شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"احرقْ كتبي!"... هل يجوز نشر مخطوطات الكتّاب بعد وفاتهم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 22 نوفمبر 202203:03 م

الموت في أحد تعريفاته هو توقف الزمان عن دورته، مستقراً عند نقطة الماضي، حيث لا حاضر ولا مستقبل، غير أن الأدباء وحدهم قادرون على العبث في المستقبل. هم من ملكوا الخيال، يشكلونه حسب أهوائهم، ويتقنون صنعه على اختلاف درجة مواهبهم.

بعض هؤلاء لم يمنعهم الموت من أن يمدوا أيديهم إلى المستقبل، فيخبئون فيه أعمالاً قصصية، أو ربما أسراراً خاصة، لا تظهر إلا بموتهم، بناءً على وصية تركوها، أو رغبة من الورثة في الانتفاع بكنزِهم الأدبي.

بعض الكتب التي ظهرت بعد موت أصحابها، ضمنت لمؤلفيها الخلودَ، مثل نيكولو مكيافيلي، وهو مفكر وفيلسوف سياسي إيطالي إبان عصر النهضة. نشر كتابه "الأمير" عام 1532، أي بعد موته بخمس سنوات، وهو العمل الذي جعله الشخصيةَ الرئيسية، والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي.

ظهر كذلك لفرانس كافكا بعد موته، عام 1924، ثلاث روايات، هم: "أمريكا" و"القلعة" و"المحاكمة". وقد ساعدت تلك الأعمال في تحديد سمات رائد الكتابة الكابوسية، حتى إن رونالد غراي انتهى في كتابه "فرانز كافكا" الصادر عن "المجلس الأعلى المصري للثقافة"، ترجمة نسيم مجلي، إلى أنه "يمثل نموذجاً متطرفاً للكاتب الذي سلّم نفسه لكلّ القوى القادرة على تدمير الإنسان، من دون أي محاولة منه لإعاقة طريقها بالوعي".

الموت المفاجئ

كتب أخرى كثيرة ظهرت بعد موت مؤلفيها، واختلفت الأسباب التي منعتهم من نشرها في حياتهم.

في عام 1932، زار الروائي الإسكتلندي والتر سكوت إيطاليا من أجل استعادة صحته المتدهورة. في تلك الأثناء، سمع من صيدلي إنكليزي، قصة تحكي عن قاطع طريق، كان يختبئ من الشرطة الفرنسية، وخنق ابنه الرضيع لمنعه من البكاء حتى لا يستدلوا على مكانه، لكن زوجته انتقمت منه بقطع رأسه، وإرساله للسلطات لتأخذ مقابلاً على ذلك.

في العام الذي بدأ فيه والتر سكوت كتابة روايته، توفي قبل إكمالها، ومن ثم بقيت غير معروفة لقراءه حتى نشرت عام 2008.

كان الموت سبباً في عدم نشر رواية والتر سكوت، التي عرفت باسم "بيزارو".

الخوف

ثمة أسباب أخرى منعت الكتاب من نشر أعمالهم، والتي تختلف من كاتب لآخر، بل وربما من عمل لآخر. مثلاً، رواية "120 يوماً في سدوم"، التي كتبها الفرنسي المركيز دي ساد عام 1785، تحكي قصة أربعة أثرياء خليعين يجربون أقصى درجات الإشباع الجنسي، الأمر الذي أبقى العمل غير منشور حتى القرن العشرين. بل وحظرته بعض الحكومات بعد نشره وترجمته، لموضوعاته حول العنف الجنسي والقسوة المفرطة.

يقول الدكتور حسين حمودة، أستاذ النقد الأدبي بجامعة القاهرة، في تصريحات لرصيف22، إن "هناك حالات أخرى تنشر فيها بعض النصوص التي لم يشأ أصحابها أن ينشروها، مثلاً بسبب تصورهم عن قيمتهم المحدودة، أو بسبب تجاوزهم لقيمتها الإبداعية في مسيرتهم، ومنها الأعمال المبكرة في هذه المسيرة".

ماذا تفعلون إن وجدتم مخطوطة لكاتب تكنّون إعجاباً لإبداعه أراد حرقها أو لو استأمنكم على حرقها؟ هل تخونون الأدب أم تخونون الوصية؟ 

نوع آخر من الكتب يحرص أصحابها على ألا تنشر في حياتهم، لا سيما إن تعلقت بسيرتهم الذاتية، التي تختلف حسب أهمية كل كاتب، ومدى حساسية ما سيكشفه في مذكراته، سواء كانت أفكاراً أم مواقف.

نجح البعض في نشر سيرهم بعد وفاتهم بسنوات، مثل أغاثا كريستي، سيدة الرواية البوليسية، وقد نشرت مذكراتها تحت عنوان"أغاثا كريستي: السيرة الذاتية"، في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977، أي بعد ما يقارب عامين من وفاتها في كانون الثاني/يناير 1976.

والفرنسي جان جاك روسو، الذي عُدّ أحد أهم كتاب عصر التنوير، بدأ كتابة سيرته الذاتية عام 1765 وانتهى عام 1769، لكن الكتاب لم ينشر حتى 1782، أي بعد أربع سنوات من وفاته، تحت عنوان "اعترافات جان جاك روسو".

هناك من تعثّر في تنفيذ مخططه، أي لم يفلح في الاحتفاظ بمخطوط مذكراته إلى ما بعد الوفاة، أشهرهم الفرنسي فيكونت دي شاتوبريان، الذي حقق شهرة واسعة، جعلته أعظم كتاب عصره، وعينه نابليون أميناً للسفارة التي بعث بها إلى إيطاليا 1803، لكنه استقال من منصبه عام 1804، وظل يشغل مناصب سياسية أخرى حتى 1830، عندما ترك السياسة وانصرف إلى الأدب.

كتب شاتوبريان مذكراته تحت عنوان "مذكرات من وراء القبر" وقد باعها للناشر بمبلغ ضخم، على أن تنشر بعد وفاته، لكن مراده لم يتحقق، ذلك لأن الناشر باع فصولاً من المذكرات، ومن ثم قُرئ بعض منها خلال حياة صاحبها.

أزمة أخلاقية

ثمة كابوس أخلاقي يلازم قضية نشر الأعمال الأدبية بعد وفاة مؤلفيها، إذ يرى البعض ضرورة احترام رغبتهم في عدم نشرها، ولأثرها المديد على حياة المؤلّف ذاتها، قبل وفاته وبعدها.

في حين يقول الباحث بليك موريسون في مقال له نشرته صحيفة الغارديان بعنوان "عالياً في الدخان... هل على رغبات الكتاب المتوفّين أن تُطاع؟" إن "محاولة فعل الصواب تجاه نشر أعمال الكتّاب المتوفين، قد يكون رهيباً، وهو كابوس أخلاقي حقيقي"، يرى الناقد حسين حمودة في تصريحاته، إمكانية "نشر هذه الأعمال في نطاق محدود، مع توضيح كل الملابسات التي أحاطت بها، وتوضيح رفض أصحابها لنشرها، وفي هذه الحالة لا تتجه إصدارات هذه الأعمال إلى القارئ العام، وإنما تقتصر على الدراسين والباحثين".

الوصية

أزمة أخلاقية أخرى قد تواجه نشر كتابات ما بعد الوفاة، ذلك إن أوصى كاتبها بأن تحرق بعد وفاته، أو أن تبدد بأي طريقة كانت. هنا يقف الشخص متأرجحاً ما بين خيانتين؛ خيانة الوصية بأن يبقي على الأعمال وينشرها، أو خيانة الأدب بتدمير الكتابات التي قد تضيف شيئاً إلى الإنسانية.

فرانس كافكا كان ممن أوصوا بحرق أعماله. بينما هو على فراش الموت، كتب إلى صديقه الصحافي التشيكي ماكس برود رسالة جاء فيها: "عزيزي ماكس، كل شيء أتركه في طريقي من المذكرات والمخطوطات والرسائل الخاصة بي والتي جاءتني من الآخرين، الرسومات، وغير ذلك... يجب أن تُحرق بالكامل ولا يقرأها أحد"، لكن برود آثر نشر أعمال صاحبه، مخالفاً وصيته.

في كتاب "الوصايا المخدوعة" لدار نشر غاليمار، كتب ميلان كونديرا، أن إصدارات ما بعد الموت تطرح مشكلة أخلاقية مهمة، لأن معظم هذه الأعمال نُشرت دون موافقة أصحابها، بل إن بعضهم ترك وصايا صريحة بتدميرها وعدم نشرها.

يضيف كونديرا: "عندما قرر ماكس برود نشر كتابات صديقه فرانتز كافكا، فهو بذلك قد خان وصيته بإحراق كلّ كتاباته، لكن ما عساه يفعل؟ برود كان معجباً بكتابات كافكا؛ ولذا فهو تخطى الوازع الأخلاقي لأنه واثق من قيمتها، وقد يكون كافكا نفسه قد أودعه إياها لأنه يعلم مصيرها".

رصد كونديرا في كتابه المشكلة الأخلاقية، لكن ثمة سؤال بقي دون جواب قاطع: ماذا تفعلون إن وجدتم مخطوطة لكاتب أراد حرقها، أو لو استأمنكم على حرقها؟ هل تخونون الأدب أم تخونون الوصية؟

يجيب الدكتور حسين حمودة: "الإجابة عن هذا السؤال المهم يمكن أن تختلف من حالة لأخرى، بحسب تقدير من يمتلك نصوصاً غير منشورة لكاتب راحل حول مدى قيمة هذه النصوص، ومدى إضافتها أو عدم إضافتها لتجربة هذا الكاتب، وهكذا. فالأمر كله يجب أن يكون بعيداً عن الدوي الإعلامي، ويجب أن ينطلق في البدء وفي الختام من حرص على تجارب الكتاب الراحلين".

أما الكاتب الصحافي والناقد محمد شعير، يشير في حديثه لنا إلى أن لكل عمل أدبي ظروفاً خاصة، "مثلاً لنا أن نتخيل ما كان سيخسره الأدب العالمي لو نفذت وصية كافكا بحرق أعماله"، موضحاً أنه استُهدف من نشر سيرة الطفولة لنجيب محفوظ أن تطلع الأجيال الجديدة على بدايات أديب نوبل، وكيف أن الاجتهاد والسعي قد يصلان بصاحبها إلى مستويات متقدمة من الكتابة، وأيضاً إلى أرفع الجوائز. يستدرك شعير، قائلاً: "لكن لا بد أن ترفق تلك الأعمال بدراسة تبين ظروف كتابتها، وتفند ما حولها من أمور تعلقت بها".

أعمال ناقصة

أزمة أخرى قد تثيرها قضية نشر أعمال ما بعد الوفاة، ذلك لو وُجدت ناقصة، سواءً لعدم رغبة مؤلفيها في استكمالها، أو لموتهم قبل أن يتحقق لهم ذلك. هنا يقف من يعثر عليها حائراً بين أمرين: إما أن ينشرها كما هي ناقصة، وفي تلك الحالة تكون مخيبة للآمال بالنسبة للقراء. أو أن يكمل أحد الورثة النقص بنفسه، أو مستعيناً بمحرر أدبي، في محاولة للوصول بالعمل إلى مستوى مقبول. ولكن في الأغلب لا تضفي محاولاتهم إلا مزيداً من النقصان.

مثلا، في أيلول/سبتمبر 2019، أعلن ابن الكاتبة الفرنسية الشهيرة فرنسواز ساغان عن صدور رواية غير مكتملة لـأمّه، تحت عنوان "زوايا القلب الأربع"، وذلك بعد مرور 15 عاماً على رحيلها.

وقد أحدث العمل غير المكتمل للكاتبة الفرنسية الأشهر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، صدى واسعاً. بعد فترة من الحماس لما أعلنه وريثها الوحيد، وجه الجميع لوماً شديداً له، وتلقى ردود أفعال سلبية، وتساؤلات عن جدوى نشر عمل أدبي غير مكتمل، حتى إن النقاد والصحافة الأدبية راحوا يشكّكون في أصالة العمل الأدبي، وكتبت صحيفة "لوموند": "البحث عن فرنسواز ساغان في هذه الرواية كالبحث عن إبرة في كومة من القش، أحياناً نحس بوجودها، لكن سرعان ما تختفي".

"البدايات والنهايات... أعوام نجيب محفوظ"، "كتابات نوبة الحراسة" لعبد الحكيم قاسم، مذكرات أغاثا كريستي، قصص كافكا… تعرفوا على كتب نشرت بعد وفاة أصحابها، وما صاحب ذلك من أحاسيس بالفخر والتقصير، والإدانة والتمجيد لناشريها

وأمام حدة الهجوم، دافع الوريث والناشر عن أصالة العمل، مؤكديْن على أن "الرواية كانت تقريباً كاملة ولا ينقصها سوى بعض الفراغات البسيطة التي قام بملئها، مراعياً أسلوب الكاتبة الراحلة، والرواية من تأليف ساغان بنسبة 90 في المائة".

وبشأن محاولة إكمال النقص في عمل أدبي غير مكتمل، يقول الدكتور حسين حمودة: "من المؤكد أن هذا الجانب مهم جداً، ويرتبط به حرص ضروري على الأمانة العلمية والنقدية أيضاً، بما يجعل نشر هذه الأعمال مرتبطاً بنوع من الدقة، وعدم التدخل في النصوص التي تركها أصحابها، بل أحياناً تكون هناك ضرورة للقيام بنوع من (التحقيق) الدقيق لبعض العبارات والجمل لتوضيح سياقاتها، ولكن ذلك كله يجب أن يتم في هوامش منفصلة ومستقلة عن هذه النصوص".

بينما لا يرى الناقد محمد شعير عيباً في أن يكمل أحد عملاً أدبياً ناقصاً، لا سيما أنه تم توضيح ذلك في مقدمة خاصة بالعمل، مشيراً إلى أن ثمة تجربة مهمة في عالمنا العربي تعلقت بنشر ما بعد الوفاة، وهي رواية "قنطرة الذي كفر" للدكتور مصطفى مصطفى مشرفة، التي يعتبرها من أهم الروايات العربية، وكان قد توفي مؤلفها قبل أن يتم فصلها الأخير، الأمر الذي جعل الصحافي محمد عودة يكتب فصلها الأخير، وقد أشار إلى ذلك في مقدمة توضح ظروف كتابتها ونشرها.

"الأعوام" طفولة نجيب محفوظ

بجانب "قنطرة الذي كفر" ثمة كتابات أخرى في عالمنا العربي نشرت بعد موت أصحابها، آخرها رواية "الميرانتي... أمير البحار" للدكتور الراحل أحمد خالد توفيق، التي نشرت في يناير/ كانون الثاني 2022 عن دار "كيان"، أي بعد موت مؤلفها بأربع سنوات.

وفي عام 2011 صدر "كتابات نوبة الحراسة: رسائل عبد الحكيم قاسم" عن دار "ميريت"، وهو كتاب يقع في 253 صفحة، ويتضمن رسائل كتبها الأديب المصري، والتي يرى الصحافي محمد شعير، وهو من أعدّ وقدم الكتاب، أنها "تعكس الجو الأدبي الذي نشأ وتكوّن فيه جيل الستينيات، واللحظات الصعبة التي عاشها أثناء حكم عبدالناصر، ثم حكم السادات، خصوصاً بعد كامب ديفيد، مروراً بغزو بيروت وحرب الخليج الأولى.. كل هذا يجعل من هذه الرسائل توثيقاً سياسياً واجتماعياً لهذا الجيل، وليس فقط لصاحبها".

للناقد محمد شعير عمل آخر يضاف إلى نشر ما بعد الوفاة، هو "البدايات والنهايات... أعوام نجيب محفوظ"، الصادر عن دار الشروق في شباط/فبراير 2021، وقد كشف فيها عن سيرة كتبها أديب نوبل في طفولته، تحت عنوان "الأعوام" اقتداءً بكتاب "الأيام" لعميد الأدب العربي طه حسين، وقد بقيت مفقودة لسنوات، إلى أن عثر عليها شعير ونشرها بعد وفاة محفوظ بـ15 عاماً.

"لدى الغرب عِلم يسمّى نشر ما بعد الوفاة، لكنه علم يغيب بشكل كبير عن المكتبة العربية"، يقول شعير، مشيراً لتجربته مع نشر رسائل عبدالحكيم قاسم بأنها كانت ذات خصوصية، حيث وجده يقول في إحداها: "هذه الرسائل خليق بها أن تنشر ذات يوم"، وهو ما اعتبره إذناً خاصاً بالنشر.

وفي ختام حديثه معنا، يتذكر شعير حكاية أخرى مرتبطة بمحفوظ، فعندما نشر أعمالاً قصصية بمساعدة ابنة أديب نوبل، كان قد عثر عليها في مظروف خاص، مكتوب فيه: "للنشر"، مما يعد إذناً آخر من المؤلف، مشدداً على أنه لو كانت رغبة محفوظ بعدم نشرها لاحترم رغبته، وأطاع وصيته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard