لا يميز شيطان الكتابة بين فرد وآخر، فهو يلبس مريديه أينما كانوا، وعندما اختار الأطباء، مسّهم، فانصاعوا له، وسجدوا لموهبة صعب الجمع بينها وبين مهنة شاقة، فكان الطريق أكثر متعة، وأخذت الكلمة معنى آخر، ووضعت الجمل بين صفحات دقيقة، وأغلفة أقسمت أن تخلص عندما جذبتها "النداهة".
أحياناً يجد البعض صعوبة في وجود المشترك بين الطب والأدب، ولكني أرى التلاحم منذ البداية؛ فكلاهما يحاولان كشف أسرار الألم، الموت والحياة، كلاهما يقوم برحلة استكشاف في محاولة لفتح أبواب المستقبل، وربما تزيد حلاوة الكتابة في قدرتها على منح الطبيب عصاة سحرية، يطرق بها أبواب التخيل ليمنح بركاته وشفائه على من يشاء.
الطب وقود للكتابة
اتجاهُ عدد من الأطباء للأدب باختلاف أنواعه ليس شيئاً جديداً، فهو موجود منذ القدم، ومن بين هؤلاء المبدعين والمبدعات الشاعر والكاتب إبراهيم ناجي، أحمد زكي أبو شادي، نوال السعداوي، ويوسف إدريس، الذي عمل لفترات كطبيب نفسي بعد تخرجه من كلية الطب، ولكن اجتذبه بعد ذلك العمل في مجال الثقافة والأدب، وتميز في مجال القصة القصيرة، ومن المعاصرين محمد المخزنجي، علاء الأسواني، وغيرهم.
هل الكتابة مَخرج الطبيب من واقعية وقسوة مهنة الطب أم أن الطب وقود سري يدفع في بعض الأحيان للإبداع والخلق؟
ربما كانت الحكايات التي سمعها إدريس من مرضاه هي الباب السري الذي دخل منه عالم الحكي.
هذا ما تقوله أيضاً القاصة والروائية والطبيبة السورية، هيفاء بيطار، والتي تخصصت منذ سنوات في طب العيون، ومن خلال مراقبة عيون مرضاها وآلامهم أبصرت العوالم الأخرى.
هيفاء تقول إن هناك زواجاً ناجحاً بين الطب والكتابة، فهي تمارس مهنة الطب كمتخصصة في جراحة العيون، وكذلك تكتب منذ ما يزيد عن الربع قرن، وتساءلت باستمرار: لماذا لم تدرس الفلسفة أو التاريخ أو حتى الأدب الإنكليزي؟ ثم اكتشفت أنها محظوظة.
أشعر بالامتنان العميق لكل هؤلاء المُتعبين، والمرضى الذين أهدوني قصصهم
تضيف الكاتبة السورية: "حين بدأت ممارسة الطب كنت أفحص المرضى، وأحكي معهم مُطولاً، وأتعرف على ظروف حياتهم. المرضى كانوا يخرجون من عندي قصصاً. فأشعر بالامتنان العميق لكل هؤلاء المُتعبين، والمرضى الذين أهدوني قصصهم، وجعلوا إنسانيتي تتبلور".
وتقر هيفاء بأن ربع قرن من العمل الطبي والكتابة جعلا منها "كاتبة تتحسس بعمق مشاعر الناس، آلامهم وأحلامهم"، وتعلمت من الطب الموضوعية والدقة، مما قيدها عن الشطح خلف خيالات تصفها بـ"الخاطئة، والمخجلة".
هيفاء بيطار لها إنتاج غزير من الرواية والقصة، ومنها "ورود لن تموت"، "قصص مهاجرة"، "غروب وكتابة"، "يوميات مطلقة"، "أفراح صغيرة أفراح أخيرة"، "امرأة من طابقين"، "امرأة من هذا العصر"، وغيرها.
كانت الكتابة الخيالية مخرجاً مناسباً لخلق عالمه الخاص الخالي من الأوجاع... حكايات عن أطباء جمعوا بين مهنة الطب والكتابة الروائية، فماذا أخرجوا لنا؟
الدكتور المصري والأديب المقيم بالولايات المتحدة شريف مليكة يرى أن الكاتب يتأثر بمهنته مهما كانت، وأوضح: " لولا أن كان يوسف إدريس طبيبًا لما كتب (لغة الآي آي)، ولو لم يدرس محفوظ الفلسفة لما أتحفنا بـ(أولاد حارتنا)، أو بمجموعاته القصصية مثل (دنيا الله)، و(خمارة القط الأسود)، وغيرها. كما أثر عمل إبراهيم أصلان بتوزيع البريد على كتابته مالك الحزين، وكذلك عمل حمدي أبو جليل بأعمال البناء والهدّ فكتب الفاعل".
الطبيب المتخصص في علاج الألم، يقول: "الكتابة تعد متنفساً لما يضطرم في نفس الأديب أينما كانت خلفيته الثقافية، بينما يرى أن عمله مع مرضى الآلام المزمنة، وما يصاحبها من معاناة نفسية، كان له دوراً ملموسا في اتجاهه للكتابة. وكانت الكتابة الخيالية مخرجاً مناسباً لخلق عالمه الخاص الخالي من الأوجاع".
شريف مليكة له 4 دواوين شعرية و3 مجموعات قصصية، ومنها "مهاجرين"، "اليوم الثامن"، "سحر الحياة"، وله 7 روايات، منها: "دعوة فرح"، "زهور بلاستيك"، "خاتم سليمان".
جرثومة الإبداع والوحي
في رأيي الكتابة مرض لا علاج له، تصيب الإحساس فتتمكّن منه، وتدفعنا باستمرار للبحث عن العلاج بالسرد، ورغم استمرارية الكتابة، إلا أنها لا تصل لتلك الطمأنينة، التي تصحب العلاج عادة، فتظل تبحث عن حقيقة الوجود، وعدم الوصول يجعل الكاتب يستمر في تناول الدواء، محاولاً بكل رضى التعافي من مرض لا علاج له.
عشق الكاتب السوداني أمير تاج السر الأدبَ منذ الصغر، وشرع في الكتابة حتى قبل أن يمتهن الطب، ويتخصص في قسم الباطنة، ومع ذلك كان الطب بمثابة المحرض الذي يدفعه للكتابة، والتنوع في الحكي.
أمير تاج السر يقول عن ذلك: "المسألة بالنسبة لي مسألة جينية، أي مسألة موجودة في دم الشخص، ولا علاقة لها بدراسته للطب"، ولو درس القانون أو حتى اكتفى بالدراسة التأسيسية لظل كاتباً، وفي حوارات كثيرة سابقة، شبهت المسألة بالجرثومة التي تصيب البعض ولا تصيب البعض الآخر.
الطبيب يكتب عن دواخل الإنسان أكثر من أي شخص آخر لأنه يعرف الإنسان جيداً، تشريحياً وفيزيولوجياً... أمير تاج السرّ
وصف الشخصيات يصبح أكثر عمقاً ودراسةً مع الطبيب الأديب، وخاصة أن لكتابته نكهة مختلفة. هذا ما يراه تاج السر، ويشدد على أن الطبيب يكتب عن دواخل الإنسان أكثر من أي شخص آخر لأنه يعرف الإنسان جيداً، تشريحياً وفيزيولوجياً، كما أن القراء يمكن أن يجدوا في نصوصه وصفاً دقيقاً لأمراض تصاب بها شخوصه.
استفاد الكاتب السوداني من مهنته عندما كان يكتب رواية "مهر الصياح"، وكذلك رواية "توترات القبطي"، كما كتب رواية عن فيروس إيبولا، الذي سبب الحمى النزيفية، وظهر في مدينة نزارا الحدودية في جنوب السودان، وربما عدد من هذه الروايات الناجحة لا يستطيع أن يكتبها بمثل هذه الدقة إلا طبيباً.
قد يفرض الطبيب منطقه وتخطيطه على الكتابة، فتصير لوناً مختلفاً وجذاباً، وهذا ما تحدث عنه الشاعر والكاتب المصري الطبيب عادل محمد أحمد. ففي رأيه أن الموهوب سلفاً يمده الطب بشيئين إضافيين يؤثران بدورهما في ما يمارسه من فن، أولهما التفكير العلمي، بحيث يصبح التخطيط ومنطق السبب والنتيجة جزءاً من شخصيته الحقيقية والفنية، فتمتاز حبكته بالدقة، وربما التبرير، وكثيراً ما تتسرّب أفكاره عبر شخوصه، ثانيهما المادة الإنسانية التي يمده بها الطب، فالطب محاكاة للواقع، والكتابة الفنية طبابة للواقع.
"قلما نجح الكاتب الطبيب في الإفلات من معطف المبشّر الحكيم... يسمي الألمان الطبيب: نصف إله في الأبيض. ما يميّز الإله، لدى كل أمّة، هو أنه كائن راغب في الكلام على الدوام، وكلامه صادر عن حكمة متسامية. غالباً ما تتجلى تلك الحكمة في كتاب"
طبيب الأسنان، طبق بعض النظريات الطبية في كتابته، وقال عن ذلك: " بالنسبة لي كان للطب دور هام جداً في تجربتي الشعرية الثالثة، وهي ديواني (الحديقة ملأى بالطواويس)، وقد بُني جميعه على فكرة العجز المادي والمعنوي، فقدمت فيه قصائدي عن أمراض كالسرطان، والعقم، والكلى، والصمم، والعمى، والصرع وغيرها، ولولا ما أمدني به الطب من فهم أو بالأحرى استعداد للفهم النفسي لهذه الأمور، لما تمكنت من التقاطها شعرياً. ربما كذلك في روايتي (ضَرَر)، والتي تعتمد اعتماداً كلياً على علة طبية تخص أسرة أبطال الرواية، لكن ذلك، أعني كون الأديب طبيباً، لا ينبغي أن يكون محرّكاً ظاهراً في مشروعه المتصل، ولا يمنع سواه من مهارة مقاربة ما لا يمارسه كما لا يدفع الناقد للبحث عن المؤلف في عمله".
وترى الطبيبة والكاتبة المصرية أخصائية الأشعة التشخيصية والتداخلية بألمانيا شادن شاهين أن تلاقح العلم والأدب يثمر فناً له مذاق خاص.
"دراسة الطب تعني الحصول على كم هائل من المعلومات عن طبيعة الجسد والنفس البشرية، وأنواع الاعتلال الجسدي والنفسي، التي يمكن توظيفها -إن وُجدت الموهبة- في النص الأدبي، كما أن الطبيب يرى جانباً من العالم لا يراه غير الطبيب بما يعايشه داخل العناية المركزة أو غرفة العمليات، فكلها روافد لعصف فكري ونفسي وكتابة إبداعية ذات نكهة مختلفة"، بحسب شاهين.
الطبيبة الحاصلة على جائزة الطيب صالح عن مجموعتها القصصية "ظل السراب" 2021، وهي المجموعة الثانية بعد "أذن جائعة"، تضيف أن "مهنة الطب تمنح صاحبها الفرصة للاقتراب الشديد من آلام الإنسان، جسدياً وروحياً، وتجعل فكرة الحياة والموت جزءاً أساسياً من يومك. يمكننا القول إن ممارسة الطب أحد العوامل الباعثة للمواهب المدفونة، بما تثيره المواقف الإنسانية في المشافي من مشاعر، وبما يعايشه الطبيب يومياً من صدمات نفسية".
"نصف إله"
يرى الشاعر والكاتب اليمني، وطبيب القلب، مروان الغفوري أن "الطب حمل ثقيل، فهو إقامة مفتوحة في مكان ما بين الحياة والموت، أي في المكان الذي تتخلق فيه الأسطورة، الخرافة، الشعر، والملحمة".
الطبيب حكاء جيد، وعن ذلك يقول الغفوري: "قلما نجح الكاتب الطبيب في الإفلات من معطف المبشّر الحكيم، من رأى النهايات والخواتيم رأي العين، لنتخيل الطبيب على هذا النحو: كان طفلاً متفوّقاً، ثم يافعاً يكتم معرفته وأسراره إذ هي سر قوته، وفي الختام يصبح الرجل الذي يتحكم بالمصائر، ولا يمكن مراجعة كلماته وتعليماته. يسمي الألمان الطبيب: نصف إله في الأبيض. ما يميّز الإله، لدى كل أمّة، هو أنه كائن راغب في الكلام على الدوام، وكلامه صادر عن حكمة متسامية. غالباً ما تتجلى تلك الحكمة في كتاب".
ومن أهم أعمال الغفوري الروائية: "الخزرجي"، "جدائل صعدة"، "تغريبة منصور الأعرج".
الأحاسيس المجردة
تداخل مهنة الطب والأدب حاضرة منذ القدم، بحسب الناقدة الأكاديمية الدكتورة رشا غانم، التي تحدثت لرصيف22، وهي بصدد نشر خاطرة عن الموضوع، تقول: "الظاهرة قديمة، فيحاول الطبيب أن يملأ هذا الشغف الروحي بانكبابه على الكتابة، والقائمة ممتلئة. نذكر أميّة ابن الصلت، الشاعر الشهير الذي كان طبيباً أيضاً، وابن دانيال، طبيب العيون الموصلي والشاعر أيضاً. وفي الأدب العالمي نجد الكثيرين، منهم الأمريكي مايكل كرايتون، والإسكتلندي آرثر كونان دويل، والروسي أنطون تشيخوف".
الناقدة الأدبية تحدثت عن ميخائيل بولغاكوف (1891-1940) الطبيب الروسي والكاتب ومجموعته "مذكرات طبيب شاب"، وهي عبارة عن مذكرات شخصية تعد بمثابة سيرة ذاتية، كطبيب شاب سجل فيها كل ما شاهدته عيناه عبر مراقبته للمرضى الذين عالجهم، فكانت شهادته نابعة من روحه، من خلال ضميره الحي، ومراقبته لفترات طويلة كل ما يحدث.
تنهي الناقدة حديثها معنا، موجزةً في تعليق على أعمال بولغاكوف الأدبية: "نقل الأحاسيس مجردة، وكانت تلك العظمة في ما كتبه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com