوء نورانيّاً من الأعالي، من كلمات جبران وصوت فيروز، لينتشلهم من العتمة والعدم، ويطهّرهم من عفن الرغبة والشهوة السفليّتين (صوت صباح وأمثالها).
وهم في هذا عاشوا مراهقتهم مرصودين وموعودين بردم الهوّة الغامضة بينهم وبين ذواتهم الصوفيّة، بين واقعهم الحيّ والعالم الروحاني الذي منه تخاطبهم الكلمات والصور الضبابيّة الشفّافة، فتضفي على وجودهم وذواتهم الوليدة غلالات روحيّة باهرة.
الأحزان العربيّة ونجومُها
في الربع الثالث من القرن العشرين (1950-1975) كان معظم نجوم الأدب والغناء اللبنانيين والعرب نجوم احتفال أجيال شابّة بتفتُّحها الذاتي وتوقها المتمرّد طلباً للحرّية والتحرّر، والخروج على التقاليد الاجتماعية والتعبيرية المحافظة. لكنّ ذلك الاحتفال كان حزيناً وجريحاً، وفقاً للباحث المصري ناجي نجيب في "كتاب الأحزان: فصول من التاريخ الوجداني للفئات المتوسّطة العربية" (منشورات "دار التنوير" بيروت، 1983).
الصبوحة والشحرورة، المغنّية اللاهية المغناج صوتاً وكلماتٍ وحضوراً، لم يكن شيء فيها يناسب مراهقي زمنها التي ولّدوا منها ذواتِهم وشخصيّات مكبوتةً، قلقةً، خائفةً، وجريحةً جرحاً وجوديّاً غامضاً
علّة هذين الحزن والجرح تكمن في أنّ "بزوغ شعور الفرد بذاتيّته وحرّيته واستقلاله" وتعبيره عنها تعبيراً فرديّاً وذاتيّاً وُلدا كلاهما معلَّقين، محاصَرين ومكبوتين بالاجتماع والثقافة التقليديَّين، وفي حال من الغربة والانفصام عن الواقع الحيّ أو الحسّيّ.
نَجَمَ عن هذه الولادة الحزينة والجريحة شعور دفين ومسبق بالارتكاس والإحباط. وهو تفتَّق عمّا يسمّيه ناجي نجيب "أحزان المواطن الصغير" الممتلئ بالتوق المحاصَر إلى توكيد ذاتيّته وفرادتها والتعبير عنهما، منذ بدايات ما سُمّي عصر النهضة الأدبية العربية، وصولاً إلى ما سُمّي النهضة الثانية في ستّينيات القرن العشرين وسبعينياته، في لبنان وبيروت على وجه الخصوص.
والأحزان تلك وليدة التوق المكسور إلى التحرّر الذي جابهه الواقع الاجتماعي والسياسي التقليدي بصدٍّ كبير. وهكذا صاحَب الشعور بالفردية والذاتية والانعتاق إحساسٌ بضعف التجربة الحيّة وامتناعها، فاستُعيض عنها بإعلاء تصعيديّ ينطوي على تمرّد محبَط وغضب مقيم وانسحاب من العالم أو الواقع، ثمّ اتّهامه وإدانته على نحو عامّ ومبهم.
على هذا النحو وُلد الخطاب الأدبي والغنائي العربي واللبناني الحديث ولادةً عقيمة، ممتلئة بما يسمّيه الباحث المصري تسميات شتّى: "الحزن السعيد، الحزن الطروب، رومنطيقية الأشجان، هواية الأحزان، الأسى الخالد، سعادة الدموع... إلخ".
وهذه كلّها جسّدها على أكمل وجه الأدب الذي كتبه وصاغه مصطفى لطفي المنفلوطي. وتتجلّى بدرجات وأشكال مختلفة ومتفاوتة في كثير من النماذج الأدبية والغنائية: جبران خليل جبران، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، وصولاً إلى فيروز الرحبانيّة، صوتاً وكلماتٍ وشخصيّةً نجوميّة، التي قد يكون غناؤها نموذجاً خاصّاً أو متفرّداً في تعبيره عن ذلك الحزن، بانطوائه على شفافيّة آسرة تبعث العزاء.
تمرّد مخنوق وكارثة
بهذا المعنى يعبّر الخطاب الأدبي والغنائي العربي الحديث عن عطش مرير إلى فرديّة وذاتيّة مثلومة أو موقوفة في مجتمعات تمنع الفردية والذاتية وتخنقهما، وتحاصر التجربة الحسّية الحيّة الحرّة. لذا تُظهر الذاتية التعبيرية في هذا الخطاب حزناً وتأسّياً ذاتيَّين وعزاءً للذات الجريحة. لكنّ الحزن في الأدب الجبرانيّ والغناء الفيروزيّ يبدو شفّافاً آسِراً، كأنّه رحلة في الطبيعة اللبنانية وصورها. وهي رحلة تمزج الحزن بالحلم والحنين والطفولة والبراءة، وتقيم لها معابد للفرح الحزين والعزاء والتحرّر الصوفيّ من طريق الحلم والحنين والطفولة.
في صوت صباح ليس من أثيريّة ولا بوح خجول يرفعان العالم إلى علياء مثالات عاطفية مراهقة خلف غلالات روحية نورانية تصفّي الواقع من مادّيته ورغباته
لذا أقام شطر كبير من مراهقي الستّينيات والسبعينيات في بيروت وعواصم عربية أخرى، أقاموا للحزن والألم والتمرّد المختنِق معابد أدبيّة وغنائية (المنفلوطي، جبران، أم كلثوم، فيروز، العندليب الأسمر...)، ولجأوا إليها في صحراء مراهقتهم العاطفية والفنّية التي كانت مداراً لاحتفال كرنفالي صاخب بالمدينة والحرّية والتحرّر والتمرّد والغضب. لكنّ هذا كلّه لم ينجلِ إلا عن الكارثة.
مراهَقة خالدة تكتم أحزانها؟
على خلاف هذا كلّه كانت صباح في مجال الغناء ونجومه. لذا سرعان ما طردها مراهقو التمرّد والحنين المختنق من صحاري مراهقتهم. فهي لم تخاطبهم لا بلغة مثالهم المتعالي ولا بصوته. فصباح كانت ولا تزال على الضدّ من هذا كلّه: صوتاً فاتناً مترعاً بالغواية والإثارة، بل يتقصّد الغواية والإثارة، وتلهو بهما هنا والآن، في الحاضر، في اللحظات الحسّية العابرة.
إنّها نجمة غناء كلّ شيء عاديّ، نافل ومراوغ ولاهٍ، وأحياناً مبتذل في محاكاته الكيتش الدارج في الحياة اليوميّة، لكن بصوت صادح فتّان ضاحك فرِح بصباه الحسّي الأبديّ، غير هيّاب من فتنته الشهيّة أو الشهوانيّة، ولا من مباشرته العلنيّة الطازجة، بلا إرجاء وانتظار.
في صوت صباح ليس من أثيريّة ولا بوح خجول يرفعان العالم إلى علياء مثالات عاطفية مراهقة خلف غلالات روحية نورانية تصفّي الواقع من مادّيته ورغباته. لذا كان مراهقو الستّينيات والسبعينيات المتعلّمون المتحدّرون من هجرات ريفية إلى المدينة، يُفاجأون بأنّ ما يرغبونه ويشتهونه في صحراء مراهقتهم هو ما تغنّيه صباح، وهو أقرب إليهم من مثالاتهم المتعالية.
لكنّهم ما كانوا يدرون أنّ رحلتهم الصوفية لاجتراح ذواتهم وشخصيّاتهم الجديدة الموهومة، تنطوي على إنكار شبه دينيّ لِما يكابدونه في حواسّهم وأجسامهم من رغبات حسّية مكبوتة مختنقة بسطوة المثال المتعالي الذي يحوّل الرغبة طاقة خياليّة للحنين وأحلام اليقظة.
صباح المنبوذة من صحراء مراهقتهم، هل ظلّت على مدى أجيال صوتاً لمراهَقة خالدة تُخفي حزنها وآلامها وخيباتها لتغنّي فرح الغواية العفويّة، كأنّها تغنّي لتعيش في حاضر أبديّ؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون