شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
تناولوا طعامهم وفي اليوم التالي ماتوا... عائلات سوريّة بأكملها ضحية

تناولوا طعامهم وفي اليوم التالي ماتوا... عائلات سوريّة بأكملها ضحية "الفطر"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

الثلاثاء 15 نوفمبر 202203:17 م

لم تكن الطفلة فاطمة، ذات الـ11 عاماً، تعلم أن مشاحنتها مع شقيقها على وجبة غداء قاتلة، وتركها الطعام غاضبةً، سينقذ حياتها من موت، أودى بحياة كثيرين من أقاربها الذين يعيشون ضمن بيوت وخيام متقاربة، في قرية أبو وحل، شرق محافظة الرقة، في شمال سوريا.

"تناولتُ قطعة فطر واحدة، ثم بدأ شقيقي بافتعال مشكلة معي على المائدة. رميتُ رغيفي وتركت الطعام"؛ بهذه الكلمات فقط، استطاعت فاطمة العطيوة، إحدى الحالات التسع الناجية، أن تختصر قصة وجودها في مشفى الرقة الوطني، بجانب 26 آخرين، توزعوا على مشفى "الفرات" و"الطب الحديث"، قبل أن يستقرّوا جميعاً في المشفى الوطني، منذ مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.

يتنقل أبو راكان، زياد العطيوة، ابن عم الأشقاء الثلاثة الذين تسمموا مع أسرهم جرّاء تناولهم فطراً ساماً، بين الأقسام الصحية للمشفى، للاطمئنان على أقاربه، ومن هناك نحو المقبرة لدفن من فقدوا حياتهم، ثم يعود أدراجه إلى المشفى للمبيت فيه، فالكارثة أودت بحياة 16 فرداً من أولاد عمومته وعائلاتهم، 10 ذكور ما بين 6 و40 سنةً، و6 إناث ما بين 6 و22 سنةً، إذ لم تكن العوارض مجرد تسمم غذائي، بل كانت ناتجةً عن تسمّم في الدم، أدى إلى فشل كلوي وكبدي ما أدخل بعضهم في غيبوبة قبل أن يفارقوا الحياة، ومن ضمن الوفيات أب وأطفاله الخمسة، أما أمهم فما تزال حالتها حرجةً إلى اليوم.

أثارت حادثة التسمم تضامناً شعبياً في المنطقة، واستنفاراً للكوادر الطبية في المشافي، وسط دعوات عبر مكبرات المساجد للتبرع بالدم

يقول أبو راكان، لرصيف22، معلّقاً على حالة زوجة ابن عمه الذي دفنه بجانب أطفاله الخمسة: "لا ندري كيف ستكون حال هذه الزوجة عندما تصحو من إصابتها، وتعلم بوفاة أسرتها بالكامل. لن تستوعب فقدهم، وربما تلحق بهم فوراً".

ما القصة؟

تعمل عائلات الإخوة محمد وخالد وحسن العطيوة، النازحة من منطقة السخنة في ريف حمص إلى قرية أبو وحل في الرقة، منذ العام 2017، في مهنتهم المتوارثة منذ القدم، رعي الأغنام. يقطعون يومياً مسافات بعيدةً لرعي الأغنام في أرض تتضمن نبات البرسيم، كانوا قد استأجروها مؤخراً، وخلال رعيهم قطف عددٌ منهم فطراً وتناوله، ومنهم من عاد بالفطر لتطبخه النساء. في اليوم التالي، وخلال ساعات الصباح الأولى، شعر كل من أكل الفطر، بآلام متفاوتة في البطن، قبل أن يسرحوا بغنمهم ويكملوا يومهم، إلا أنهم ومع انتشار السمّ وتمكّنه من أجسامهم، توجهوا إلى صيدلية قريبة، لكنهم فوجئوا بوفاة أول طفل لهم.

يتابع أبو راكان حديثه: "أولاد عمي أهل بر وبادية ورعي، وعلى علم واسع ودراية بخطورة الفطر والنباتات الصحراوية من صغيرهم إلى كبيرهم، خاصةً تلك التي تقبل عليها الأغنام"، مستدركاً: "لكن إذا وقع القدر عمي البصر، لأن من قطف الفطر ليس الأطفال فحسب، بل الكبار الذين عادوا به إلى المنزل لتطبخه نساؤهم".

وأثارت حادثة التسمم تضامناً شعبياً في المنطقة، واستنفاراً للكوادر الطبية في المشافي، وسط دعوات عبر مكبرات المساجد للتبرع بالدم اللازم لعلاج المصابين وخاصةً الأطفال، ويشير أبو راكان الذي تبرع بصفيحات دموية مرتين، إلى "أن قضية تسمم عائلات أقاربه حظيت بتفاعل شعبي وحزن كبير من الأهالي، إذ شهد مشفى الرقة الوطني إقبالاً كبيراً للتبرع بصفيحات دموية من كل الطوائف، عرب وسريان ومسيحيين وأكراد وآشوريين، حتى من كبار السن بالرغم من وضع بعضهم الصحي المتدهور، إلا أنهم أرادوا التبرع والمشاركة لإنقاذ حياة المتسممين، وخاصةً عائلة خالد، قبل أن يتوفاه الله برفقة أولاده الخمسة، وبقاء زوجته في حالة خطرة".

غياب الترياق

تواصل رصيف22، مع الطبيب عيسى النويران، من قسم الأطفال في المشفى الوطني في الرقة، الذي يؤكد على وصول 25 حالةً إلى المشفى، 4 منها من كبار في السن، والبقية أطفال، كانت حالتهم سيئةً جداً، من قيء وفقدان للوعي وهبوط في الضغط، وبشكل عام حالتهم تؤكد دخولهم في قصور كبدي حاد، مضيفاً أن "الكادر الطبي اتخذ الإجراءات اللازمة من نقل بلازما ومعالجة قصور الكبد، لكن التسمم مخاتل، فمن المعروف أنه في اليوم التالي تتحسن الحالة لمده 24 ساعةً فقط، ثم تعود للانتكاس والهياج الذي يشير عموماً إلى أن الحالة في لحظاتها الأخيرة، فالوفاة بالفطر السام حتمية، لأن التسمم يتمثل في ثلاثة عوارض خطرة: قصور كبدي، وقصور كلوي، وقصور تنفسي".

لا ندري كيف ستكون حال هذه الزوجة عندما تصحو من إصابتها، وتعلم بوفاة أسرتها بالكامل. لن تستوعب فقدهم، وربما تلحق بهم فوراً

من جهته، يستغرب الكيميائي الصيدلاني ممدوح الفهد، المطّلع على الحالات، حصول التسمم، واصفاً التسمم بالفطر بـ"النادر في مناطق الفرات، لأن أغلب سكان المنطقة يميزون بين أنواعه، لكن العديد من العائلات السورية النازحة إلى المنطقة لا تحسن تمييز أنواع الفطر".

ويشير إلى أن "الخطأ الحاصل في حالات التسمم الأخيرة، هو توجه المصابين إلى متدرب في صيدلية كان قد أخطأ في التشخيص وإعطاء الأدوية المناسبة لهم، ما أدى إلى وصول السم إلى الكبد مع مرور الوقت، وبدأت الوفيات تتوالى، خاصةً مع عدم توفر الترياق لسمّ الفطر ‘أستيل سيستين’ في المشفى".

ويلفت الفهد إلى أن "الأعراض تتفاوت حسب نوع الفطر، إلا أنها تتنوع ما بين الغثيان والتقيؤ وآلام البطن والإسهال والفشل الكلوي أو الكبدي الذي يؤدي إلى الموت، فضلاً عن بعض الأعراض التي تصل إلى تحلل الخلايا العضلية".

غياب الوعي

ينتشر الفطر في عموم الجزيرة السورية، بأنواع عديدة أبرزها "الأمانيت"، وهو من النوعية السمّية، فتناول 35 غراماً منه يؤدي إلى فشل كلوي وصولاً إلى الوفاة، كما ينتشر نوع فطري اسمه "عيش الغراب"، وينقسم إلى نوعين سمّي وغير سمّي، ومن الصعوبة جداً التمييز بين النوعين لتشابههما.

ينتشر الفطر في عموم الجزيرة السورية، بأنواع عديدة أبرزها "الأمانيت"، وهو من النوعية السمّية، فتناول 35 غراماً منه يؤدي إلى فشل كلوي

وبشكل عام، يمكن تمييز الفطر السام من خلال شكله ومكان نموّه، فالسام يتميز بلون ساقه الداكن وسماكته ووجهه العلوي الذي يكون على شكل إسفنج، بالإضافة إلى عدم احتوائه على شفرات من الأسفل عكس الفطر غير السام.

يقول رئيس مكتب البيئة في الرقة، محمد نور الإبراهيم، لرصيف22، إنه "خلال فحص موقع حادثة تسمم الأسر الثلاث تبين أن الفطر هو فطر نابت من روث الحيوانات"، مشيراً إلى أن "هناك فطراً قد يكون صالحاً للأكل، إلا أن البيئة التي ينمو فيها تحوله إلى فطر سام قاتل، فمن الضروري معرفة طبيعة البيئة التي تنمو فيها براعم الفطر".

ويضيف: "العائلات التي توفيت بسبب التسمم هي عائلات نازحة وغريبة عن المنطقة، وتجهل طبيعة الفطر وأنواعه عكس أهل المنطقة. والعمل بدأ لتجهيز حملات توعية مُنظمّة ومحاضرات وبرامج تستهدف الفئات المجتمعية، وتبيّن مخاطر استهلاك أنواع الفطر السام، والتعريف بها، وطرق الوقاية منها، والتعامل الصحي عند تناولها".

الطرق القديمة

بالتزامن مع الحادثة المفجعة في ريف الرقة، لم يكن الوضع أفضل حالاً في بلدة أبو حمام، في ريف دير الزور الشرقي، إذ تعرّض طفلان لحالة تسمم، في التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، نتيجة تناولهم فطراً ساماً من أحد الحقول الزراعية، قبل أن يُنقلا بحالة حرجة وتُجرى لهما الإسعافات اللازمة وغسيل معدة.

تروي المعمرة أم عياش (88 عاماً)، التي تعيش في ريف دير الزور الشرقي، معلّقةً على حوادث التسمّم المنتشرة بكثرة، "أن التمييز بين الفطر السام والصالح يحتاج إلى خبرة طويلة ومعرفة، إذ لا يمكن التكهن والمجازفة بالتمييز بين النوعين".

يتنقل زياد العطيوة، ابن عم الأشقاء الثلاثة الذين تسمموا مع أسرهم، بين الأقسام الصحية للمشفى، ومن هناك نحو المقبرة لدفن من فقدوا حياتهم، ثم يعود أدراجه إلى المشفى للمبيت فيه، فالكارثة أودت بحياة 16 فرداً من أقربائه

تقول: "أذكر أن والدي كان يلمس الفطر بطرف لسانه، ويحكم على جودته بهذه الطريقة، فغياب طعمه علامة على أنه مسموم، كما كان يشمّه ويحكم عليه من خلال رائحته، فالسام تكون رائحته كريهةً. لقد كان مستوى الوعي أكثر مما هو عليه الآن، إذ كان الأهالي يمنعون أطفالهم ومواشيهم من الاقتراب من الفطر حرصاً على حياتهم، ولم نكن نسمع كثيراً في ذلك الزمن عن حالات موت نتيجة التسمم بالفطر".

تستذكر أم عياش، أن الأهالي في الزمن القديم كانوا يجمعون الفطر بعد مطر البرق والرعد المتتابع، فهذه علامة على ظهور براعم الفطر الجيد، وأي نوع من أنواع الفطر ينبت قبل مطر الرعد والبرق في الشتاء فهو غير آمن، بالإضافة إلى الفطر الذي ينمو على مياه المجاري والصرف الصحي.

أما عند الاشتباه بنوع الفطر، فتشير إلى أن "البعض قديماً كان يأكل منه مقداراً بسيطاً جداً، مرةً في الصباح ومرةً في المساء، فإن حدثت تقيؤات وآلام في المعدة، فيُعدّ الفطر من النوعية السامة، بالإضافة إلى طريقة أخرى معروفة وهي من خلال استخدام الملح على الفطر، فإن تغيّر لونه إلى لون غامق فهو صالح للأكل، وإذا لم يتغير لونه أو تحول لونه إلى الأصفر فهو سام قاتل، ومن الطرق التقليدية أيضاً ملاحظة ثخانة ساق الفطر والتي تدل على صلاحيته للأكل، عكس الساق النحيفة التي تخرج منها مادة لزجة عند فصل الساق عن القبعة".

وما بين نجاح طرق أم عياش، وفشلها، يرى كثيرون بعد حادثة وفاة "نازحي السخنة"، أن الأفضل هو تفادي أكل الفطر البري إلا بعد التأكد من جودته وسلامته عبر متخصص علمي أو جهة مسؤولة، كي لا يواجه أي شخص مصيراً مشابهاً لمصير 16 فرداً فارقوا الحياة بعد معاناة مريرة آلمت كل من شاهدها وعاين الحادثة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image