"الأدب هو ألّا أستطيع أن أقرأ دون ألم ودون اختناق"، قال رولان بارت، الفيلسوف الفرنسي والناقد الأدبي، وقد صدق؛ كيف يحدث الانتماء للعمل لو لم يتوحد القارئ مع كاتبه، وينتمي لعوالمه، يتحرك على أرضه، ويطير في سمائه، ويعتقد معتقداته، ويظل رهينته دون أن يخطر له أن هذا وضع مؤقت، وأنه سطير طليقاً من جديد إلى مكان آخر، حين يصطدم بعمل آخر؟
نستعرض في هذا المقال كتابات وتصريحات تعبر عن لحظة الاصطدام الأولى بالقراءة والأدب.
1- لحظة هروب
"قرر لحظتها مذياع غرفتي أن يقول: (العيب فيكم يا في حبايبكم) في نفس اللحظة التي كنت أفكر فيها في أمرنا، ظللت أفكر وأفكر حتى أتلفت كل خلايا عقلي. جلست بعدها أحصي أحزاني وخيبتي تضحك بصوت مخيف، تضحك وتلتصق بالسقف، لتظل فوق رأسي في وضع مقلوب مربك، مثل الخفافيش التي لا تخرج إلا في الظلام، ولا تتجه إلا نحو الظلام".
كلمات كتبها محمد درويش، وهو طبيب بيطري خمسة وثلاثين عاماً، يقول محمد: "كتبت النص أعلاه، كتبته برداءة، سطوره مليئة بالأخطاء، وكلماته مسروقة. كتبته في صيف 2010، كنت أمر بانتكاسة نفسية بالغة الأذى والاضطراب، إثر قصة حب لم تكتمل، وانتهت نهاية سوداوية دون مقدمات.
كان الهروب له عدة أشكال وألوان، وكانت القراءة واحدة من أشكال الهروب التي اكتشفتها بالصدفة. أعطاني صديقي الرواية التي جعلته في عزلة لوقت ليس قليلاً، كانت رواية (سقف الكفاية) لمحمد حسن علوان، اكتشفت من أول فصل فيها لماذا يحب القراءُ القراءةَ، وكيف يجدون فيها إجاباتٍ وتفسيرات لهذيانِهم. كانت أول شيء اقرأه في حياتي، بعيداً عن مناهج الدراسة. سحرتْني ملحمته الإنسانية، ووجدتني في ناصر، بطل الرواية، في حياته وفي ألمه.
"الأدب هو ألّا أستطيع أن أقرأ دون ألم ودون اختناق"... لماذا ترتبط اللحظات الأولى لتورطنا في القراءة والأدب والخيال الإبداعي بالألم والفشل والمرض؟
أتذكر اقتباساً في الرواية أثارني وقتها، فحفظته (أن تكتب يعني أن تفني عمرك في محاولات تائهة لشرح ذاتك للآخرين). شرح ذاته وألمه وشرحني معه، وكان قادراً على احتوائي، بكل تيهي وألمي وأسئلتي التي فشلت وقتها في الحصول على إجابات لها، وشعرت بأنني قادر على الكتابة، وقادر على خلق ملحمة أخرى من مكاني هذا وعن زماني هذا. وضعت علامات عريضة أسفل سطور معظم الرواية. كنت أعيد استخدام كلماته وحواراته ومواقفه لشرح ألمي وحكايتي. أعيد تدويرها في سطور طويلة فأخلق نصاً من نص، ثم أعرض طبختي على أصدقائي من خلال منشورات الفيسبوك يومياً، وأكتب آخر بكل غرور ورغبة #محمد_درويش".
ويتابع: "ذات يوم طلب صديقي أن أكتب قصة قصيرة، وأعرضها في يوم اجتماع طلاب كليتنا في نادي أدب الجامعة، وقال: (أنا بحب اللي بتكتبه جداً، وبستناه). صمتُّ وشعرت بشيء من الوخز في صدري؛ يحب ما أكتبه أنا؟ هل أنا أكتب من الأساس؟ وددت لحظتها أن أخبره بحقيقتي، بحقيقة أنني أعيد تدوير كلمات علوان بهوس بالغ لا أدب فيه ولا بلاغة.
انتهت بعدها من داخلي فكرةُ أنني كاتب مع أول مواجهة حقيقة. وانتهت فكرةُ أنني قادر على الكتابة عندما أخذني أحدهم على محمل الجد. أتذكر أنني بعدها شاركت على صفحتي في الفيسبوك هذا النص: (لا يكون الحب قراراً أبداً. إنه الشيءُ الذي يختارُ اثنين بكل دِقّة، ويُشعل بينهما فتيلَ المواجهة، ويتركهما في فوضى المشاعر، دون دليل. إنه يريدهما بذلك أن يتعلما أول دروس الحب، كيف يحتاج كل منهما إلى الآخر). مضيت باسمه لأول مرة أسفل النص #محمد_حسن_علوان، وعلقت بأنني تعلمت منه أول دروس حب الأدب، وكيف يحتاج القارئ للكاتب، كما يحتاج الحبيب إلى حبيبه. وتوقفت بعدها عن الكتابة تماماً، أو عن إعادة محاكاة النصوص، ولم أتوقف عن القراءة أبداً، فكل حبي وتقديري لـمحمد حسن علوان، ولجميع الكتاب اللذين يبذلون قصارى جهدهم لشرحنا والتوحد معنا، وكل العزاء لي، ولمن يعيش تحت جلابيب المبدعين، فنحن ضحايا لشرِّهم البليغ المؤدب".
2- أنا مي زيادة وهو جبران
"معمدون الكُتاب بماء شرير، يعجنون مشاريعهم بتيهنا، ويظنون أنهم صنعوا عملاً عظيماً، لا مجازر بقافية ووزن، نحن أسلحتها وضحاياها..
"أنا سلمى عابد شاعرة وقاصة فلسطينية، ولم أكتب الشعر ولا القصة في يوم، عمري ثمانية وعشرون عاماً. كثيراً ما كنت أشعر وأنا أنتقل من بلد لآخر أنني منتمية لوطني من كتّابه وشعرائه. مرضت بشدة في إحدى المرات التي كنت مقيمة فيها في نيويورك للدراسة، وكانت كل الظروف تجبرني على خوض التجربة بمفردي، بالأخص حين أخبرني حبيبي زيد وبكل وضوح بأنه لم يعد قادراً على الحرب من أجلي.
لم أعلم وقتها أي حرب تلك التي كان يخوضها من الأساس، وأصبح غير قادر على مواصلتها، حتى أدركت مفاتيح اللعبة؛ لم يكن شيئاً صادقاً أو حقيقياً. كانت البداية بيني وبين زيد لقاءً عابراً في مكتبة الضفة في إحدى زياراتي لها. أهداني يومها زيد كتاب (رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان)، وكان يبدو عليه الغرق في حبهما، والرغبة في الحب بنفس الطريقة. عشت أراسله بطريقة مي زيادة، واعتبر نفسه جبران بشكل تلقائي، بل عاش أيضاً كل اضطراباته، يبدو الأمر مضحكاً وساذجاً، لكنه ما كان بكل بساطة.
أحبني حبيبي، وأحببته، وأحب كلانا الأدب والمبدعين. كتب لي رسائل مثل غسان كنفاني وجبران، ورددت عليه، متخيلة أني كمي زيادة، ولكنه تخلى عني. فشلت في الحب، وفي أن أكتب مثل المؤلفين الذين أحبهم، وتعلمت أن الحب وحده لا يكفي لأن أكون مثلهم
أخبرني في مساء بارد جداً في إحدى رسائله الورقية لا الإلكترونية أنه ليس حراً ليحبني، والحب حرية، وأنه يسكن وطناً سجيناً مريضاً هو الأحق باهتمامه وحبّه. وافقته دون تردد، لأنني شعرت فوراً بهشاشة علاقتنا برغم عمرها الذي كان قد بلغ العامين. هشاشتها كانت بسمك الورق الذي نستنشق نصوصه وتستنشقنا، ونسقط فوقها بنعومة مسحوق الطحين الأبيض، ونظل نتخبط مع شهيقها وزفيرها إلى الداخل والخارج حتى نتلون بها، ثم نلفظ إلى الحياة مرة أخرى.
لكنني مرضت إثر هذا. تذكرت بدر شاكر السياب، ومرضه وأحلامه وغربته في الخليج، ولحق بي شبح قصيدته (غريب على الخليج). قرأتها ليلتها أكثر من عشر مرات، وأخذت بعدها قرارَ الكتابة. وددت أن أكتب عن وحدتي ومرضي وفشلي في الحب. كنت أعرّف نفسي من سنوات بين أي جماعة بأنني قاصة وشاعرة، وأؤجل في نفس الوقت فكرةَ أن أكتب، وان أختبر توقعاتي. تذكرت ليلتها مثل جدتي رحيمة (عنتر أسود وصيته أبيض). كتبت ليلتها قصيدةً عن الغربة والوحدة والحب، لأقرب الحقيقة والصيت من بعضهما. وحين قرأتها في الصباح وجدتها لا تختلف شيئاً عن قصيدة السياب؛ نفس المفردات والترتيب والمحاور والحزن والمنحى وكل شيء سوى البلاغة والصدق. أخبرتني يومها بكلّ صراحة ووقاحة أنني لا أحب (زيد)، ولا (أكتب القصص والشعر). أخبرتني بقسوة بأنني مريضة بحبّ الأدب، والحب وحده لا يكفي لأصبح مثلهم، ولا يكفي لتنجح قصصُ حبي التي أحببتها لأنها سارت على نهجهم".
3- من يحب روحي؟
"الحب للروح والشهوة للجسد، أنا لا روح لي. عندما كنت صغيرة لم أجد روحي، عندما كبرت لم أتعب نفسي في البحث عنها. كنت أعرف أنني جسدي فقط. لا أملك شيئاً آخر. جسدي هو ذكائي ووعيي وثقافتي. من يشتهي جسدي يحبني، من يحب جسدي يشتهيني، هذا هو الحب الوحيد الذي أعرفه، والباقي أدبيات".
تقول مريم أمين: "أنقذتني سلوى النعيمي، وأنقذني الأدب. اقترحت صديقة تعرفت عليها بالصدفة عبر الإنترنت أن أقرأ رواية (برهان العسل) لسلوى النعيمي. كان اليأس وشعور الذنب وصلا إلى قمتهما داخلي. بدأت وقتها أتوجه نحو إلحاق الأذى بجسدي، كنت أعيش رعباً كبيراً مبهماً".
الاقتباس المذكور أعلاه هو فلسفة منقذة من ثلاثة سطور؛ فلسفة مسحت من فوق عيني ورأسي وصدري غباراً يشبه القنابل النووية، لما كنت أتعذب، لما كنت أعاقبني على شعوري بجسدي. أي روح هذه التي كان يجب أن أحضر بها بشكلها المجرد في هذا العالم المادي المجنون؟ من يحبّ روحي؟ عائلتي؟ حبيبي الذي رحل؟ صديقي الذي يضعني في خانة المرشحات لسريره؟ مديري العجوز؟ بواب العمارة؟.
أدبيات الروح أدبيات، والجسد الذي وهبته أول مرة للحبيب لأنه تحايل على قلبي باسم الحب، وللصديق بعدما أدركت قواعد اللعبة باسم المنفعة واللذة هو أنا، هو وجودي المادي هنا في عالم المادة، حين التقيت بكلمات سلوى وعسل فلسفتها أحببتني، وأحببت جسدي، ولونته ليصبح ذكائي ووعيي وثقافتي.
"أي روح هذه التي كان يجب أن أحضر بها بشكلها المجرد في هذا العالم المادي المجنون؟ من يحب روحي؟ عائلتي؟ حبيبي الذي رحل؟ صديقي الذي يضعني في خانة المرشحات لسريره؟ مديري العجوز؟ بواب العمارة؟ من يشتهي جسدي يحبني، من يحب جسدي يشتهيني، هذا هو الحب الوحيد الذي أعرفه، والباقي أدبيات "
لم أعد أشعر بالخزي والعار وبرغبة الانتحار كلما وجدت جسدي يتعامل معاملة الجسد. أدركت خلال فصولها الحقائق، وكيف أهضم عادات العرب، وأتحايل عليها كأي فتاة عربية متدينة، وكيف أقدس جسدي ورغباته كأي فتاة غريبة لادينية. فهمت المعادلة ففهمتني وفهمتهم، وأدركت أنني لست بمفردي، ولست بحاجة لطبيب يعالج شذوذ أفكاري، أو لشيخ يهديني، أو لزوج صالح يعفني. مزقت كلَّ أوراق خطط روايتي، روايتي التي تخيلت من فرط الألم والوحدة والخوف أنني بها سأدافع عن نفسي لو كشف أمر حكايات جسدي في يوم ما. سأدافع عن نفسي من خلالها، من خلال الحديث عني، وعن كل ما حدث لي.
شهوراً تطورت لسنوات أحاول تجميع ملامح لرواية تكون نفسيتي هي بطلتها. لذلك أقول دائماً إن سلوى النعيمي أنقذتني، أنقذتني من عبث ما أكتب، وسوء ورداءة سردي وتعبيري، وخوفي من استمرار عجزي عن الكتابة، وفقدان آخر حبال النجاة إن حدث لي مكروه ما. أنقذتني ورحت أستعير بسطورها كلما احتجت أن أحتج أمام العالم بشكل معلن، وأستعيرها كلما احتجت ألا احتج أمام العالم أو أهتم لأمره. أنقذتْ أيضاً سلوى العالم من كاتبة مثلي، كان كل هدفها الاحتجاج بسرية معلنة، أظن هذه هي مهمة الكُتاب، ولهذا تصنع الكتب والروايات".
4- سرقتُ أفكار رواية عجبتني
"كل الذين صنعوا عملاً عظيماً هم سفاحون بالنسبة لي. أنا من ضحايا الأدب. أمعائي لا تمتص العمل مثلكم، وتتغذى وتتطور أدواتي إثره. أظل ألتهم حتى أتقيأ، ثم أفقد كل قوتي وأمرض. أنا عمار راشد، نصحني أستاذي في الجامعة أن اقرأ، لأصبح صحافياً جيداً، لكن العمل المذهل راح يأكل من رأسي، ثم يتكوم فوقها بثقلين؛ ثقله الحقيقي، وثقل ما أكله منها. فتظهر على حدودي المنطقية أعراض أفكار لا منطقية، كالرغبة في صنع عمل بنفس جودة الروعة. تظل الرغبة تتصاعد حتى تصل إلى آخر قامتي في المقاومة، فيجتاحني العجز، وأظل أتأرجح بجسدي المشنوق على هامش الإبداع، حتى أسقط وأنتهي.
عضتني حروف رواية (عزازيل) وأصابني السعار. سرقت فكرتها، ثم رحت أتوقف عند كلّ سطر، لا فصل، وأحياناً كل كلمة. أحاول كتابةَ مثلها، وحين عجزتْ أبجديتي عن كتابة مثلها، كتبت ما ترادفها في معجم اللغة. غيرت أسماء الشخصيات بصعوبة، وتركت خلفياتهم وملامحهم كما هي، وتأرجحت فوق فكرة تغير الزمان والمكان، وهنا سقطت في غياهب العجز تماماً، وأدركت الحقيقة: هذا العمل من صنع ساحر، وأنا مجرد مسحور مسكين.
كنت أرسل أي فصل أنجزه للأصدقاء الذين لا يقرؤون، ولا يعلمون من هو يوسف زيدان. كان تشجيعهم يجعلني راضياً، ومستمراً، وقوياً، وصامداً أمام جريمتي. أخبرني أستاذي قاسم عزاز أنه سمع أنني مشروع روائي جيد، والجميع يتحدث عن روايتي التي تحت الإنشاء. فتجرأت وأرسلت له ما كتبت، وكأن طمعي في المزيد من شعور الثناء والمديح، وطمعي في مشاركة يوسف نجاحه وإبداعه. (جعلوني أهبل) بإثبات رسمي.
أخبرني أستاذي دون اهتمام أن ما كتبته هو محاكاة واضحة لرواية (عزازيل)، وأرسل لي إحدى الفقرات التي كتبتها بغرور كبير وانتظرت ثناءه عليها، وكانت هذه: (أمضيت يومين بالمكتبة أحاور ملاكي حتى أقنعته بعدة أمور، وأقنعني بأمور كنت أخشاها... كان مما أقنعني به وجاء على هوى روحي، أن أختلي بغرفتي شهراً، أدون خلالها ما رأيته في حياتي منذ هروبي، حتى رحيلي عن هنا... وها هي الأيام قد مرت، ورأيت في أعماق ذاتي هذه المساحة البيضاء، فربما يأتي بعدي من يملؤها، أما الآن فيجب أن أدفن خوفي الموروث، وهواجسي القديمة كلها، وأذهب).
علق (أستاذي) بعدها بلطف غير معتاد: (هذول الخمس سطور هم هواجس الراهب هيبا... فاتّقِ الله يا عمار يا راشد!). ثم مازحني، وأكد أن ما فعلته بئر يسقط فيه جميع الهواة في البداية، وعلي أن أخرج منه بسرعة، وأن أدرس وأجتهد وأقرأ كثيراً لأصبح بالفعل جديراً بالنجاح. لكنني توقفت عن الكتابة من يومها بشكل نهائي. مرّت سبعة أعوام وما زلت أقرأ وأدرس، ولا أحاول الكتابة، ولا أحاول الاقتراب من عالم يوسف زيدان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون