في منطقة جل الديب، في ضاحية بيروت الشرقية، دخلت الطفلة ذات السنوات السبع، الكنيسة، وليس في خيالها إلا ربها والغناء. أخذت تبكي أمام المذبح، وتطلب من الله أن تكون فنانة مشهورة. كانت جانيت على يقين أن ربها سينصفها، فتلك الكنيسة يستجاب بها الدعاء، وتتحقق الأماني لكل من يدخلها أول مرة، كما أخبرها أحد أصدقاء والدها، لدى زيارتها إليه مع عائلتها. وبالفعل، لم يمض زمن طويل على دعائها، إلا وسافرت إلى القاهرة، هوليوود الشرق حينذاك، لتصبح خلال سنوات قليلة إحدى نجمات الصف الأول، في الغناء والتمثيل. بعد جل الديب، انتقلت الأسرة إلى بيروت، لتلتحق "الصبوحة" بمدرسة للراهبات فيها فرقة مسرحية. أدت دوراً في مسرحية "الأميرة هند"، ومنها بدأت تتعرف إلى صحافيين مثل كنعان الخطيب، وتؤدي موشحات وأغاني جبلية. وبعد فترة، سمعت عنها المنتجة السينمائية آسيا داغر، وأرسلت إلى وكيلها في لبنان ليتعاقد مع الشابة على أداء 3 أفلام مقابل 150 جنيهاً مصرياً، ويرسلها إلى القاهرة. ترك الأب بيروت وسافر إلى القاهرة، مصطحباً ابنته التي لم تتجاوز الـ17 عاماً، لتنطلق جانيت جرجي فغالي، المولودة في 10 نوفمبر 1927، كنجمة في سماء الفن، وتقدم فيلم "القلب له واحد" عام 1944، مع أنور وجدي، والمخرج هنري بركات.
لم يكن عمرها قد تجاوز الـ18 عاماً حين ظهرت باسم "صباح"، الذي قيل إن الشاعر صالح جودت هو من اختاره لها. وذُكر أيضاً، أن آسيا داغر نشرت صورة للفنانة الصاعدة في مجلة "الصباح المصرية"، وطلبت من الجمهور أن يختار لها اسماً، فاختار اسم المجلة التي نشرت فيها الصورة، تعبيراً عن إشراق وجهها. ورجحت الناقدة خيرية البشلاوي، أن تكون كلتا الروايتين صحيحتين، فالمنتجة آسيا تريد اسماً جديداً لنجمتها، وبالتالي، لا مانع من أن تستشير أكثر من شخص، وتشرك الصحافة بالأمر، كي تستقر على الاسم الأفضل.
المُحبة القادرة على الحلم
صباح، شمس الشموس، الشحرورة، الأسطورة، نستطيع أن نوجز فلسفتها في الحياة بأنها المحبة القادرة على الحلم والتجدد باستمرار، بدون أن تعبأ بأي قيد. حتى الموت الذي يمثل نهاية لكل شيء، تراه الصبوحة فرصة لدنيا جديدة، ففي تسجيل لإذاعة مونت كارلو قالت: "الموت غير مخيف. أنا شبعت من هذا الكون، لأذهب وأختبر شيئاً جديداً".قدمت صباح نحو 3000 أغنية و85 فيلماً سينمائياً، ونحو 24 مسرحية استعراضية، بحسب الناقد محمد الحنفي، وكان التجدد والتغيير سمتين من سماتها. في الأغنية، حصرها الملحنون في البداية داخل اللون الخفيف، لكن مع النضج قدمت الأغاني الطربية. ومن أداء أغانِ خفيفة كهذه:
انتقلت صباح لتغنّي أغاني كلاسيكية طربية
كذلك برعت في الغناء باللون اللبناني الجبلي:
وفي السينما، قدمت دور الفتاة الأرستقراطية في أفلام عدة، منها "شارع الحب" أمام عبدالحليم حافظ:
كما أدت دور الفلاحة في فيلم "عقد اللولو":
ودور الفتاة اللعوب في فيلم "إغراء":
وغيرها من الأدوار المتنوعة. وترى البشلاوي أن دورها في فيلم "ليلة بكى فيها القمر" قد يكون قريباً من شخصيتها أكثر من غيره. فصباح كانت فنانة مشهورة، وتزوجت من هم أصغر منها سناً كفادي لبنان، وساعدته، ثم خانها. وهي قصة شبيهة بما جرى في أحداث الفيلم المذكور، الذي شاركها بطولته الفنان حسين فهمي.
أزواج صباح
كما كان التنوع والتجديد المبني على التحرر من سمات فن صباح، كذلك كان الأمر في علاقاتها الزوجية. تزوجت 9 مرات من رجال لهم اتجاهات ومشارب مختلفة، منهم نجيب شماس، التاجر ورجل الأعمال الذي كان يكبرها سناً، وأنجبت منه ابنها "صباح"، واستمر زواجها به 5 سنوات. ومنهم الأمير خالد، ابن ولي عهد السعودية وملكها بعد ذلك، سعود بن عبدالعزيز، عام 1948، واستمر زواجها به لأشهر ثم طلقها، لضغوط من عائلته. ومنهم السياسي اللبناني يوسف حمود الذي قضت معه عامين وانفصلا لارتباطاته السياسية وانشغاله عنها.صباح المسيحية المارونية، تزوجت أيضاً من الإعلامي المصري المسلم المتدين أحمد فراج، الذي كان يقدم البرنامج الديني "نور على نور"، والذي أقنعها بالتحول إلى الإسلام قبل الزواج منه. وظهرت في إحدى حلقات برنامجه وهي تضع حجاباً على شعرها، بحسب الناقد طارق الشناوي. وبعد زواج استمر 3 سنوات انفصلا لاعتراضه الدائم على أدوار سينمائية تعرض عليها، بالإضافة إلى تحررها الذي لم يكن يعجبه. صباح، الوجه السينمائي الذي نال حظه من الشهرة في منتصف أربعينيات القرن العشرين، تزوجت أيضاً بعازف الكمان المصري أنور منسي، في بداية خمسينيات القرن العشرين، وأنجبت منه ابنتها هويدا في مارس 1952، لكنهما انفصلا نتيجة إهماله لها، و"انشغاله بالسهر والسكر ولعب القمار"، كما صرحت لوسائل إعلامية.
وتزوجت النجم رشدي أباظة بعد أن أقنعها أنه سينفصل عن زوجته الأولى، الفنانة سامية جمال. اتفقا أن يظل زواجهما في السر، ولكن الخبر تسرب إلى الصحافة، واضطر رشدي إلى أن يعلن أنه لن ينفصل عن سامية جمال. فثارت صباح وطلبت الطلاق ورفض زوجها. حينها لم تجد حيلة سوى الارتداد عن الإسلام والعودة للمسيحية، كي تحكم المحكمة بطلاقهما، يؤكد الشناوي. تزوجت بأحد رواد المسرح الهزلي بلبنان، المؤلف والمخرج والممثل وسيم طبارة، واستمر زواجهما 4 سنوات. وكذلك بالفنان المصري يوسف شعبان، الذي تزوجته لمدة شهر واحد، وانفصلا لأسباب مجهولة كما تزوجا لأسباب مجهولة. صباح لا يمنعها فارق عمري من الارتباط والحب، فكما أحبت وتزوجت نجيب شماس الذي كان يكبرها بنحو عقدين، تزوجت فادي قنطار، الشهير بـ"فادي لبنان"، الذي كان في مثل عمر ابنها. واستمر زواجها به 15 عاماً تقريباً، وأشيع أنها انفصلت عنه لأنه في آخر سنواته معها كان يستغلها مادياً ولا يهتم بها.
جرأة وحرية
الجرأة المدعومة بالإيمان والحرية كانت منهجاً لدى صباح. وهناك أمثلة على ذلك. يقول الإعلامي والكاتب جهاد أيوب، إنه سألها مرة عن الجنس في حياتها، ففوجئت، لأن صحافة الشرق تخجل من هذه الأسئلة. وأجابت: "سؤال مهم لا تسأله صحافة الشرق، ولم يسألني أحد غيرك هذا السؤال، سأرد بوضوح ودون تجميل: الإنسان الذي يفكر دائماً بالجنس يغلط كثيراً، ويخطئ كثيراً، ولا يستمر بالنجاح. للجنس مرحلة معينة في حياة الفنانة، وعمره أقصر من الجنس عند الفنان الرجل، وبعد ذلك تسقط ورقة التوت. لست متطلبة ولم أنجر وراء الرجل السكسي، وأخطأ من صورني كذلك، فهو كتب إما من غيرة، أو طُلب منه أن يكتب هكذا لأسباب مرضية".وأضافت: "الجنس أخذ من حياتي 10% وهذا سيصدم الجميع، نعم هذه الحقيقة، لذلك يوجد أزواج انظلموا معي لأنني وضعت الجنس في المرتبة الثانية من حياتي. الجنس تضييع للوقت، هو مطلوب كمتعة وحالة نادرة لكنها للحظات، بعدها تأخذ فسحة تأمل قد تصاب بانزعاج أو تصاب بالخديعة وتعود إلى حلمك، وتفكر كيف ستستمر في عملك. البعض يأخذ الجنس كوسيلة للوصول، لكنها وسيلة مؤقتة ووضيعة تبعد العقل رغم ما تحدثه من سعادة موقتة ومسجونة بزمن. الجنس لعبة عند من لا يعرف هدفه فيدمره، ومحطة عند من لا يبالي به، أنا أحب الشباب الحلوين وأحب الجمال، ولكن أجمل شاب لا يعني لي جنسياً، على عكس ما يأخذه عني الناس، أو ما أخذوه بسبب زيجاتي المتعددة. صباح لم تحب غير صباح. هناك أناس سخفاء يحبون الجنس ويفكرون به فقط أكثر من الحياة، هؤلاء لا ينجحون مع مرور الوقت، ونجاحاتهم وقتية تزول بسرعة ناهيك عن أخبارهم التي نشرت على صنوبر بيروت". لم تخجل صباح من التغزل علناً بجمال عبد الناصر، ونقل عنها الكاتب فداء الشندويلي، أنها غنت أغنية "من سحر عيونك"، في إحدى الحفلات الخاصة بالجيش المصري، بحضور عبد الناصر. وكانت صباح تنظر إلى الرئيس وهي تغني، ولاحظ الجميع أنها تتغزل في عينيه. وذكر فداء تلك الواقعة في مسلسل "الشحرورة"، الذي قدم من خلاله سيرتها الذاتية، وأكد في تصريحات إعلامية أن صباح هي التي روتها له بنفسها. لكن الشناوي، ينفي هذه الرواية، رغم تأكيده أنها جاءت من لسان صباح، مشيراً إلى أن الأغنية قدمت في فيلم "إغراء" عام 1957، ومنع الرقيب عرض الأغنية في الإذاعة حينها، لمبالغة صباح الأنثوية وهي تنطق "ياااه"، فعادت وسجلتها من جديد بعد تخفيف المبالغة في نطق الكلمة. مؤكداً أنها لم تكن أغنية حفلات، ولم تغنها الصبوحة لجمال عبد الناصر، وربما اختلط الأمر على صباح نفسها بعد مرور زمن.
جرأة صباح جعلتها لا تكترث بعواقب صداقتها بإنريكو ماسياس، المغني اليهودي الفرنسي من أصل جزائري، والمشهور بدعم إسرائيل، والغناء معه، في وقت كان العداء لإسرائيل مادة دسمة في كل الإذاعات والصحف العربية. وتسبب ذلك في مقاطعة الإذاعات العربية لأغانيها مدة خمس سنوات، كما تسبب في إبعادها عن مصر، وإسقاط الجنسية المصرية عنها، بعد أن كانت قد حصلت عليها عند زواجها بأنور منسي. وقيل إن ذلك كان بأمر من عبد الناصر شخصياً. ودعم الأزمة توتر العلاقات مع الرئيس اللبناني كميل شمعون حينها، لكنها عادت إلى مصر بعد سنوات، واستردت جنسيتها في عهد أنور السادات، وغنت للمصريين:
تجرأت على قوانين الزمن نفسه ولم تحسب له حساباً، فالفنانة العربية الثانية، بعد أم كلثوم، التي غنت على مسرح الأولمبيا في باريس، مع فرقة روميو لحود الاستعراضية، ومسرح كاناغري في نيويورك، ودار الأوبرا في سيدني، وقصر الفنون في بلجيكا، وقاعة ألبرت هول في لندن، ومسارح لاس فيغاس، وقدمت كماً ضخماً من الإنتاج السينمائي والمسرحي، هذه الفنانة وصل بها الحال إلى أن تكون بلا منزل في يوم من الأيام. فهي كانت تنفق بلا حساب، وتعطي بكرم لكل من حولها، حتى أنفقت كل ما كانت تملكه، بما في ذلك منزلها الذي باعته لعلاج ابنتها هويدا. وعرض عليها العقيد معمر القذافي أن يبني لها قصراً في ليبيا، لكنها رفضت، وكانت تعيش آخر أيامها في فندق.
حتى عندما ودعت الدنيا، ودعتها صباح بجرأة، فقبل أن ترحل طاردتها شائعات وفاتها أكثر من مرة، وكانت ترد على ذلك بأنها لا تخشى الموت، وأوصت بألا يتخلل تشييع جنازتها أي مظهر حزن، بل أن تُزف إلى قبرها على أنغام الدبكة اللبنانية، وهو ما حدث في 24 نوفمبر 2014.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...