ماذا نقول إذا طلب صديق أو قريب رأينا في أن يتزوج من امرأة تكبره بعشرين عاماً، وماذا يكون رأينا في علاقة حب أو زيجة لحبيبين غير متكافئين يعيشان في مجتمع شرقي؟ بالطبع تتغير وجهة النظر بحسب المكان، نظراً لاختلاف التقاليد من مجتمع لآخر.
يباغتنا المخرج هادي الباجوري بطرق أبواب قليلاً ما يطرقها المخرجون، فيطرح أسئلة عن الحب دون أن يقدم إجابات عليها، لأن الأمر يتعلق بتقاليد اجتماعية جامدة لا تتفاعل إيجابياً مع تجارب الحب الخارجة على المعتاد، بعد أن درج المجتمع على علاقات محددة، قاطعة، لمئات السنين.
الرومانسية... وحيرة المشاهد
ذلك أن تفاصيل فيلمه "ليلة قمر 14" (2022)، تضع مشاهديه أمام حيرة حقيقية، فهو تعاطف مع قصص المحبين التي تناولها الفيلم، لكنه يرفض استمرارها بسبب هذه التقاليد التي تربّى عليها، ولا يستطيع التفكير في تغييرها أو تطويرها من أجل تحقيق السعادة والظفر بمن يحب ويهوى.
فعندما عرض فيلم "ليلة القدر" من إخراج وبطولة وإنتاج حسين صدقي في أوائل خمسينيات القرن الماضي، وكان يدور حول علاقة حب وزواج بين رجل دين مسلم وفتاة مسيحية. واجه الفيلم موجة غضب عارمة أدت إلى وقف عرضه بسبب اسم الفيلم الذي أغضب المسلمين، وبعد ثورة يوليو 1952 تم تغيير الاسم إلى "الشيخ حسن" وسُمح بإعادة عرضه عام 1954، ولكن تم منعه مجدداً بسبب غضب المسيحيين، لأن فتاة مسيحية تزوجت من داعية مسلم، على الرغم من أن الفيلم يدعو إلى التعايش ونبذ الخلافات الناشئة عن اختلاف الأديان.
أما فيلم "ليلة قمر 14" فهو يواجه العلاقات الرومانسية الخارجة على هذه التقاليد ويقوضها قبل إتمامها بسبب عدم رغبة المجتمع في استمرارها، وهي الحقيقة التي تطرحها الأحداث، ولم يرض بها كثير من المشاهدين الذين يفضلون النهايات السعيدة خاصة في قصص الحب. وذلك على الرغم من أن قبول ورغبة وموافقة الطرفين يعدّ الشرط الأهم لإتمام الزواج.
علاقات رومانسية غير متكافئة
يطرح الفيلم أسئلة حول علاقات الحب غير المتكافئة وموقف المجتمع منها، دون أن يقدم إجابات مُرضية للمشاهد كما يحدث في كثير من الأفلام، وهي الطريقة التي يتبعها الباجوري في جُل أفلامه الروائية بدءًا من "واحد صحيح" (2011)، و"وردة" (2014)، وحتى "هيبتا" (2016)، حيث يحرص على تقديم أفلام مختلفة في القالب والمحتوى، وذلك عبر رؤية غير نمطية لعلاقات الحب والزواج.
فيلم "ليلة قمر 14" (2022)، يضع المشاهدين أمام حيرة حقيقية، فهو يتعاطف مع قصص المحبين التي تناولها الفيلم، لكنه يرفض استمرارها بسبب التقاليد التي تربّوا عليها
تدور الأحداث حول علاقات الحب التي تُكَلل بالزواج، لكنها لا تنتهي على هذا النحو، رغم ما يربط بين طرفيها من حب حقيقي، ولديهم الأهلية في اختيار شريك الحياة، لكن مصائرهم التي يقررها المجتمع متمثلًا في الأسرة يؤول بهم إلى الفرقة، والسجن، والموت.
ينقسّم الفيلم إلى خمس قصص أو حكايات منفصلة يكون طرفا كل منها الرجل والمرأة ويحيطهما أفراد الأسرة، خاصة أسرة المرأة، باعتبارها الحلقة الأضعف اجتماعياً، ومن السهل الضغط عليها للرضوخ لمطالب الأسرة بإنهاء العلاقة. بينما الرجل، طبقا للمجتمع الذكوري، هو المسؤول عن قراراته ولا يتدخل أحد في اختياراته، يربط بين القصص الخمس القمر في ليلة 14، ونشرة الأخبار، ومذيع الراديو.
الدين والطبقية وفارق السن... مبررات لإنهاء العلاقة
جاءت القصص عاطفية لكنها غير متكافئة بين الطرفين إما لأسباب دينية أو عمرية، أو لأسباب تتعلق بالوالدين، كأن يكون وظيفة الأم سبباً للرفض، ولذلك تنتهي بالفشل رغم جديتها وصدق المشاعر، بسبب موقف المجتمع الرافض، متمثلا في الأسرة، بدلاً من أن يكون مصيرها الزواج.
يربط بين القصص الخمس أنها وقعت في ليلة واحدة، هي ليلة 14 من الشهر الهجري، والتي يكون فيها القمر بدراً مكتملاً ويطلق عليه "قمر 14"، حيث تجرى الأحداث وتنتهي في هذه الليلة، كما يربط بين القصص أيضاً صوت الراوي الذي يأتي من البداية متحدثاً عن اكتمال البدر ومدى تأثيره على الحياة والناس. كما يربط بين الأحداث التي تكاد تكون متفرقة برنامج تليفزيوني يتابع الأحداث ويستعرضها ويشارك فيها معبراً عن رأي المجتمع من خلال بعض المداخلات، فيقوم بمتابعة الحكايات والعلاقات وما تؤول إليه.
يتكشف لاحقاً أن الصوت للمذيع مراد النجار (خالد النبوي) في برنامج إذاعي، وانه أحد أبطال القصص الخمس، وقد فرقته الظروف عن حبيبته منال (شيرين رضا)، لكنه يقرر في نهاية البرنامج أن يذهب إليها، وعليها أن تسامحه على البعد، ويختار المخرج لهذه العلاقة الوحيدة النجاحَ، ربما بحثاً عن نهاية سعيدة ومُرضية للجمهور. لم يفصح الفيلم عن سبب ابتعاده كل هذه السنوات عن حبيبته، ولماذا قرر الليلة بالذات أن يعود إليها، فيترك عمله فجأة ويسافر من أجلها إلى الإسكندرية، ولم يقدم المخرج التبرير الدرامي لذلك مما يضعف بناء الحدث ويؤثر على العمل كله.
لا ينشغل الفيلم بمدى صحة أو خطأ هذه العلاقات رغم أنها علاقات سوية ينقصها التكافؤ الاجتماعي، فلا يكشف عن موقف تجاهها، لكنه يعرضها ويتوقف عندها، مستعرضاً كل ملابساتها، ويببن أسباب رفضها من قبل المجتمع، ما يجعل أطراف العلاقة مضطرين للرضوخ لمطالب الأسرة بعدم الاستمرار.
رضوخ المرأة وإذعانها لمطالب الأسرة
يأتي هذا الرضوخ من جهة المرأة في الأساس، وعلى الرغم من أن عالية (غادة عادل) في منتصف العقد الخامس وتعمل أستاذة بالجامعة، وتملك المقدرة الكافية لاتخاذ قرار، إلا انها تستجيب لمطالب العائلة بإنهاء العلاقة مع من تحب، لأنه يصغرها بعشرين سنة، وعلى الرغم من منطقية الاعتراض وضرورة إنهاء العلاقة في قصة الحب بين مريم (أسماء أبو اليزيد) وإبراهيم (أحمد حاتم) وعدم رغبة الأسرة في استمرار ابنتهم المسيحية في حبها لجارها الشاب المسلم. وركّز الفيلم على موقف الأسرة المتشدد بفكرة الحرق ومحاولة القتل للتدليل على التطرف الديني من قِبل الأب والأخ.
نجح المخرج في التعبير عن حالة الخوف التي يمر بها إبراهيم ومريم من خلال تأثيرات الإضاءة وأداء الممثلين، حيث ساعدت الظلال التي أحاطت الشخصيات داخل المخزن وخارجه على إبراز حالة الخوف، واستطاع مدير التصوير أحمد بشاري من خلال تركيزه على وجوه الشخصيات واختيار الزوايا المناسبة، أن يعبر عن حالة الصراع بتمكن شديد سواء في المشاهد التي جمعت بين الشخصيتين الرئيسيتين داخل المخزن المظلم، أو أسرة مريم والأهالي وأفراد الشرطة خارج المخزن.
الحكم بالفراق بسبب عمل الأم
أما نادية (مي الغيطي) فتربطها علاقة حب بشريف (أحمد مالك) الذي تقدم لخطبتها 4 مرات، ووالدها (بيومي فؤاد) يصرّ على الرفض بسبب أن أمه ممثلة، حيث يقول: "أنا راجل فلاح... ما ينفعش أجوز بنتي لواحد أمه ممثله"، ويقول أيضاً: "أنا شوفت أمك بقميص النوم عشر مرات".
وهذا سبب غير منطقي على أرض الواقع، خاصة في العصر الحالي، الذي أصبح فيه الممثلون أصحاب مكانة اجتماعية بارزة. وجاءت علاقة أمينة (ياسمين رئيس) بحبيبها يحيى (أحمد الفيشاوي) علاقة صادقة لكن أسرة الفتاة دبرت مكيدة للتخلص من يحيى بسبب الفارق الطبقي، واستطاعت أن تصوره لحبيبته وللمجتمع كتاجر مخدرات وأدخلته السجن ظلماً، ما يكشف جبروت الأسرة في مواجهة حبيب ابنتهم، ويكشف أيضاً عن موقف ضعيف للمرأة، المغلوب على أمرها، اعتادت على تقديمه السينما التقليدية لسنوات طويلة.
ترسيخ مفهوم السينما النظيفة
أخذ معمار الفيلم بعداً مختلفاً، فقد احتوى على حكايات يربط بينها أن نهاياتها وقعت في ليلة واحدة، حيث ينتهي كل شيء، بالفراق، أو بالسجن، أو بالحرق والموت، عدا حكاية واحدة انتهت بلقاء المحبين وبعث الحياة في علاقة الحب من جديد بعد سنوات من البعاد، وتعمد المخرج أن تكون هذه القصة هي الأخيرة حتى تكون نهاية الفيلم تسعد الجمهور، وهي الطريقة التي درجت عليها أفلام السينما المصرية في الخمسينيات والستينيات خاصة.
يضع الفيلمُ المشاهدين أمام حيرة حقيقية، فبين التعاطف مع قصص المحبين، يرفض استمرارها بسبب التقاليد
يرسخ الفيلم مفهوم السينما النظيفة، بعدم اللجوء إلى مشاهد حارة، فعلى الرغم من موضوع الفيلم الذي يدور حول القصص الرومانسية، وعلاقات الحب بين الشخصيات الرئيسة؛ فإن الفيلم يخلو تماماً من مشاهد الإثارة أو حتى الإيحاء، مما يحسب لكاتب السيناريو محمود زهران ومخرج العمل حيث تمكنا من تصوير مشاهد الحب وقسوة المحيطين، دون لجوء للتعبير عن لهفة المحبين وحرمانهم وتدفق المشاعر بينهم. مما كشف عن اتساق الرؤية الفنية تجاه حالات الحب، والتأكيد على أن هذه العلاقات تسمو فوق الغرائز والرغبات.
المشاهد الدالة... وأغنية النهاية
حمل الفيلم العديد من المشاهد الدالة، مثل المشهد الذي جمع غادة عادل وخالد أنور يجلسان فوق سطح البيت، تحيطهما نباتات خضراء ويبدو القمر في أبهى صورة، وفي الخلفية صوت فيروز "نحن والقمر جيران"، وجاءت خلفية الصورة في عمق الكادر لأشجار ممتزجة بالظلام، فلا يبدو الشجر شجراً، ويبدو الظلام في الخلفية مسيطراً إلى حد ما، كدليل على المستقبل الغامض وقتامة ما ينتظرهما.
كذلك الخلفية المظلمة في المشهد الذي جمع مريم وإبراهيم قبل إشعال الحريق في المخزن، بينما تحضر الخضرة من نباتات وأشجار في مشهد البلكونة بين أحمد مالك، وبيومي فؤاد، ومي الغيطي وفي الخلفية يسيطر الظلام على عمق الكادر.
من الدلالات المعبّرة أيضاً أن جميع القصص دائما ما تنتهي بعناق بين المحبين قبل الفراق أاو قبل الموت، باستثناء العلاقة الأخيرة بين النبوي وشيرين رضا التي انتهت بقبلة لاستمرار العلاقة وتكليلها بالارتباط، وعندما انطلق بسيارته إليها، في الليلة القمرية ذاتها، كانت الأضواء تحيط الطريق من كل جانب، وتنبعث من المباني والشوارع، بينما يأتي في الخلفية صوت وردة وأغنية "بحبك والله بحبك" في مشهد رومانسي بديع.
جاء اسم كل من البرنامج الإذاعي والتليفزيوني مناسباً ومعبراً عن الحدث، حيث حمل الأول اسم "الزمن ده"، فيما حمل الآخر اسم "يحدث اليوم" للتدليل على الواقع الذي تمر به العلاقات العاطفية وقصص المحبين. كما عبرت أغنية النهاية عن أحداث الفيلم، حيث جاءت بلحن سريع وكلمات دالة:
ليه كل براح بيضيق على أحلامنا المكبوتة
دايما أنا وانتي الحلقة الأضعف في الحدوتة
ما طلبتش أبدًا من الدنيا حق مش ليَّ
والدنيا مصرة تفرقنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاتكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...