"شروط العمل في تركيا مجحفة جداً. أنا أعمل 6 أيام أسبوعياً لمدة 12 ساعةً، مقابل 4،000 ليرة تركية، وهو أقل من الحد الأدنى الذي حددته الدولة التركية. كما أني لا أملك إذناً للعمل بشكل رسمي، وبشكل متقطع يخبرنا صاحب العمل بأنه علينا الاختباء لأن الشرطة قادمة من أجل التفتيش".
أنس مستو، نازح سوري يعمل في مصنع حياكة في مدينة غازي عنتاب، يحاول أن يحصّل رزقه كما بقية السوريين الموزعين في مناطق وولايات متعددة في تركيا، يشقى من أجل أن يحيا وعائلته، في انتظار عودة صارت بالنسبة إليه بعيدةً، أو في أحسن الأحوال قسريةً إلى شمال بلاد أُجبر على تركها بحثاً عن نجاة.
يقول لرصيف22: "ما يجبرني على العمل في هذه الظروف بالرغم من أني أعلم أنه يتم استغلالي، هي الحاجة إلى إعالة أسرتي، إذ إني أعيش مع زوجتي وطفلتي هنا، بالإضافة إلى قيامي بتحويل مبلغ مالي شهري إلى والدي في سوريا، وهو ما يزيد العبء ويضطرني إلى الحفاظ على فرصة عملي، مهما كانت معاناتي".
واقع مزرٍ
تتعرض فئة كبيرة من العمال السوريون الذين دخلوا سوق العمل التركي، بعد هجرتهم إلى تركيا نتيجة الحرب الدائرة في سوريا، إلى تهميش وسوء معاملة، بالرغم من الأثر الإيجابي الكبير الذي حققوه من خلال زيادة الأرباح ودعم كثير من قطاعات العمل، لا سيما مع تصاعد الأزمة الاقتصادية التي يواجهها البلد المضيف.
يعمل معظم العمال السوريين أكثر من 8 ساعات يومياً، بينهم من يعمل لما يزيد عن 65 ساعةً أسبوعياً من دون الحصول على تعويض مالي يتناسب مع العمل الإضافي
ويعمل معظم العمال السوريين أكثر من 8 ساعات يومياً (45 ساعة عمل أسبوعياً)، بينهم من يعمل لما يزيد عن 65 ساعةً أسبوعياً من دون الحصول على تعويض مالي يتناسب مع العمل الإضافي، أو الحصول على حد مقبول من الإجازات أو الحقوق القانونية، وذلك حسب دراسة "العمالة السورية في سوق العمل التركي"، التي أعدها مركز الحوار السوري، في شهر آب/ أغسطس 2021.
ولا يصل راتب معظم العمال السوريين إلى الحد الأدنى للأجور والبالغ 4،250 ليرةً تركيةً؛ إذ يتقاضى معظمهم أجوراً شهريةً لا تتناسب مع ساعات العمل الطويلة؛ إلا أن حيازة ملكات لغوية متقدمة يمكن أن تزيد فرصة الحصول على راتب أعلى في بعض الأحيان. كما يعملون أيضاً من دون تراخيص عمل رسمية، بالرغم من أن الغالبية منهم ليس لديها أي عائق قانوني لاستصدار هذه التراخيص.
الموت وحالاته
كشفت "هيئة الصحة والسلامة المهنية" في تركيا، في تقرير نشرته الخميس الماضي، أن 16 لاجئاً سورياً في تركيا فقدوا حياتهم بسبب حوادث العمل منذ بداية العام الحالي 2022، مشكّلين بذلك العدد الأكبر من بين حالات الوفاة في حوادث العمل مقارنةً ببقية العمال اللاجئين من جنسيات أخرى في تركيا.
وتشكل هذه الحوادث التي تصيب سوريين على مدار السنوات الثلاث الماضية، أعلى نسبة أيضاً، إذ فقد 42 سورياً حياتهم نتيجة تعرضهم لإصابات خلال العمل في عام 2021. وأيضاً 48 سورياً فقدوا حياتهم في عام 2020. وفي عام 2019 توفي 40 عاملاً سورياً، أي ما نسبته 37% من إجمالي الوفيات بسبب حوادث العمل بين اللاجئين في تركيا.
وتنوعت أسباب الوفاة في أثناء العمل بين حوادث السير، والسقوط من المرتفعات، والنوبات القلبية ونزيف الدماغ، والإصابة بفيروس كورونا، والانتحار، والتسمم والاختناق، والعنف، والصعقات الكهربائية، والانفجار والحرق.
وبحسب آخر الإحصائيات الصادرة عن دائرة الهجرة التركية، بلغ عدد اللاجئين السوريين على الأراضي التركية، 3،762،481 لاجئاً سورياً. ويقدّر عدد العاملين السوريين في مختلف المجالات بنحو 860 ألف عامل، لا تتجاوز نسبة الحاصلين على إذن العمل منهم الـ10%، بحسب تقديرات وزارة العمل التركية، ويعمل غالبية العمال من السوريين في أعمال مختلفة مثل المعامل والورشات الصناعية بمختلف اختصاصاتها والإنشاءات وورش البناء، بالإضافة إلى العمل في القطاع الزراعي.
حقوق غائبة
يتجنب معظم السوريين الذهاب إلى مراكز الشرطة في مختلف الولايات التركية في حال تعرضهم للاعتداء من قبل مواطنين أتراك، خوفاً من الترحيل القسري إلى سوريا. وأدى عدم تسجيل العامل السوري ضمن قوائم وزارة العمل وحيازة الإذن الرسمي، إلى زيادة مخاوفه لأنه يُعد مُخالفاً للقانون، وهذا يمنعه من المطالبة بأدنى حق من حقوقه في حال تعرضه لإصابة ما خلال العمل، الأمر الذي يثير قلق عائلته أيضاً في حال مطالبتها بتعويض مادي إذا ما أدّت تلك الإصابة إلى وفاته.
فاطمة نجار، زوجة عامل فقد حياته في أثناء عمله في مدينة أضنة التركية، حاولت أن تطالب بتعويض يساعدها على إعالة نفسها وأولادها، لكنّ لا أحد يُساندها والقانون لن ينصفها، بل هي تخاف أن تهدر المال في قضية خاسرة تُضاف إلا خساراتها الكثيرة
ولا يستطيع العامل السوري اللجوء إلى القانون التركي للحصول على حقوقه نتيجة ما تعرض له من أضرار في أثناء عمله، لأنه يمارس عمله بشكل غير رسمي، وهو غير موجود في قيود الحكومة التركية.
وتكمن عوامل عدم استخراج إذن العمل للسوريين في عدم متابعة الحكومة التركية الأنظمة والقوانين الناظمة لسوق العمل ومعرفة الثغرات التي تمس هذا المجال، ومراقبة مدى التزام أرباب العمل بإعطاء العامل السوري حقوقه بالتأمينات ومنحه أذون عمل، بالإضافة إلى امتناع أصحاب العمل عن استصدار إذن العمل للعامل السوري، لأنه الآن يعمل بأجور منخفضة ومربحة بالنسبة إلى صاحب العمل. وفي حال دفع صاحب العمل تأمينات العامل، واستخرج إذن العمل له، ستزيد أجرة العامل كونه سيصبح ملزماً بدفع الحد الأدنى من الأجور للعامل، بالإضافة إلى التأمين الصحي وعدم قدرته على إنهاء عقد عمله وقيود أخرى.
كما أن هناك بعض العمال السوريين من المستفيدين من المساعدات المادية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي عبر الهلال الأحمر التركي، وفي حال تم استخراج إذن العمل وبطاقة التأمين الصحي لهم، سيتم قطع المساعدات المادية، وتالياً يمتنعون عن المطالبة بالتأمين والعمل بشكل رسمي.
عجز تام
تروي فاطمة نجار، وهي زوجة عامل فقد حياته في أثناء عمله في مدينة أضنة التركية عن وضعها ما بعد رحيل "سندها"، تقول: "زوجي فقد حياته بعد أن سقط من الطابق الرابع في أثناء عمله في ورشة للإنشاءات، وكونه لا يحمل إذناً للعمل ولا يعمل بشكل رسمي، لم نتمكن من الحصول على تعويضات من صاحب العمل".
أدى عدم تسجيل العامل السوري ضمن قوائم وزارة العمل وحيازة الإذن الرسمي، إلى زيادة مخاوفه لأنه يُعد مُخالفاً للقانون، وهذا يمنعه من المطالبة بأدنى حق من حقوقه
حاولت فاطمة أن تسأل عن حقوقها، عن إمكانية تحصيل تعويض لها ولأسرتها بسبب ما حصل لزوجها، تستطيع من خلاله إعالة أولادها الصغار إلا أن كُل مساعيها لم تصل إلى أي نتيجة، فـ"كل ما توصلت إليه هو أني لن أستطع تحصيل شيء، وإنما سأدفع أجور المحامي وأنتظر ربما سنوات حتى صدور قرار من المحكمة".
تضيف: "أطفالي الثلاثة غير قادرين على العمل، فأكبرهم عمرها 8 سنوات، وكوني غير قادرة على تركهم في المنزل والعمل لإعالتهم، قررت العودة إلى مدينة أعزاز حيث يسكن أقاربي. كان قراراً صعباً للغاية لكني مكرهة على العودة، إذ لا أملك خياراً آخر. وأعيش هنا مع والدي وأخوتي".
غياب التمثيل
لا تزال العمالة السورية في تركيا من دون أي إطار يتحدث باسمهم ويضمن وصولهم إلى حقوقهم، حيث لا يتم تطبيق حق العمل بالنسبة للسوريين، وتستطيع البيئة القانونية الممثلة للسوريين رفد جميع العمال الذي لم يستخرجوا أوراقاً قانونيةً لممارسة عملهم بشكل شرعي، وتقييدهم من قبل نقابات عمالية بشكل منظم بعد ممارسة عملهم لمدة زمنية معيّنة.
ويضمن وجود العامل داخل هيئة عمالية رسمية حقوقه حتى لو لم يكن في حوزته إذن للعمل وتأمين صحي، لكن هذا مرتبط بوجود لجان عمالية من السوريين، يتم تأسيسها بالتنسيق مع الهيئات الحكومية المختصة في تركيا.
يقول مدير تجمع المحامين السوريين في تركيا، غزوان قرنفل، لرصيف22، إن "أهمية وجود جسم رسمي يمثل العمال السوريين تكمن في إيجاد حلول للمشكلات التي يتعرض لها العامل في تركيا، وذلك من خلال توعية العمال السوريين لعدم قبولهم العمل من دون وجود تصريح قانوني، وأيضاً من خلال التواصل مع الجهات الرسمية لتسهيل عملية حصول العمال السوريين على إذن عمل".
ويضيف: "الأمر المهم الذي يجهله رب العمل التركي، هو أنه لن يتكلّف في دفع مبالغ إضافية للتأمين الصحي الخاص بالسوريين في حال استخراج إذن العمل وتسجيل العامل بشكل رسمي، لأنهم في الأصل يستطيعون نيل العلاج في المستشفيات التركية مجاناً، ونفقات العلاج مغطاة من الاتحاد الأوروبي، ولو كانت هناك جهة رسمية تستطيع شرح جميع التفاصيل للعمال وأرباب العمل، لكان واقع العمال مغايراً لما هو عليه الآن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...