شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
جنايات الفقه: حبس النساء في سجن المقدّس

جنايات الفقه: حبس النساء في سجن المقدّس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الأربعاء 20 يوليو 202210:20 ص

الحادثات المُفجِعات الأخيرة التي طاولت فتياتٍ ونساءً في أقطار عربية، في وقت متزامن، ليست تدبيراً منسّقاً اجتمع فاعلوه على نقطة صفر محدّدة، ولكنها حصاد لبذار قديمة زرعناها بأيدينا، ورويناها، واعتنينا بها، حتى أينعت وأورقت دماءً ومآسي.

قام الفقهاء بـ"هندسة" الرؤية الذكورية للمرأة، فرفعوا الأسوار، وزادوا من التضييقات التي تأسر المرأة وتكبّلها.

ومن الضروري حتى نفهم ما جرى، أو سيجري لاحقاً (وهو أمر متوقع في كل حين)، أن نعاين الشروط الثقافية والاجتماعية التي تحوّلت بفعل الهيمنة الذكورية إلى جزء من المنظومة الدينية، فأُسبغت عليها القداسة، ودخلت في النسيج النفسي للاجتماع العربي الإسلامي، وأضحت جزءاً من "التديّن الشعبي".

في هذه العملية الطويلة، قام الفقهاء بـ"هندسة" الرؤية الذكورية للمرأة، فرفعوا الأسوار، وزادوا من التضييقات التي تأسر المرأة وتكبّلها، حتى توصلوا إلى نتيجة، تَوافق عليها أغلب الفاعلين الدينيين من شتى المذاهب والنِحل والمِلل، مفادها أنّ بقاء المرأة في منزلها هو الحل، ومن يراجع "الأدبيات" الفقهية يجد غزلاً منقطع النظير بالمرأة التي تربّي أولادها، وتكنس الأرض، وتطبخ وتنفخ، وتتحمل المتاعب والأذى، بلا تبرّم، وفي نهاية النهار تتزيّن لزوجها، بعد أن تغسل قدميه، ليطأها، وإن لم تفعل، فإنّ الملائكة تلعنها، بدلالة حديث النبي: "إذا دعا الرجل امرأته في فراشه فأبتْ، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح".

لقد أنفق الفقه الإسلامي جلّ "جهوده" في الحديث عن المرأة، وهو حديث ليس ذا شجون، لأنه مفخّخ ومكتظ بالموانع والكواره والتحريم والتأثيم، فالمرأة، في الأدبيات الأكثر شيوعاً، هي رمز للنجاسة والغواية والفتنة والذنب، وهي ضلع قاصر، ولا تجوز شهادتها، ولا إمامتها، ولا رئاستها

"تفنّن" الفقهاء في حبس النساء في سجن النصوص. لقد أنفق الفقه الإسلامي جلّ "جهوده" في الحديث عن المرأة، وهو حديث ليس ذا شجون، لأنه مفخّخ ومكتظ بالموانع والكواره والتحريم والتأثيم، فالمرأة، في الأدبيات الأكثر شيوعاً، هي رمز للنجاسة والغواية والفتنة والذنب، وهي ضلع قاصر، ولا تجوز شهادتها، ولا إمامتها، ولا رئاستها. ويكفي أنّ نتذكّر أسطورة الخلق الأولى، وكيف أنّ المرأة تواطأت مع الشيطان، وكانت سبباً في نزول آدم من الجنة، ومكابدة الابتلاءات الدنيوية على مَر العصور وتقلّب الدهور.

"تفنّن" الفقهاء في حبس النساء في سجن النصوص.

في هذه البيئة، نشأ قاتل نيرة أشرف، وترعرع مُطلق النار على رأس إيمان إرشيد، وشبّ طاعن لبنى منصور أكثر من 14 طعنةً، وهي جرائم جرت في زمن متقارب، حتى ليظن المرء أنها سلسلة لن تنقطع، وهي لن تنقطع بالتأكيد، ما دامت موانعها رخوةً، فضلاً -وهذا هو الأخطر- عن أنها محمولة على "تقبّل" ديني، وتسويغ اجتماعي ذكوري، وخفوت في أصوات الناقدين، واستثمار دنيء من قبل تيارات "إسلاموية" رأت في الوقائع جميعها انتصاراً لفكرتها المأفونة المغلقة التي تحمّل المرأة وزرَ كلّ ما يحدث لها.

إذاً، نحن في مواجهة قوى ما تزال ترى في المرأة رمزاً للفساد والإفساد وتهديد الأخلاق: لو أنها كانت محجبةً، لما تمّ التحرّش بها، ولو أنها لم تخرج من منزلها، لما جرت مضايقتها والإساءة إليها أو الاعتداء عليها، ولو أنها لم تنشر صورةً أو "بوستاً" على مواقع التواصل الاجتماعي، لما تمّ التعرف إليها، واستظهار الأذى ضدها... إلى آخر المعزوفة التبريرية التي تتغافل عن أنّ المتحرش منحرف نفسياً واجتماعياً ومسلكياً، وأنّ المعتدي على فتاة، بسبب لباسها أو هيئتها، هو شخص هازئ بالقيم الإنسانية، متفلّت من الإحساس بالعواقب القانونية، ومحميّ بقوى معلنة وأخرى مختبئة في هيئة "جيوش إلكترونية" تزيّن له ما يفعله، وتَعدّه حافظاً للقيم، وحارساً للتقاليد، ومنافحاً عن العقيدة.

نحن في مواجهة قوى ما تزال ترى في المرأة رمزاً للفساد والإفساد وتهديد الأخلاق: لو أنها كانت محجبةً، لما تمّ التحرّش بها، ولو أنها لم تخرج من منزلها، لما جرت مضايقتها والإساءة إليها أو الاعتداء عليها، ولو أنها لم تنشر صورةً أو "بوستاً" على مواقع التواصل الاجتماعي، لما تمّ التعرف إليها، واستظهار الأذى ضدها...

وحتى لا يبدو الأمر وكأنه موعظة أو "خطبة جمعة" منزوعة الدسم، لا بد من إشارة إلى شوكتين طاعنتين في خاصرة الذات الفردية والجمعية للإنسان العربي والمسلم، هما النصوص المُغالية في تطرّفها في شيطنة المرأة، والثانية مرتبطة بها، تتصل بالمحافظة الاجتماعية الناجمة عن تأصّل الفكر البطريركي الذي يجعل للذكور اليد الطولى في أن يكونوا قيّمين على كينونة المرأة من رأسها حتى أخمص قدميها، ومن محياها إلى مماتها. إنها قيامة ساحقة ماحقة لروح المرأة تتغذّى على مزاعم الطهورية والعذرية، وتختزل النساء في أعضائهن التناسلية التي تجاوزت البيولوجيا، واستوطنت في الميثولوجيا وأقامت فيها، وراحت تضاعف قائمة الممنوعات وتسمّنها، حتى ظن الناطقون بلسان هذه الثقافة أنّ خصلة شَعر منسدلةً من جبهة المرأة كافية لتشعل نار الشهوة في بدن الذكور الذين جرى اختزالهم، بدورهم، في أنهم ليسوا أكثر من أعضاء ذكرية تناسلية تفكر وتقرر وتتدبّر!

في مجتمعات الكبت والحرمان تتناسل هذه "القيم"، ما يستدعي، إن رُمنا الحسم، ثورةً على الأسباب، واقتلاعاً للبذار من الأرض الخصبة التي لم تنجب جماعات تكفيريةً تتبارى في أيها أكثر توحشاً فحسب، بل خلقت في مسار متوازٍ فئةً لا يستهان بعددها ولا بعُدّتها، عابرةً للأجيال، تعتنق الأفكار الخارجة عن نظام العصر وناموس الحضارة، ولا تكتفي بالحديث المسهب الممل عن حجاب المرأة، بل تنشغل، حد إنفاق الوقت الطويل المرسل، في تحديد سماكة القماش، وهل يغطي أطراف الأظافر، وينسدل حتى يغدو سحابةً أرضيةً تكنس الثرى والرصيف والبلاط، وكل ما تطأه قدما المرأة. صورة كاريكاتورية، لكنها ثمرة الواقع، وأيم الله!

القَتَلة الذين ارتكبوا الجرائم المشار إليها، والذين سيرتكب غيرهم، بلا ريب، جرائم أخرى، هم الأبناء "الشرعيون" لهذه الثقافة العربية الإسلامية في المدى التاريخي المترامي على أكثر من 15 قرناً، شهدت بعض عصور النّور والإبهار الحضاري، لكنها في الأغلب الأعم، ظلت مصدّرةً لكل ما هو غريب ومستهجَن ونافر في قواعد الاجتماع الإنساني.

حتى ظن الناطقون بلسان هذه الثقافة أنّ خصلة شَعر منسدلةً من جبهة المرأة كافية لتشعل نار الشهوة في بدن الذكور الذين جرى اختزالهم، بدورهم، في أنهم ليسوا أكثر من أعضاء ذكرية تناسلية تفكر وتقرر وتتدبّر!

كلما التصق الاجتماع بالنصوص الدينية المغلقة، كان الحصاد الحضاري شحيحاً. وكلما انفصل، من دون أن ينقطع، كان العقل فيّاضاً بالإبداع الذي أثمر الفلاسفة، خاصةً أنصار الجدل والتفكّر بمن فيها المعتزلة وبعض المتصوفة، وتوّجه العلماء والمخترعون والمترجمون والموسيقيون ومهندسو العمارة الذين صهرتهم الثقافة بتجلياتها الزاهية وروافدها الثرية.

الحضارة شعّت عندما أخلص الناس للدنيا وفن العيش، وشرعوا في تأثيث الأرض بالجمال والخير والحق. ولما انقلبت الموازين، وحلّ العقل التقديسي المفرط للنصوص، وساد الفهم الحَرفي لمقاصد الشريعة، وخرجت البطريركية من قمقمها، تفرّغ أباطرة الفقه لتسويغ شهواتهم المنفلتة من عقالها، فوجدوا في المرأة الميدان الفسيح، كونها "حرثاً"، فأنتجوا "الشهوة المقدّسة" المحروسة بمآثر الأوّلين وغزواتهم الجنسية المظفّرة، فاتّسع السجن وما زال باقياً ويتمدّد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image