أن تكون موظفاً حكومياً وذا دخل سنوي محترم، ليس كافياً لتحصل على قرض شراء مسكن. هذه حقيقة برزت للعيان بعد سنوات من ثورة الياسمين التونسية، حينما بددت العوامل الاقتصادية الصعبة وتعاقب الحكومات وعدم تحقيقها لأي إصلاحات عقارية تُذكر، أحلام المواطنين باقتناء منزل أو شقة سواء في تونس العاصمة أو في المحافظات القريبة منها.
منذ العام الماضي، تضاعفت شكاوى التونسيين من الغلاء الفاحش لأسعار العقارات التي وصلت إلى مبالغ قياسية (300 ألف دينار أي نحو 100 ألف دولار للعقار الواحد)، إذ عجزت الطبقتان الوسطى والفقيرة عن مجاراة نسق الارتفاع الذي طاول كل شيء، لأسباب تعود إلى انتقال الأسر من القرى والأرياف إلى الأحياء المحيطة بالعاصمة، والمهنيين من الشباب الذين تجذبهم فرص عمل مغرية في المدن الكبرى. ومما زاد الطين بلةً، رفع البنك المركزي التونسي نسبة الفائدة بطريقة متكررة وشهرية تقريباً، كان آخرها في تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، عندما قرر مجلس إدارته رفعها 25 نقطةً أساسيةً، لتصبح 25.7 في المئة مقابل 7 في المئة في السابق. وهو ما توقعه مختصون عقاريون وخبراء اقتصاديون رأوا أنه وسيلة لتطويق نسبة التضخم التي تعرف منحى تصاعدياً مقابل تقديم هدايا للقطاع المصرفي الذي يجني أرباحاً جديدةً من زيادة سعر الفائدة.
وخلال السنوات الخمس الماضية، قفز سعر الفائدة من 4.75 سنة 2017، إلى 7 في المئة سنة 2022، بينما بلغ أعلى سعر حدده البنك المركزي 7.75 في المئة، وذلك في شباط/ فبراير 2019.
العقار... حلم صعب المنال
يرى فهمي شعبان، رئيس "الغرفة النقابية الوطنية للباعثين العقاريين" في تونس، في حديثه إلى رصيف22، أن "قرار البنك المركزي بالرفع من نسبة الفائدة المديرية، سينعكس سلباً على قطاع البناء والسكن من خلال تسجيل ارتفاع لافت لكلفة القرض البنكي وخاصةً قروض السكن"، منبّهاً إلى أن البنوك تتبع آليةً معيّنةً تقوم على قبول ملف فرد فقط من بين أربعة أفراد لعدم توفر القدرة على سداد القرض.
يقول محدثنا إن ارتفاع أسعار المحروقات في الفترة الأخيرة، أثر أيضاً على أسعار بعض مواد البناء على غرار الإسمنت والآجر ومواد المقاطع كالكسارات والرافعات التي تشتغل بالوقود، وتالياً صعود الكلفة بصفة عامة، زد على ذلك انهيار قيمة الدينار التونسي أمام الدولار واليورو والاعتماد على استيراد المواد الأوليّة، الأمر الذي من شأنه أن يسبب تراجعاً في نسب بيع المنشآت السكنية وتعطيل فرص المستثمرين العقاريين في الحصول على قروض جديدة.
منذ العام الماضي، تضاعفت شكاوى التونسيين من الغلاء الفاحش لأسعار العقارات التي وصلت إلى مبالغ قياسية حتى أشبه شراء "قبر الحياة" شبه مستحيل
حذّر شعبان، من الشلل الذي يهدد قطاع العقارات إذا ما تدخلت الدولة لإنعاشه خلال العام 2023، مؤكداً أن الغرفة النقابية الوطنية للباعثين العقاريين تقدمت بمقترحات إلى كل من البنك المركزي ووزارتي المالية والتجهيز والإسكان مفادها إقرار نسبة فائدة قارّة خاصة بالسّكن تساعد التونسيين على تملّك منزل، وخفض قيمة التمويل الذاتي عند تقديم الزبون لمطلب قرض بنكي من 20 إلى 10 في المئة ورفع مدة تسديد القروض من 15 أو 20 سنةً إلى 35 سنةً.
مسكن الأحلام "صعب المنال"
قد تتأجل الأحلام إلى حين، وقد تأتي الظروف عكس الأحلام لتعيقها ليطول بذلك تحقيقها. هذا ملخصٌ بسيط لما حدث مع وجدي، الموظف الحكومي البالغ من العمر 34 عاماً، والمعيل الوحيد لأسرة تتكون من زوجته وووالدته وابنه الرضيع.
بعد أكثر من 10 سنوات من العمل، و13 شهراً من الإجراءات الإدارية الطويلة والمعقدة، وموافقة مصرفه على الحصول على قرض، تحقق حلم محدث رصيف22، بامتلاك شقة صغيرة في محافظة بن عروس، لا تتجاوز مساحتها 130 متراً مربعاً بسعر يقارب مئتي ألف دينار تونسي (نحو 65 ألف دولار).
"الأثرياء فقط قادرون على العيش في منأى عن المشكلات التي تواجه الأسر المتوسطة الدخل الراغبة في تملك منزل"
يؤكد وجدي، لرصيف22، أن "الأثرياء فقط قادرون على العيش في منأى عن المشكلات التي تواجه الأسر المتوسطة الدخل الراغبة في تملك منزل"، و"أن البنك سيقتطع أكثر من ثلثي راتبه على امتداد 20 سنةً، لسداد أقساط القرض التي وصفها بـ"القاصمة للظهر"، بالرغم من كونه يتمتع بميزة برنامج "المسكن الأول"، قائلاً: "إن الموظف أو المواطن الحاصل على قرض سكني يظل حبيس الأقساط المصرفية وسيل الزيادات في الفواتير وغلاء المعيشة إلى حين تقاعده عن العمل".
شروط مصرفية... "تعجيزية"
وفق قانون المصارف التونسية، يلتزم الراغب في الحصول على قرض مصرفي بأن يحول راتبه الشهري إلى البنك إلى حين انتهاء الأقساط، مع توفير مختلف الضمانات التي تمكّن المصرف من متابعته قانونياً في حالة التأخر في السداد، وتصل إلى حد مصادرة المسكن الممول الذي يظل تحت تصرف البنك حتى سداد آخر قسط.
في ما يتعلق بالحيّز الزمني لحصوله على مسكن، أفاد محدثنا بأن إجراءات التسجيل في تونس وما يتبعها من عقود وكتابات وتصاريح متعلقة بنقل ملكية العقارات بمقابل أو من دون مقابل، من قبيل الهبات والتركات، تمثّل عوامل تسببت في تعطيله عن استكمال ملفه بصفة نهائية.
"البنوك هي المستفيد الأكبر من أحلامنا، فالحصول على قرض سكني ينعش حساباتهم البنكية، نظراً إلى ارتفاع نسبة الفائدة المسلطة على هذا النوع من القروض"
ولمّح إلى أن "الموظفة المكلّفة بالقروض السكنية في البنك الذي انخرط فيه تتعمد إطالة الإجراءات على أمل الحصول على رشوة أو نصيب مالي ما".
يُعدّ وجدي محظوظاً إذ إنه ورث نصيباً محترماً من تركة والده سهّل عليه عملية اقتناء شقته، ويقول إن "البنوك هي المستفيد الأكبر من أحلامنا، فالحصول على قرض سكني ينعش حساباتهم البنكية، نظراً إلى ارتفاع نسبة الفائدة المسلطة على هذا النوع من القروض"، و"حكايتي تُعدّ بسيطةً مقارنةً بذوي الدخل الضعيف الذين سيظلون رهائن للإيجار في أحياء شعبية تنعدم فيها أبسط مقومات الرفاهة ومحرمين من امتلاك عدد من الجدران التي تحميهم من البنوك الموصدة أبوابها إلا لأصحاب الوساطة".
معاملات بنكية "مريبة" و"اختلاس"
وجدي، أشار إلى تعمّد الموظفة المكلفة بالقروض السكنية في البنك الذي يتعامل معه، إطالة الإجراءات، بتعلّة أنه يودّ التمتع بمزايا المسكن الأول، ويقول: "كلما ذهبت إلى الفرع البنكي ومقرّه تونس العاصمة، إجد طابوراً من الزبائن الذين ينتظرون دورهم للتواصل مع المكلّفة بالقروض، وكنت أحياناً أنتظر لساعات وأغادر وكلي سخط وغضب من طريقة التعامل التي تصل أحياناً إلى حد الاحتقار، وكأن الزبون مجرد متسول ينتظر من ينعم عليه ببضعة قروش تأويه وتنقذه من الإيجار".
أحسست بأن موظفة البنك تتعمد المماطلة، حتى أحفّزها بمبلغ مالي (رشوة)، الأمر الذي لطالما سمعته عنها من زبائن آخرين
وأضاف: "كنت أغلب الوقت أفكر ملياً في التخلي عن فكرة تحقيق هذا الحلم، والبقاء أجيراً، لكن عائلتي كانت تقنعني بالعدول عن هذه الأفكار التي تنتابني كلما أحسست بأن موظفة البنك تتعمد المماطلة، حتى أحفّزها بمبلغ مالي (رشوة)، الأمر الذي لطالما سمعته عنها من زبائن آخرين".
يضيف وجدي: "أيقنت أن كل الشائعات عن هذا الإطار البنكي حقيقية، وليست ضرباً من الخيال حينما علمت مؤخراً بأنها اختلست مبلغاً مالياً ضخماً قدره 700 ألف دينار تونسي (أي ما يعادل 230 ألف دولار)، قبل أن تغادر البلاد إلى تركيا".
"المسكن الأول"... تجربة فاشلة
أطلقت الحكومة التونسية في شباط/ فبراير 2017، برنامجاً أطلقت عليه عنوان "المسكن الأول"، في مسعى إلى فتح آفاق جديدة لفائدة العائلات حتى تتمكن من امتلاك عقار سكني. إلا أن هذا البرنامج لم يرقَ إلى تطلعات التونسيين لشروطه الصعبة.
وقد تم إدراج هذا البرنامج في الجريدة الرسمية "الرائد"، والمنظومة البنكية لتمكين الأسر التي تتوفر فيها شروط المسكن الأول، وأهمها عدم امتلاك مسكن آخر، وأن يتراوح الدخل العائلي بين 4.5 و10 أضعاف الأجر الأدنى المهني المضمون على أن يكون أحد الشريكين أجيراً في القطاع العام أو الخاص، كما يشترط البرنامج ألّا يتجاوز ثمن المسكن مبلغ 200 ألف دينار (أي نحو 70 ألف دولار).
حسب تصريحات سابقة لرئيسة الحكومة نجلاء بودن، في تموز/ يوليو 2022، فإن البرنامج الخصوصي للسكن الاجتماعي شهد تعثراً في العديد من الجهات بسبب عزوف المقاولين عن المشاركة فيه وانعدام الطلب عليه، مع العلم أنه يوجد ما بين 4،500 و5،000 مسكن جاهز بأسعار أقصاها 250 ألف دينار (83 ألف دولار) بحكم الأداء على القيمة المضافة.
ويرى الخبير المالي خالد النوري، في تصريح لرصيف22، أن "قضية أزمة السكن ومشكلاتها، ترتبط بحياتنا اليومية وتُعدّ واحدةً من أهم المشكلات التي يعاني منها الجيل الحالي من الشباب التونسي على مرِّ العقدين الماضيين". ويضيف: "هذه الأزمة لن تُحلّ من دون تضافر الجهود الحكومية لتخفيض أسعار الأراضي ومواد البناء مع المبادرات المجتمعية لدعم ذوي الدخل المنخفض ومساعدتهم على الحصول على شقق بأسعار معقولة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...