بشيء من الخداع الطريف، تُقدم الروائية الإنكليزية أغاثا كريستي لقرائها، صفحاتِ مذكراتها في الأراضي السورية والعراقية؛ فهي تصف كتابها "تعال قل لي كيف تعيش" الذي ترجمه إلى العربية أكرم الحمصي، بأنه "مجرد كأس صغيرة من الجعة"، وتقول إنه ليس عميقاً، ولا ينطوي على أي رؤى أو أفكار عميقة حول علم الآثار، أو الأعراق، وكذلك ليس به وصف شاعري للمناظر الطبيعية، فهي تراه "مجرد كتاب صغير للغاية، يحفل بالأعمال اليومية والأحداث اليومية".
ولعل الخداع يكمن في أن هذا الكتاب الذي هو عبارة عن مدونة سردية لرحلتها في سوريا والعراق، يأخذنا معها في رحلة شاقة ومثيرة في أغوار التاريخ وأعماق الماضي، نتلمس خطوات الإنسان الذي عاش وكافح على هذه الأرض، وأقام الحضارات الأولى. نسير بين التلال والوديان، والطرق المتعرجة، ونتأمل في الرمال، ربما عثرنا معها على القدور أو التمائم الحيوانية، واللقى السحرية وشرائح الذهب وغيرها من كنوز الماضي، ثم يصفعنا الهواء والبرد، أو يخنقنا الحرّ، فنهرع معها إلى خيمتها التي تمنت أن تعيش فيها طوال حياتها تحت سماء "اعتادت أن تُحدثها في الليل".
رحلة إلى سوريا والعراق
بصحبة زوجها عالم الآثار البريطاني "ماكس مالوان"، المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط القديم، انطلقت أغاثا كريستي في رحلة إلى سوريا والعراق، في ثلاثينيات القرن العشرين وتحديداً عامي 1937- 1938، وهذه لم تكن المرة الأولى لـكريستي التي تُسافر فيها إلى الشرق؛ فقبل ذلك التاريخ بعدة سنوات، كانت أغاثا في رحلة إلى العراق، وهناك قابلت ماكس، الذي أصبح زوجاً لها في ما بعد، وقد أتاح لها هذا العالِم الشهير أن تكون ضمن البعثات الأثرية والعلمية التي تقوم بالتنقيب في الشرق الأوسط، وبذلك تراكمت لدى كريستي المعرفة العلمية والأركيولوجية بأراضي الشرق، وروائياً كانت هذه الرحلات مادةً حية وثرية للعديد من رواياتها، أشهرها "قطار الشرق السريع"، و "موت على ضفاف النيل".
تُقدم الروائية أغاثا كريستي لقرائها صفحاتِ مذكراتها في الأراضي السورية والعراقية. تأخذنا معها في رحلة شاقة ومثيرة في أغوار التاريخ وأعماق الماضي، نتلمس خطوات الإنسان الذي عاش وكافح على هذه الأرض، وأقام الحضارات الأولى
من محطة فيكتوريا، "بوابة الإنكليز إلى العالم الخارجي"، انطلقت الروائية بزي يشبه "زوجات بناة الإمبراطورية"، ومعها حقيبة ممتلئة بالأحذية، أما الزوج فكانت حقيبته مزدحمة بالكتب. انطلقا من فيكتوريا، إلى ميناء دوفر، ثم إلى ميناء كاليه الفرنسي، ومن كاليه، أخذا قطار الشرق، الصديق القديم والمحبب لدى كريستي، حتى أنها تُحيل أصواته المتحشرجه إلى نغمات موسيقية: "أحب إيقاعه الذي يبدأ بنغمة أليغرو وهو يتمايل ويتحشرج ويقذف الركّاب من جانب إلى جانب في استعجاله المجنون لمغادرة كاليه والغرب، ثم يتباطأ بالتدريج إلى مستوى النغمة رالينتاندو في تقدمه نحو الشرق قبل أن ينتهي الأمر به إلى نغمة ليغاتو واضحة".
إسطنبول، المدينة التي تُصيب أغاثا كريستي بالجنون
يقف القطار في إسطنبول، هذه المدينة التي تُصيب أغاثا كريستي بالجنون، لأنها تعجز عن رؤية جمالها عندما تصل إليها، فهي فقط ترى الوجه الجميل لإسطنبول عندما تُغادر الجانب الأوروبي إلى الشاطيء الآسيوي، كما أنها لم تُحب أيا صوفيا بسبب حجمه الذي بدا لها غير مقبول. إنهما الآن في محطة "حيدر باشا" يتأهبان لصعود القطار.
"كم هي غريبة تلك الرغبة في امتلاك جزيرة. إنها ترمز في العقل البشري إلى الحرية والوحدة والتحرر من كافة الهموم. لكن لا، فالجزيرة، أية جزيرة، هي جزيرة أحلام وينبغي أن تكون كذلك فقط"
في ذلك اليوم البعيد، عاشا يوماً جميلاً في رحلة على طول ساحل بحر مرمرة، هذا البحر الذي تتناثر فيه جزر تبدو مبهمة وساحرة، حتى أن كريستي كانت تُفكر في اقتناء واحدة منها: "كم هي غريبة تلك الرغبة في امتلاك جزيرة. إنها ترمز في العقل البشري إلى الحرية والوحدة والتحرر من كافة الهموم. لكن لا، فالجزيرة، أية جزيرة، هي جزيرة أحلام وينبغي أن تكون كذلك فقط".
تستغرق كريستي في حلم طويل، كانت فيه تجلس على حافة العالم، وتنظر إلى الأسفل، إلى الأرض الموعودة، حتى تصحو على صفارات القطار في حلب. ومن حلب يتجه الزوجان إلى بيروت، لمقابلة المهندس المعماري ماك، والاستعداد للسفر إلى سوريا، بعد تحديد الأماكن التي ستكون هدفاً للتنقيب.
"بيروت بحر أزرق، خليج مقوس، خط ساحلي طويل من جبال زرقاء ضبابية. ذلك هو المشهد من مصطبة الفندق. ومن غرفتي المطلة على اليابسة، أشاهد حديقة من أزهار بنت القنصل القرمزية". وبعد عدة أيام في بيروت، يتجه فريق التنقيب إلى سوريا: ماكس، ماك، أغاثا، وحمودة صديق ماكس، ومرشده، الذي عمل معه لسنوات رئيساً للعمال في "أور" (موقع أثري لمدينة سومرية بجنوب العراق)، والسائقان عبدالله، وأرستيد، والطاهي عيسى.
يقطعون طريقاً شاقاً حتى الوصول إلى مدينة تدمر، التي يكمن سحرها في عيني كريستي في: "جمالها القشدي الأهيف الذي ينتصب بسحر وسط الرمال المحرقة. إنها مدينة فاتنة رائعة لا تُصدق بمشهديتها الساحرة، تلك الجديرة بأن تكون جزءاً من حلم. بلاط ملكي ومعابد وأعمدة خربة. إنها تتمتع على الدوام بذلك الطابع الحُلمي الذي تكتشفه فيها من النظرة الأولى. وقد جعلها الألم في رأسي وعيني تبدو أكثر من أي وقت مضى، خيالًا محموماً. إنها ليست حقيقية، ولا يمكن أن تكون حقيقية".
موقع "البصيرة"
ومن تدمر يمرون على مدينة دير الزور، الواقعة على نهر الفرات، والتي لم تُحبها كريستي. ثم يصلون إلى موقع أثري يُسمى "البصيرة"، ويقع عند نقطة التقاء نهر الخابور بنهر الفرات، وكان ماكس، يحمل تجاه هذا المكان آمالاً عريضة في أعماقه للتنقيب، غير أنها آمال مجهضة إذ "لا توجد فيه أي علامات على استيطان قديم باستثناء الوجود الروماني"، والرومان بالنسبة إليهم قوم عصريون، فيما تهتم البعثة بالتنقيب في آثار الفترة التي تبدأ من الألفية الثانية قبل الميلاد.
تقول كريستي: "من هذه النقطة الزمنية (الألفية الثانية قبل الميلاد)، ننطلق في رحلتنا، إلى الماضي بالطبع، وصولاً إلى عصور ما قبل التاريخ المبهمة. عصور دون سجلات مكتوبة لم تترك لنا سوى أوان فخارية ومخططات بيوت وتمائم وزخارف وحبات خرز، تُقدِّم لنا شهادات خرساء على الحياة التي عاشها الناس".
الجانب الأكثر متعةً وبهجةً في مذكرات كريستي، هو العلاقة الحميمية التي نشأت بينها وبين النساء العربيات والكرديات، فقد فُتنت كريستي بجمال الكرديات وملابسهن ذات الألوان الزاهية، فهن بالنسبة إليها "باقات من الزهور"
"البصيرة" خلفهم، فيما هم متجهون إلى نهر الخابور الذي تنتصب على ضفافه مئات التلال. ينصبون خيمتهم بجوار "تل سوار"، الذي يقع على الضفة اليسرى من نهر الخابور، لكنه يُخيب آمالهم هو الآخر، فهو –بحسب ماكس- روماني، وهذه الكلمة كانت تُقال من جميع أفراد البعثة بازدراء كبير، أما كريستي فتكتم رأيها في الرومانيين التي كانت تراهم مثيرين بشكل كبير.
وفيما يتحدث ماكس وأغاثا بحسرة عن هذا المكان الساحر (تل سوار)، الذي لا يمكن للبعثة التنقيب فيه، يبزغ من لا مكان رجل طاعن في السن، كان يسير بجانب الأكمة ببطء، لحيته بيضاء طويلة، ومظهره يتميز بمهابة تفوق الوصف. يجلس الرجل بجوارهم، ويسود الصمت الطويل، الذي يقطعه الرجل، إذ يسأل ماكس عن اسمه، فيجيبه، ويستغرق الرجل في التفكير، ثم يلفظ اسمه عدة مرات: ميلوان. يجالسهم لبعض الوقت ثم يغادرهم في هدوء وكأنه أحد الأرواح الهائمة التي كانت هنا منذ آلاف السنين، تظهر بصورتها البشرية، لتعرف من يُنقب ويُفتش في أسرارهم الأولى.
كل صباح، تذهب البعثة إلى الأكمة، تدور حولها مرات ومرات، ينظرون في الأرض، يلتقطون ما تقع عليه أعينهم من شرائح فخارية وغيرها من مكتنزات الأرض، ثم تتم مقارنة النتائج ويحتفظ ماكس بالعينات التي يراها مفيدة من خلال وضعها في أكياس من الكتان مزودة بلصاقة اسمية، وتنشب بين أعضاء البعثة منافسة حامية حول من يعثر على لقية اليوم. وهنا لم تعد كريستي تنظر إلى الأفق، بل تمارس عادة الأثريين في النظر إلى الأرض، حتى تدخل معهم في المنافسة، وتثبت أهميتها كمنقِبة.
ومن تل سوار، تصل البعثة إلى "تل عجاجة" وهو تل كبير وهامّ. وفي اليوم التالي يصلون إلى مدينة الحسكة الواقعة على تقاطع نهري الخابور، وجغجغ، وهي مدينة بحسب كريستي، تفتقر إلى الجاذبية.
على ضفاف نهري الخابور وجغجغ
على ضفاف نهري الخابور وجغجغ، تقول أغاثا كريستي إنها قضت أجمل أيام حياتها، كما أنه من كثرة تحديقها في الأرض، أصبح لديها غنيمة كبيرة: "آنية ثخينة رمادية اللون، وجزء من حافة قدر فخاري، وبعض الأشياء خشنة الملمس ذات اللون الأحمر، وكسرتان من قدور فخارية مطلية، يدوية الصنع، إحداهما تحمل النقش المرقط (الأقدم في تل حلف)، وسكين من حجر الصوان، وجزء من قاعدة آنية فخارية رمادية رقيقة".
تدور البعثة وتلف حول الأكمة، وتعقد المقارنات بين التلال المستهدفة للتنقيب، فلا بد أن يكون التل قريباً من نهر، وكذلك من قرية تستطيع أن توفر العمال للقيام بعمليات الحفر، واتفق فريق العمل على أن "تل براك" مرشح بقوة، فهو تل كبير ويحمل علامات حقب تاريخية عديدة تمتد من عصر ما قبل التاريخ الأول انتهاءً بالفترة الآشورية.
وبعد تل براك تم تسجيل "تل شاغر بازار" هدفاً للتنقيب، حيث يوجد بجواره قرية وكذلك العديد من الآبار. ومن تل شاغر بازار وصلت البعثة إلى مدينة عامودا، وهي المدينة التي لم تحظ بإعجاب كريستي، فهي "مدينة يغلب عليها الطابع الروماني. أعداد الذباب فيها تفوق الوصف، ويتسم الصبية الصغار فيها بسلوكيات هي أسوأ ما رأيت".
وبعد عملية مسح التلال هذه، يفوز تل شاغر بازار، وتستعد البعثة للتنقيب، والحصول على العمال عبر حمودة. وهناك يتعرف ماكس على أحد شيوخ القرية التي تقع بجوار التل، ويتم الاتفاق مع هذا الشيخ المثقل بالديون، على أن يتنازل عن الأرض بجوار التل هذا العام، على أن يقوم "الخواجة بتعويضه" مادياً، وكان الأكثر إغراءً لهذا الشيخ أن البعثة سوف تقوم ببناء بيت جميل على أرض الشيخ، حتى يكون مستقرها طوال فترة إقامتها، ثم تتركه وترحل إلى بلادها بسلام.
رحلة شاقة ومثيرة، بالأحرى حياة كاملة، عاشتها كريستي بصحبة البعثة الأثرية، متنقلة بين بلدات الحدود السورية والعراقية، وكان عملها في موقع التنقيب يتحدد في إحصاء وترتيب ما تم العثور عليه من كنوز، وكذلك التصوير الفوتوغرافي لهذه الكنوز، ولأفراد الرحلة. أما وصف "الحياة الكاملة"، فيتجلى في الأحداث التي وقعت، حيث الرجال الذين دفنوا في التلال، بعد أن غطتهم الرمال أثناء قيامهم بعمليات الحفر، وكذلك في النزاعات العرقية التي سادت بين أفراد البعثة حيث ضمت عرباً، وأرمن، وأكراداً وإيذيديين، ومسلمين، الذين يكن لهم "ميشيل" المسيحي، كلَّ الكراهية، ويود أن يدهسهم جميعاً بسيارته، وبالطبع لم تخل هذه الحياة من أوقات المرح، والنزهات السعيدة، والولائم، وحفلات الغناء والرقص التي كان يقيمها العمال بعد الانتهاء من الحفر والتنقيب.
ذاع صيت كريستي بين النساء، وكن يذهبن لزيارتها، وهي تقول عن هذه الزيارات: "لقد فُتنت بالنساء العربيات وخاصة اللائي يحجبن وجوههن، فتبدو عيونهن ساحرة ومضيئة. فكم هو جميل أن تحجب وجهك عن العالم، وتنظر إليه وتراه، وهو لا يراك"
غير أن الجانب الأكثر متعةً وبهجة في هذه المذكرات، هو العلاقة الحميمية التي نشأت بين أغاثا كريستي والنساء العربيات والكرديات، فقد فُتنت كريستي بجمال الكرديات وملابسهن ذات الألوان الزاهية، فهن بالنسبة إليها "باقات من الزهور"، وقد رصدت فروقاً رأتها جوهرية بين المرأة العربية والكردية، حيث رأت أن المرأة الكردية أكثر تحرراً من المرأة العربية التي لا يمكنها الاقتراب من الرجل، فيما رأت أن العربيات متواضعات، وفي الوقت نفسه يتميزن بالكبرياء وعزة النفس.
ذاع صيت كريستي بين النساء، وكن يذهبن لزيارتها، وهي تقول عن هذه الزيارات: "لقد فُتنت بالنساء العربيات وخاصة اللائي يحجبن وجوههن، فتبدو عيونهن ساحرة ومضيئة. فكم هو جميل أن تحجب وجهك عن العالم، وتنظر إليه وتراه، وهو لا يراك. كن يأتين إلي، فنضحك، ونلمس ملابس بعضنا البعض".
وقد استغلت كريستي خبرتها الطبية -حيث عملت فترة من حياتها كممرضة- في علاج السيدات اللائي كنّ يعانين من الصداع، أو بعض الحساسية في عيونهن، حيث كانت تفحصهن في مستودع صغير، بمعزل عن الرجال، وتمنحهن الدواء اللازم، وقد حازت على حب كبير من جانبهن لهذا السبب.
بعد عدة أشهر قضتها كريستي في أعماق التاريخ، حصلت خلالها هي والبعثة العلمية على الكثير من الكنوز واللقى السحرية التي أودع بعضُها إلى المتحف البريطاني، حيث كانت بلاد الشرق تحيا تحت سماء الاحتلال، ودعت كريستي هذه البلاد، وهي لا تزال تسأل "تل براك" عن الأسرار التي يحتويها في أعماقه، وكأنها أرادت بحمية وشغف كبيرين أن تحصل على "الصورة الأولى للبشرية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع