كانت عقارب الساعة تُشير إلى تخطّي الرابعة من بعد الظهر بقليل، وفق التوقيت المحلي لمدينة إسطنبول التركية، يوم الأحد في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، عندما هزّ صوت انفجار في شارع الاستقلال الشهير، وسط المدينة، في أثناء مرور الآلاف من الأتراك والسياح، وسرعان ما توافدت القوى الأمنية وسيارات الإسعاف إلى مكان الحادث.
تقول سمية محمد، وهو اسم مستعار لسيدة سورية تقيم في منطقة باشاك شهير، في إسطنبول، لرصيف22، إنها ومنذ التفجير "تحاول التزام منزلها قدر الإمكان، إلا في حالات الضرورة، حتى لا تتعرض لأي موقف، كذلك للابتعاد عن المشكلات"، وهو ما أقدمت عليه كذلك نسرين السيد (اسم مستعار)، مشيرةً إلى أن "مشاعر الغضب حالياً ستكون كبيرةً لدى بعض العنصريين".
وأدى الانفجار إلى مقتل ستة أتراك، وأكثر من خمسين جريحاً وفق البيانات الرسمية للحكومة التركية، التي أعلنت بدورها عن مسؤولية حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، ذراع حزب العمال الكردستاني PKK، عن الانفجار، وكلاهما على قوائم أنقرة للإرهاب وينشطان في مناطق شمال سوريا والعراق.
كما أعلنت الحكومة التركية، في وقت لاحق، عن اعتقال منفذة التفجير وشخص آخر حاول مساعدتها على الفرار باتجاه اليونان، بحسب ما أعلنت وزارة الداخلية التركية. وسرعان ما قامت بلدية "بي أوغلو"، المسؤولة عن شارع الاستقلال، بتنظيف المكان من مخلّفات الانفجار ونشر أكثر من ألف علم تركي، كما أحاطت مكان التفجير بسلسلة من الحبال ليتحول إلى مكان مليء بالورود لذكرى الضحايا.
جاء التفجير وسط ظروف معقدة تعيشها تركيا، وقد يؤثر على عدد من الملفات الداخلية التي تشهد أصلاً استقطاباً سياسياً حاداً مع اقتراب الانتخابات
ظروف معقدة
جاء التفجير وسط ظروف معقدة تعيشها تركيا، وقد يؤثر على عدد من الملفات الداخلية في البلاد التي تشهد أصلاً استقطاباً سياسياً حاداً مع اقتراب الانتخابات العامة المقررة صيف العام المقبل 2023، وأزمةً اقتصاديةً ناتجةً عن ارتفاع معدلات التضخم عالمياً، وتعافي قطاع السياحة التركي بعد جائحة فيروس كورونا (تقترب تركيا من استضافة أكثر من 45 مليون سائح في 2022، بحسب بيانات وزارة الثقافة والسياحة التركية).
يُضاف إلى ما سبق، ملف اللاجئين السوريين تحديداً، في البلاد، والخاضع بدوره للتجاذبات السياسية، والذي قد يُسهم التفجير في نتائج لن تكون مرضيةً في كل الأحوال لمستقبلهم سواء في سوريا أو في تركيا.
ويعاني السوريون المقيمون في تركيا في الأصل، من القلق الدائم نتيجة عاملين مهمين: اقتراب الانتخابات ولعب المعارضة التركية على هذا الملف تحديداً، لاجتذاب أصوات الناخبين الرافضين لسياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الداخلية، وهذا هو العامل الأول.
أما العامل الثاني، فهو رد الفعل الحكومي على تحركات المعارضة والتغيرات الإقليمية المتصلة، والتي أدت بدورها إلى تضييق حكومي ملحوظ على منح وتجديد الإقامات قصيرة الأمد (تُعرف باسم الإقامة السياحية لدى السوريين والعرب في تركيا) وإقامات العمل الرسمية، والتوقف عن منح بطاقات الحماية المؤقتة (كمليك)، في عدد كبير من الولايات التركية، بالإضافة إلى عمليات الترحيل المستمرة والمتكررة للمخالفين باتجاه المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري (إدلب وريف حلب)، والتي تسيطر عليها قوات محسوبة على المعارضة السورية.
كذلك، فإن القاطنين في إسطنبول والمدن التركية الأخرى، التي تشهد حضوراً سورياً كبيراً (مدن الجنوب التركي تحديداً)، لاحظوا تغيّر المزاج الشعبي منذ خسارة الحزب الحاكم في تركيا، حزب العدالة والتنمية، في الانتخابات البلدية في عام 2018، وازدياد حوادث العنصرية بالتدريج، وظهور شخصيات سياسية تركية مارست بالفعل عنصريةً واضحةً حتى على اللاجئين الحاصلين على الجنسية التركية، والحديث هنا تحديداً عن أوميت أوزداغ، زعيم حزب النصر.
وهذا ما دعا بطبيعة الحال عدداً كبيراً من السوريين إلى مغادرة تركيا إلى بلاد أخرى، وتحديداً إلى أوروبا، ويمكن ملاحظة ازدياد محاولات الهجرة غير الشرعية بشكل شبه يومي بالرغم من غياب إحصائيات رسمية من الحكومة التركية.
بدء العملية العسكرية؟
شهد أيار/ مايو الماضي، إعلان الرئيس التركي عن نيّة بلاده تنفيذ عملية عسكرية هي الخامسة في مناطق شمال سوريا، وخلال الشهور الماضية أكد أردوغان ومسؤولون أتراك على عزم أنقرة تنفيذ هذه العملية في أي وقت من دون "انتظار إذن من أحد وفي الوقت الذي تراه تركيا مناسباً لاستهداف من تراهم إرهابيين".
أحاول التزام منزلي قدر الإمكان، إلا في حالات الضرورة، حتى لا أتعرض لأي موقف، فمشاعر الغضب حالياً ستكون كبيرةً لدى بعض العنصريين
ويبدو للوهلة الأولى أن التفجير الذي ضرب أحد أكثر الشوارع أهميةً وشهرةً في إسطنبول، والذي يمرّ به أكثر من مليوني شخص يومياً، سيكون مبرراً كافياً لتركيا لتشن عمليتها العسكرية الجديدة، إلا أن التسربيات الإعلامية التي ظهرت في أعقاب اجتماع طهران الثلاثي في تموز/ يوليو الماضي، تُظهر أن روسيا وإيران، وكلاهما لاعبان رئيسيان في الملف السوري، لم يوافقا على شنّ أنقرة أي عملية جديدة قد تؤدي إلى تغييرات في الوضع الحالي على الأرض.
يقول المتخصص في الشؤون الدولية، طه عودة، لرصيف22، إن "الأحاديث الحالية داخل أروقة السياسة التركية تؤكد أن أنقرة تعتزم ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني شمال سوريا والعراق".
كلام عودة يتقاطع مع ما نقلته وكالة رويترز عن مسؤول تركي كبير لم تذكر اسمه، في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، بأن تركيا "تعتزم ملاحقة أهداف في شمال سوريا بعد أن تكمل عمليةً ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق"، مؤكداً على أن أنقرة "ستقضي على التهديدات على حدودها الجنوبية".
من جهته، لا يرى الباحث في مركز عمران للدراسات، معن طلّاع، إمكانيةً لعملية عسكرية قريبة قد تنفذها أنقرة لأن "مسببات عدم تنفيذ العملية ما تزال موجودةً، وهي عدم مباركة روسيا وإيران لها بالرغم من تفهمهما هواجس تركيا، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية مستمرة في وضع شروط رافضة للعملية"، مضيفاً: "بناءً على المناخ الدبلوماسي والسياسي وتقاطع مصالح الدول، لا تتوفر الظروف التي تجعل العملية تحظى بدعم دولي".
في الوقت نفسه، يشير طلّاع في حديثه إلى رصيف22، إلى أن "التفجير سيشكل دافعاً جديداً باتجاه عمليات أمنية جديدة، وهي عمليات مستمرة عبر استهداف قيادات وضرب بنى تحتية لدى الإدارة الذاتية، واليوم قد نشهد عمليةً أمنيةً أوسع وبأهداف أكبر وهذا الأمر هو الحد الأدنى الذي قد تقوم به تركيا، خاصةً أن مناخ ما قبل الانتخابات يحتاج إلى بيئة تجمع الشعب مع الحكومة، وتالياً العمل على "استئصال الإرهاب" خارج الحدود سيكون عاملاً جامعاً للأطراف التركية".
تستعيد أحزاب معارضة خطابات عنصريةً ومحرضةً على ترحيل اللاجئين، خاصةً مع إعلان السلطات التركية أن منفذة التفجير سورية الجنسية
ويتقاطع رأي طلّاع مع رأي عودة، الذي يرى أنه من "المرجح أن نشهد عمليات تركيةً أمنيةً واستخباراتيةً، وانتقاميةً تستهدف قيادات في المنطقة من دون أن يتطور الأمر إلى عملية عسكرية".
الجدير بالذكر، أن قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، نفى في تغريدة على حسابه الرسمي في تويتر، أي علاقة لقواته بتفجير شارع الاستقلال، وذلك في 14 من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، في وقت أعلن فيه وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، رفض التعزية المقدّمة من واشنطن.
من يدفع الثمن؟
لا شكّ في أن التفجير يجعل تركيا تدفع ثمناً اقتصادياً وسياحياً وأمنياً كذلك، ويؤثر مباشرةً على المجتمع التركي، إلا أنه لا يبدو أن المواطنين الأتراك وحدهم من يدفعون ثمنه، إذ إن الظروف المعقدة التي يعيشها اللاجئون السوريون، ومعهم الجالية العربية في تركيا، ستؤدي إلى تعريضهم لردات فعل متعددة.
مباشرةً بعد التفجير، احتل وسم "سوريلي" المركز الأول على تويتر في تركيا، وتعني كلمة سوريلي باللغة التركية "سوري"، ومنذ شهور طويلة يظهر هذا الوسم على تويتر، سواء كان هناك حدث يرتبط باللاجئين السوريين أم لا. وعادةً ما يطالب مستخدمو الوسم بترحيل اللاجئين السوريين ومهاجمتهم وإظهار جوانب سيئة أو حوادث مرتبطة بهم للدلالة على رفض وجودهم.
في الوقت نفسه، تستعيد أحزاب معارضة خطابات عنصريةً ومحرضةً على ترحيل اللاجئين، خاصةً مع إعلان السلطات التركية أن منفذة التفجير سورية الجنسية، ودخلت إلى تركيا بطريقة غير شرعية.
وظهرت مخاوف اللاجئين السوريين من خلال محاولة تقليل تحركاتهم، إلا في حدود الضرورة، وهو ما أجمع عليه من تواصل معهم رصيف22، من لاجئين مقيمين في إسطنبول، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكثير من الجاليات العربية، ولكن بنسبة أقل.
سيشكل التفجير دافعاً جديداً باتجاه عمليات أمنية جديدة لاستهداف قيادات وضرب بنى تحتية لدى الإدارة الذاتية، واليوم قد نشهد عمليةً أمنيةً أوسع وبأهداف أكبر وهذا هو الحد الأدنى الذي قد تقوم به تركيا
ويرى الناشط في حقوق اللاجئين طه الغازي، أن التفجير "للأسف سيؤثر على كافة مناحي حياة اللاجئين السوريين والعرب"، ويعود بالذاكرة إلى شباط/ فبراير 2020، وحادثة وفاة جنود أتراك نتيجة قصف قوات نظام الأسد، نقطةً عسكريةً تركيةً، ونشأت حينها تيارات إعلامية وسياسية استخدمت لغة كراهية وعداء تجاه اللاجئين، و"اليوم نشهد الأمر نفسه ولو على نطاق ضيق"، مشيراً إلى أن السوريين بالفعل "لديهم تخوفات من التعاطي مع المجتمع التركي وباتت تحركاتهم ووجودهم في المناطق العامة والحدائق، أقلّ بدرجة ملحوظة".
من جهته، يلفت الباحث في مركز عمران للدراسات، إلى "وجود حملات شعبية غير معنية بفهم السياق العام للحدث وتفاصيله، وتكتفي بالعنوان الكبير بأن السيدة سورية، وهذا كافٍ لإعادة الملف إلى الواجهة من جديد، وهذا ما يمكن رصده من خلال موقع تويتر وهاشتاغ ‘سوريلي’ الذي تصدر التراند".
ويضيف: "أي حادثة في الداخل التركي ذات علاقة بملف اللاجئين، من شأنها إعادة إحياء الملف ككل، وجعله عنصراً رئيسياً في السياسات الانتخابية، كما أن هذا الملف حساس جداً ويرتبط بالإرهاب الداخلي نتيجة التفجير الأخير".
لكن طلّاع يرى في المقابل أن التفجير "لن يساهم في تعزيز سياسات الحكومة في مشروع العودة الطوعية، لأن القضية قضية أمن وإرهاب ولا يمكن للحكومة التركية أن تحمّل السوريين كل تبعات هذا الأمر، وهي أيضاً مرتبطة بحزب الاتحاد الديمقراطي، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، وتالياً لن تكون هناك من قبل الحكومة على الأقل، أي تحركات في هذا الخصوص".
ومن خلال تحليله للمشهد، فإن "ملف العودة الطوعية ليس مرتبطاً فقط بمنظور الفاعل الانتخابي التركي، بل بسياسات الأمان والاستقرار والعودة الكريمة للسوريين، وسياسات الأمم المتحدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...